«تَمَخَّضَ الجَبَلُ فولد فَأْراً». عبارة تردّدت كثيراً على وسائل التواصل تعليقاً على الهجوم الإسرائيلي الموعود على إيران. وهو بالفعل أفضل تعبير يمكن أن يصف الهجوم بعد كل تلك الزمجرة التي صدرت من الكيان وبلغت ذروتها في تصريحات وزير الحرب غالانت قبل أسبوعين حين قال إن هجومهم القادم على إيران سيكون «مُميتاً ودقيقاً ومفاجئاً، ولن يفهموا ما حدث وكيف حدث»! الواقع يكذّب غالانت، فالهجوم لم يكن مميتاً ولا دقيقاً ولا مفاجئاً، وإن الإيرانيين فهموا تماماً ما حدث وكيف حدث. المصادر العسكرية والسياسية في إيران تقول إن الهجوم كان ضعيفاً ومحدوداً وإن الدفاعات الجوية تصدّت له بنجاح وفاعلية. وأعلن الجيش الإيراني حصيلة خسائره في الهجوم وهم أربعة شهداء ذكرهم بأسمائهم، ما يهزّ أركان الرواية الإسرائيلية حول تدمير عصب صناعة المسيّرات والصواريخ والدفاع الجوي في إيران.

هل يصدّق عاقل أن إسرائيل نجحت في إصابة تلك المنشآت والمصانع العسكرية الإستراتيجية من دون أن ينتج من ذلك خسائر بشرية تذكر؟! حتى الإسرائيليون أنفسهم لا يشترون رواية حكومتهم حول تفاصيل ونتائج الهجوم وعبّروا عن خيبة كبيرة من هزالة هجوم جيشهم على إيران ومن تناقض كلام حكومتهم ما بين الأمس واليوم. الوزير السابق أفيغدور ليبرمان اتهم الحكومة الإسرائيلية بـأنها «بدلاً من تحصيل ثمن حقيقي، تكتفي بحب الظهور والعلاقات العامة». أما زعيم المعارضة يائير لابيد، فقال: «كان يتعين علينا تكبيد إيران خسائر أفدح». وقال عضو الكنيست فلاديمير بيليك إن «هناك فجوة عميقة بين تصريحات نتنياهو وأعضاء حكومته والنتائج على الأرض». وانتشر بين الإسرائيليين تعليق ساخر لمراسل قناة كان الإسرائيلية روعي كايس قال فيه: «لو كنت أنا خامنئي، لعدت إلى النوم، وتحقّقت مما حدث في الصباح».
ذلك كله لا يعني أن الهجوم لم يكن جدياً أو أنه لم يُصِب أي هدف داخل إيران. لا شك أن بعض المواقع العسكرية هوجمت ولحقت بها خسائر. لكن إيران بلد كبير وشاسع الأطراف وقدراته العسكرية ضخمة جداً ومنشآت الصناعة الحربية فيه محصنة وموزعة على أماكن كثيرة جداً داخل البلاد، وبالتالي فهجومٌ مدته لا تتجاوز أربع ساعات لا يمكن أن يحقق أي هدف حقيقي أو يؤثر في قدرات إيران وإمكاناتها. ومن هنا كلامنا عن الفشل والخيبة. لا إنجازات على الإطلاق لهذا الهجوم، لا إيران خائفة، ولا ارتدعت ولا غيّرت سياستها ولا أهدافها. بل على العكس من ذلك، الرد الإسرائيلي الباهت والضعيف أظهر للإيرانيين، قبل غيرهم، نقطة ضعف الكيان وأنه لا يجرؤ وحده على الدخول في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع عدوٍ قادرٍ وكفؤ كالجمهورية الإسلامية.
منذ عقدين أو أكثر يسكن هاجس إيران عقل نتنياهو. الدوائر الأمنية والسياسية حدّدت إيران الخطر الإستراتيجي الرئيسي الذي يهدد وجود الكيان منذ خروج مصر من المعادلة بعد معاهدة كامب ديفيد في أواخر السبعينيات. في اللحظة التاريخية (1979) التي خسرت فيها قضية فلسطين مصرَ، جاءت الثورة الشعبية في إيران لتعوّضها عن تلك الخسارة بعد أن أعلن نظام الجمهورية الإسلامية الجديد التزامه بفلسطين وقضيتها وبالقدس وتحريرها وأتبعَ أقوالَه بالأفعال وتحوّلت إيران إلى الداعم الأول لكل حركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني في المنطقة، ناهيك بموقفها السياسي الرافض للاعتراف بشرعية الكيان من حيث المبدأ. بفضل إيران بقي هناك في المنطقة من يستخدم عبارة «الكيان الصهيوني» وبقي هناك من يؤمن بحتمية زوال هذا الكيان الذي قال عنه مؤسس نظام الجمهورية الإسلامية إنه «غدة سرطانية لا بد أن تُستأصل». صار «قطع رأس الحية» في المنطقة، كما يقول قادة الكيان السياسيين والعسكريين، أهم هدف إستراتيجي يسعون إلى تحقيقه ليل نهار، خصوصاً وهم يشاهدون تطوّر قدرات إيران العلمية والتكنولوجية والعسكرية منذ انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، واعتمادها التام على الذات، وبرنامجها النووي المتصاعد. في نظر نتنياهو وقادة المؤسسات الصهيونية في الكيان، قطع رأس الحية، أو الأخطبوط، يعني إسقاط النظام القائم في إيران، وسوف يؤدي إلى ضربة ساحقة ماحقة لكل القوى المعادية للكيان في المنطقة وسيجعلها عاجزة عن الاستمرار وتشكيل أي تهديد جدّي لمستقبله.
