هذا تماماً ما حصل معي وأنا أستمع إلى كلام صديق قديم يعبّر عن ملاحظاته وانتقاداته، ويحاكم بعقل بارد ودم أبرد تفاصيل الفعل المقاوم في 7 أكتوبر، ثم أقارن بين موقفه هذا وانبهاره الصارخ بشخصية V في V for vendetta يوم شاهدنا الفيلم معاً ذات أمسية، فكان يفيض إعجاباً بمبادرة V للثورة حتى وهو يفجّر المباني، ويعرّض الأبرياء للموت!
ما الذي يجري هنا؟ تساءلت، وكيف تحوّل انبهار صديقي بالبطل المقاوم عبر الشاشة إلى سيل من أسئلة الجدوى، والملاحظات التي لا تنتهي عن فوضوية الحركات المقاومة في بلادنا، ومخاوف تهديدها الاستقرار والأمن والنظم القائمة؟
في عالم الخيال، عبر الشاشة وبين صفحات الكتب والروايات، لا يكاد يختلف اثنان على الحكم، إلا نادراً. يتعاطف الجميع مع الفارس الشجاع المكلّل بالطهر والغار، وتسيطر هالة الخارج على الظلم البراقة على الأبصار، ولكن ما إن تصل الأمور إلى عالم الواقع حتى تبدأ هذه الصورة عند بعضهم بالذبول، فيتحول المقاوم من رمز للشجاعة إلى شبح من القلق. تتلاشى المسافة المريحة التي يوفّرها الخيال، ليحل محلها القرب المزعج لاحتمال خروج الاضطرابات عن مساراتها البعيدة، ودخولها في مجال حيواتنا الخاصة.
وهكذا تزداد التناقضات والانحيازات في تشكيل المواقف، فيتعاطف الجميع مع وينستون سميث في «1984» وجان فالجان في «البؤساء»، ويهتفون بحماس لـ V، في حين تنهال منهم الأحكام السلبية تجاه الضيف والسنوار وإخوانهما.
سأحاول في الآتي، وعلى سبيل إضاءة شمعة، تلمّسَ جذور هذا التفاوت من دون ادّعاء الإحاطة بكل جوانب هذا البحث الذي يحتاج إلى جهد وصبر، وإلى إمكانات المتخصصين في غير مجال، ولست منهم في كلّ حال.
هوليوود وماكينة الإعلام الغربي
لطالما أدّت هوليوود، كجزء من ماكينة البروباغندا الغربية، دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام العالمي، وهو تأثير يمتد -ولو بنسبة أقل في بلادنا- إلى حركات المقاومة والنظرة إليها. وذلك عبر استخدام القوالب النمطية والسلبية في تصوير بعض الشخصيات استخداماً متكرّراً ومدروساً وناعماً، وعبر اعتماد سرد الأحداث الأحادي الذي يتجاهل بشكل فاقع السياقات التي سبقت لحظة الأكشن.
في مشهد من فيلم American Sniper - إخراج كلينت إيستوود، يُظهر الفيلم طفلاً عراقياً وهو يلتقط قاذفة صواريخ، ويرفعها في اتجاه القوات الأميركية. في المشهد نتابع صراع القناص كريس كايل الداخلي وهو يحاول أن يحسم قراره: هل سيقتل الطفل بهدف حماية زملائه أم لا؟
بعيداً من السردية المعطوبة التي تصوّر العرب هنا، حتى الأطفال منهم، مصدراً للتهديد، لا تفوت هوليوود فرصة إلا وتستغلها في تعزيز صورة السوبر هيرو الأميركي، فهو البطل الذي، حتى حين يقتل طفلاً، يرتكب الفعل بمبرّر أخلاقي.