لكن مشكلة الكيان في عقلانيته. يرى نتنياهو وقادة المؤسسات الصهيونية الخطر الماثل أمامهم من دون أن يستطيعوا مواجهته بشكل مباشر. بأسلوبٍ علميّ بحت وبحسابات القوة والإمكانات، يدرك نتنياهو أنه ليس بمقدور الكيان لوحده الدخول في حرب مفتوحة مباشرة مع إيران لأن ذلك يحمل في ثناياه إمكانية الفناء ودمار الكيان. إيران بلد شاسع وأمة كبيرة لها تاريخ عريق في مواجهة وتحمّل المحن وأصعب الظروف، خلافاً للكيان الإسرائيلي المحدود المساحة وقليل العدد والذي لا يمكنه تحمّل ضربات عسكرية كبيرة ومتواصلة.
إستراتيجية نتنياهو في مواجهة إيران يمكن تلخيصها بكلمة واحدة: التوريط. بنظره، وحدها أميركا قادرة على الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. لا بد أن تأتي أميركا، ليس لتدافع عنا فقط بل لتقود حربنا على إيران. ولكن أميركا دولة كبرى وقوة عظمى وليست طوعَ بنانِه. صحيح أن أميركا تدعم الكيان بالسلاح والمال وتحميه سياسياً، إنما ذلك كله ناتج من حسابات مصلحة وربح وخسارة تقوم بها المؤسسات الأميركية التي ترى في الكيان قاعدة مهمة لها في قلب الشرق العربي يمكن استعمالها لتحقيق مصالحها وضمان استمرار هيمنتها. المسألة ليست أن أميركا أو رئيسها يتلقى أوامر من نتنياهو أو من اللوبي اليهودي، كما قد يظن البعض. أميركا هي الأصل، وإسرائيل الذيل. أميركا هي الأب الراعي، وإسرائيل هي الولد. من هذا المنطلق تتصرف أميركا؛ هي تحمي إسرائيل وتحرص على دعمها عسكرياً وإستراتيجياً عندما تتعرض للأزمات، بغض النظر عمّن يحكم في إسرائيل، وحتى لو كانت غاضبة منه أو عليه. تسربت أخيراً أخبار كثيرة جداً عن الرئيس الأميركي بايدن وكيف يصف نتنياهو بأقبح الألفاظ السوقية التي لا تصلح للنشر في وسائل الإعلام المحترمة. على المستوى الشخصي هو لا يطيق الرجل ولا يكنّ له سوى المقت. نتنياهو، بدوره، يفهم طبيعة العلاقة مع أميركا وأنه مهما حصل من خلاف أو اختلاف مع الرئيس فلن يمكنه أبداً الانفكاك من التبعية للسياسة الأميركية عندما يتعلق الأمر بالمستوى الإستراتيجي على مستوى المنطقة. يعرف نتنياهو الهامش المتاح له وحدود المناورة الممكنة في علاقته مع الرئيس. «طوفان الأقصى» وهجوم «حماس» المباغت والساحق أعطى نتنياهو فرصة ليُمارس عدوانيته وحربه الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني وهو مُغطى أميركياً. لا ننسى أن نتنياهو ينتمي إلى حزب «الليكود» الذي هو أصلاً امتداد لحركة زئيف جابوتنسكي الصهيونية الدموية (كان أبوه، بن صهيون نتنياهو، تابعاً مخلصاً لجابوتنسكي). أفكار جابوتنسكي قبل مئة عام حول «أرض إسرائيل» التوراتية وحول تقديس «القوة اليهودية» منغرسة في دماغ نتنياهو ويعبّر عنها في عام 2024 ولكن مع تغيير في الأسلوب. «طوفان الأقصى» أعطى نتنياهو فرصة ليحصل على دعم عسكري واقتصادي أميركي غير مسبوق بالرغم من خلافه مع الرئيس الذي يرى أن عليه واجب رعاية إسرائيل وحمايتها في ظروف تهدد وجودها، بغض النظر عن نتنياهو.
في ما يتعلق بإيران، يبذل نتنياهو أقصى الجهد لتوريط أميركا معه في حرب مباشرة معها. لكن الكلمة الأخيرة ليست له. يرى بايدن ومؤسسات الدولة العميقة في أميركا أن «مشروعاً» عسكرياً أميركياً في إيران هو آخر ما يحتاجونه الآن. بالكاد، وبأسلوبٍ مهين، خرجت أميركا من مشروعها الأفغاني الفاشل. وما زالت أميركا تتعامل مع كارثة احتلال العراق وما تعرضت له من خسائر هائلة بشرية واقتصادية. فما بالك بإيران، التي هي أكبر وأقوى بكثير من البلدين معاً. تدرك أميركا مدى الكارثة التي ممكن أن تحدث في الشرق الأوسط كله من جراء أي هجوم على إيران التي لا تنقصها القوة ولا الإرادة للصمود والانتصار. لذلك كان بايدن صارماً في وضعه الخطوط الحمراء لنتنياهو: لا نريد حرباً إقليمية واسعة مع إيران. ولن نسمح لك بأن تجرّنا معك إلى ما لا نريده. الأمر محسوم.
أُسْقِطَ في يد نتنياهو، وسلّم، فجاء هذا الرد الباهت الضعيف، فقط ليحفظ ماء الوجه وليقول: أنا هنا، أنا موجود، وقد هاجمتُ.
* كاتب من الأردن