ليس في المشهد هنا غزاة دمّروا بلداً وشعباً كاملين بحجّة كاذبة اسمها أسلحة الدمار الشامل، وليس في المشهد طفل انتهكت طفولته، ونزلت على رأسه ورؤوس أهله ورفاقه وشعبه آلاف الأطنان من المتفجرات، لا مكان في المشهد الهوليوودي للظروف الإنسانية أو التأثيرات النفسية، أو المبررات الأخلاقية التي تدفع طفلاً إلى حمل الآر بي جي، ولا هامش حتى لتقف فيه فضيحة كبرى اسمها معتقل أبو غريب، ففي عدسة المخرج الأميركي صورة واحدة فقط يجب نسخها ولصقها في لاوعي المشاهد الواقع تحت تأثير إبهار الشاشة الفضية الهائل، وهي صورة الشرير، أي التهديد الدائم والعدو المحتمل في مقابل المعضلة الأخلاقية لكريس كايل.
ضمن السياق الدعائي ذاته، يمكن فهم فيلم Black Hawk Down وهو يصوّر الجنود الأميركيين أبطالاً محاطين بجماعات صومالية عدوانية، وغوغائية، وغير منظّمة، وتسعى إلى مهاجمتهم. خلال مشاهد القتال في مقديشو، أو في مشهد إسقاط طائرات الهليكوبتر، سيقف المشاهد أمام تصوير نمطيٍّ لطرفين، الصوماليين كحشود من المجرمين والهمج وعصابات عدوانية غير منظّمة بلا دوافع سياسية أو أهداف حقيقية، ومدفوعين بالعنف لمجرد العنف، في مقابل الجنود الأميركيين كأبطال يقاومون الهجوم غير المبرر، ويحاولون فقط الدفاع عن أنفسهم.
بموازاة بروباغندا هوليوود، يميل الإعلام الغربي إلى التغطية المنحازة؛ إذْ تُصور المقاومات العربية إرهابيةً، في حين يُصوَّر الإرهاب الإسرائيلي دفاعاً عن النفس. وتلجأ بعض وسائل الإعلام أيضاً إلى نشر معلومات مضلّلة تقولب الوعي والرأي العام في عملية يصعب بعد ذلك عكس نتائجها.
هل نسينا ما حدث قبيل حرب العراق؟ وكيف استخدمت الحكومة الأميركية وسائل الإعلام لنشر رواية أسلحة الدمار الشامل كي تبرّرَ التدخل العسكري، وما شكّله ذلك من رأي عام عالمي جارف مؤيد للحرب؟! هل نسينا الدعايات الصهيونية التي تلت عملية «طوفان الأقصى» عن قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكيف يمتد تأثيرها حتى الآن برغم ثبوت كذبها وبطلانها؟!
ترسبات السياسة والقومية والطائفية والأيديولوجيا
من كان يتصور أن يخرج من بين ظهراني هذه الأمة العربية والإسلامية من سيشمت بقتل مقاوم عربي مسلم؟! من كان يتصور أن يعبّر عرب عن مشاعر التشفي لمقتل عربٍ بأيدٍ إسرائيلية؟!
كيف وصل بنا الأمر الى هذا المنزلق؟!
مع دخول أول جندي أميركي العراق، ومع إسقاط تمثال صدام حسين الشهير في ساحة الفردوس ملفوفاً بالعلم الأميركي، كانت الأمة تفتح واقعها على سلسلة من الشروخ التي ستودي بها إلى هذا الجب. ومع إعدامه فجر يوم الأضحى، كان المخرج الأميركي يضع نقاط المشهد الأخيرة، هذا المشهد الذي سيمتد طويلاً: «الربيع العربي»، صعود «الإخوان» وريمونتادا العسكر، «داعش» وأخواتها، مستنقع الوحل السوري، «صفقة القرن» وزمن التطبيع.
لبنانياً، لم تكن الأمور أفضل حالاً، كنت طالباً في السنة الجامعية الأولى حين سمعنا دوي الانفجار الذي أودى يومها بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، سريعاً وصل الخبر إلى القاعة، فوقفت مشدوهاً أمام المشهد / المشهدين اللذيْن رأيت فيهما تفاعل زملائي الطلاب مع الخبر إما حزناً وإما فرحاً. كرّت سبحة الأحداث بعد ذلك سريعاً: اغتيالات لا تنتهي، حرب تموز، أحداث أيار، «داعش» تقرع الباب، مستنقع الوحل السوري مجدداً (بشقه اللبناني هذه المرة)، الانهيار، 4 آب.
في كل محطة من هذه المحطات (وغيرها الكثير مما لا يتسع له المقال) كانت حفلات الشماتة والتشفي تزداد حدة، والشرخ يزداد اتساعاً.
مع كل هذه العوامل المثيرة للغرائز البدائية، كان يجب على أحد ما أن يتوقع قتامة واقع رديء قادم، كأن تخرج أصوات عربية لتتماهى بشكل فاقع مع الأصوات الإسرائيلية الشامتة بمقتل مقاوم عربي.
تعمّقت الانقسامات أكثر، وأضيف إلى الخلطة السامة الكثير من بهارات القومية والطائفية والتوجس والخوف ونبش قبور التاريخ، ازدادت الصورة تعقيداً، وها نحن ذا نقف في عمق هوة يُصبح فيها دعم المقاومة مرتبطاً بالانتماء السياسي أو الطائفي أو القومي أو العرقي أو الأيديولوجي، بدلاً من المبادئ الأساسية والقيم الإنسانية والأخلاقية.
منطقة الراحة والمسافة الآمنة
يسهم الإبهار الفني في الكتب والروايات والمسرحيات وغيرها من الفنون، في زرع بذور التعاطف حتى مع شخصيات مهووسة مجرمة كشخصية جوكر الشهيرة، أو شخصية إيفان في رواية We Need to Talk About Kevin التي تحولت إلى فيلم يحمل العنوان نفسه؛ إذْ سيجد القارئ نفسه متعاطفاً مع شخصية إيفان الشاب الذي يرتكب مجزرة في مدرسته. يعود ذلك إلى تعمّد الكاتب التركيز على إبراز صراعات الشخصية النفسية، وتجاربها الداخلية، واعتماد السرد من وجهة نظرها، وهذا ما يضفي عليها بعداً إنسانياً، ويقدّمها للجمهور ضحيةً لا جلاداً.
واذا كان الأمر كذلك مع شخصيات يجب أن تقع خارج نطاق التعاطف الإنساني، فكيف بالحري مع شخصيات تمثّل أنقى ما في الإنسان من خصال التضحية والإيثار ورفض الظلم.
غير أنه، وبرغم بديهية الأمر من الناحية النظرية، فهو يتحوّل إلى تحدٍّ عندما تصبح الأحداث ضمن سياقها الواقعي فتمسّنا شخصياً، ويتداخل واقعها مع واقعنا كأفراد، حينها تختفي المسافة الآمنة التي تسمح بالتعاطف من دون تبعات شخصية، أو عواقب مباشرة، ومن دون حاجة إلى المساهمة في فعل التضحية. لذا، وكآلية دفاع نفسي، يتحوّل الأبطال الذين يقاتلون من أجل الحرية والعدالة إلى مثيري فوضى، أو إلى تهديدات تستدعي اتخاذ موقف سلبي منهم.
هذا الاحتيال النفسي الذي يجعل من الأسهل على الناس التماهي مع أبطال الخيال بدلاً من مواجهة الحقائق المعقّدة في واقعهم ينطبق أيضاً عند الحديث عن الشخصيات، أو حركات المقاومة التاريخية، فيطغى الطابع الملحمي، وتختزل الصورة في رومنسية مفرطة لا تترك موطئ قدم لتعقيدات تلك الأحداث في زمنها، في حين يصعب على الناس رؤية الحركات المعاصرة بالعدسة نفسها.
ختاماً، يجب القول إنّ هذا التناقض الصارخ بين الاحتفاء الرومانسي الفطري وغير المشروط الذي سيظهره كل إنسان سوي تجاه فكرة المقاومة كمفهوم مجرد، ومروحة المواقف المتردّدة في دعم نماذجها الواقعية التي تبدأ عند بعض التحفظات والملاحظات، وقد لا تنتهي عند مستوى التعبير الصريح عن الخصومة أو العداوة الكامليْن، إنما هو تناقض يجب أن يُشبَعَ دراسة وتحليلاً، وذلك ضمن ورشة ضرورية لا مهرب منها إلا إلى الهاوية التي تفتح فمها بشراهة في انتظارنا جميعاً، ويسلط الضوء على مسؤولية مزدوجة تقع على عاتق كل واحد منا كفرد من المجتمع من جهة، وعلى حركات المقاومة نفسها من جهة أخرى.
تقع على حركات المقاومة المسؤولية الكبرى والأهم في تجاوز العقبات التي فرضها العقدان الأخيران من الخراب، أو التي أنتجها التورّط في الوحول، والعمل على إعادة تقديم نفسها
في منطقة محكومة بلعنة اسمها إسرائيل، يتحمّل الأفراد مسؤولية التحرر من قيود الأفكار الناعمة التي زرعتها الميديا في عقول بعضنا، مسؤولية التقارب والتعارف في مجتمعات تنبت فيها المتاريس كما لا ينبت الشجر، مسؤولية تقييم الموقف بميزان الأخلاق لا بميزان المناظرة، وتبعاً لمبادئ العدالة والحق والحرية لا تبعاً للمبادئ السياسة، إضافةً إلى مسؤولية تجزئة ما يبدو مشهداً واحداً إلى مشاهده المتعددة. فالموقف السلبي الذي قد يحمله فلان تجاه «حماس» كصورة عن إسلام سياسي يخيفه ولا يقنعه لا ينفي عنها صفة حركة المقاومة التي وجدت نفسها في لحظة تاريخية من مسار يتجه بسرعة هائلة نحو تصفير قضيتها العادلة، ومحشورة بين أن يخسر الشعب الفلسطيني غزة بالحصار والتجويع كما خسر حتى الآن أكثر من نصف الضفة بالقضم والاستيطان والحل السياسي، وبين أن تقلب الطاولة. وموقف صديقي السلبي من الدور الذي أدّاه حزب الله في الحرب السورية، أو الذي يؤديه ضمن حلبة السياسة اللبنانية ومستنقعها الوسخ لا ينفي عنه صفة المقاومة التي حررت أول أرض عربية بالقوة، ولا تزال تشكّل إلى الآن، في غياب دولة حقيقية وجيش قادر واستراتيجية دفاعية مؤجلة، الضمانة الوحيدة لردع غول متوحش يتربص بنا ويرى أن لبنان الـ 10452 كم2 حقه التاريخي.
من جهة أخرى، تقع على حركات المقاومة المسؤولية الكبرى والأهم في تجاوز العقبات التي فرضها العقدان الأخيران من الخراب، أو التي أنتجها التورّط في الوحول، والعمل على إعادة تقديم نفسها ليس كمجرد فاعل سياسي أو عسكري فحسب، بل كحالات إنسانية متعالية، وحركات تحرّر وطني عابرة لاختلافات الزواريب. وهذا يتطلب إجراء مراجعة تتّسم بالكثير من الصدق مع الذات، والشجاعة في التوصيف، والوضوح في الرؤية، وعدم التردّد في إجراء الجراحات اللازمة، كما يتطلب الكثير من التفكير خارج الصندوق في كيفية إمكان رأب الصدوع، وإصلاح الشروخ النفسية والاجتماعية التي لو استمرت في الاتساع فستبتلع المنطقة كلها، بما فيها المقاومة وخصومها، من دون أن يستطيع أحد ردّها.
ومن يدري؟ أليس من الممكن جداً أن يكون هذا السيناريو، لا الحروب ولا الأساطيل، هو مخطط لاعب الشطرنج الغربي الحقيقي الذي يسبقنا بخطوة، ويدفعنا جميعاً نحو عملية التدمير الذاتي، ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً؟
نحن أمام لحظة تاريخية تفرض على الجميع الاختيار: هل نتمسك بالمقاومة قيمةً إنسانيةً عابرةً للطوائف والسياساتِ، أم نتركها لتغرق في مستنقع المصالح الضيقة والأهواء العابرة؟ الخيار لنا، والمسؤولية علينا.
* كاتب