في الضواحي والعبور
إذا كان من ظاهرة تستأهل الدراسة في القرن العشرين فهي ظاهرة الريف كقوة سياسية. وإذا كان من قوة تستأهل الدراسة في النصف الثاني من القرن العشرين فهي قوة الخيال السياسي للريف. كانت «كهربة الأرياف» في الاتحاد السوفياتي (مشروع غويلرو) سنة 1936 الترجمة الفعلية للشيوعية هناك (عرّف لينين الشيوعية بأنها سلطة السوفيات + كهربة البلاد). وكان الريف في النصف الثاني من القرن الماضي القوة الأكثر فعالية في منطقتنا، إذ شكّل الخيال الريفي نُظُم الحكم ودعائمه في عالم الجنوب منذ أوائل السبعينيات؛ في العراق وسوريا (مع البعثَين)، في إيران بعد ثورة 1979 (انتصر النموذج الريفي من الثورة الإيرانية على ما سواه بعيد عام 1981)، في أفغانستان وباكستان كان الريف يعيد صوغ المدينة وخيالها السياسي. وعلى عكس النموذج السوفياتي الذي عمل على تمدين الريف و«كهربته»، كان النموذج الليبرالي يستجلب الريف إلى ضواحي المدن وهوامشها طمعاً في المزيد من فائض عمله. الأمر يشبه إلى حد بعيد فكرة ارتحال رأس المال إلى الصين طمعاً بمزيد من الكسب والربح، ولكن بصيغة محلية. وبدل ارتحال رأس المال تم ترحيل الريف بكل ما فيه إلى حواف المدن. وهناك، كان الأخير سريعاً ما يتشكل كقوة سياسية تتهدد قلب المدن ونظمها.
في لبنان، كانت حركة أمل أول امتثال لهذه الظاهرة، فيما لعبت حركة المحرومين دور التشكل السياسي الأول للجسد الريفي المقهور بصيغته الشيعية (لا أحبذ الافتراضات الأحادية الوجهة، ولكن لو قُدِّر للإمام الصدر - ربما - إكمال تجربته السياسية لاتخذت حركة المحرومين، ثم حركة أمل، وجهة «فوق شيعية»). عمل موسى الصدر على استيعاب القوة الريفية في فضاء المدينة عبر مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتعليم وعبر إعادة هندسة تدفقات النزوح الريفي إلى ضاحية بيروت الجنوبية. حركة أمل كانت هامش الشيعة في العمل عند تخوم المدينة. و«مدينة الزهراء» التي أصبحت في ما بعد الجامعة الإسلامية، في خلدة، جسدت الفضاء المكاني لمعنى التخوم (يمكن قراءة مدينة الزهراء أنثروبولوجياً كعتبة أو فضاء ناقل للأجساد من الريف الجنوبي إلى تخوم العاصمة مدة السبعينيات). ولأن الأزمة «المدينية – الريفية» كانت أكبر من الاحتواء، ولأن الريف صار أواخر السبعينيات ضواحٍ تتهدد المدن هوياتياً، ولأن خطاب الهويات الكبرى (الدينية والقومية) كان عالمياً وأعصى من أن يُحتوى منذ أواسط السبعينيات، لم تستطع الحركة منع انفجار القوة الشيعية مجدداً فوُلد حزب الله.
حزب الله: بركان تفجَّر
قلة هي الدراسات التي تناولت حزب الله أنثروبولوجياً لناحية أسلوب حياة أفراده وخيالهم السياسي. كان أكثر ما لفتني، عشية إعلان شهادة السيد فؤاد شكر، عهده مع أصدقائه مدة شبابهم، على قتال إسرائيل حتى الشهادة. ما معنى أن يتعاهد عشرة شباب في مقتبل العمر في واحدة من أفقر ضواحي بيروت (منطقة الأوزاعي) على قتال إسرائيل حتى الموت؟ منعاً للالتباس، نحن هنا نقرأ حزب الله عبر بُعد واحد من أبعاده.
في كتابه «الباب: مقاربة إثنولوجية» يقدم باسكال ديبي تاريخاً سياسياً للباب ووظائفه في المدينة. فمن الربع الأول من القرن التاسع عشر، أي منذ أن أدرك تجار الأراضي في باريس أن بناء عمارات في أحياء باريس الجديدة - بدلاً من البيوت الفردية - أفضل لهم، بدأ التاريخ السياسي للباب في مدننا المعاصرة. كان اجتذاب الطبقات العليا إلى نمط من المساكن الجماعية يقتضي الاهتمام بالأبواب، والخدم المتخصصين في فتح باب العمارة للحفاظ على التقاليد البرجوازية، وكان على المقاولين في باريس الاتفاق مع المعماريين لإقامة مسكن صغير غير مرئي مُدرج جمالياً في طراز العمارة، ولكنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بعمليات المرور «من وإلى المسكن». هكذا صار تاريخ المدينة في العالم تاريخ أبوابها ليس إلا. في السجون شكلت الأبواب الحديد المستدخَلة في تلك المدة نفسها، عتبة أخرى من عتبات الصراع لمراقبة الأجساد وللتحكم في الزمن الخاص بالمرء في المدينة. وهكذا ارتبطت فكرة الباب بالحماية، ثم بالخصوصية، ثم بخوف المالكين من المستأجرين والصراع على الملكية، ثم بالصراع على الأخلاق بين البروليتارية والبرجوازية، ثم بتاريخ القسمة بين الوطني وغير الوطني (غالباً ما يكون حراس الأبواب من بلد آخر). إلى أن اهتدى «خطاب الأبواب» إلى الدلالة الأمنية للمسألة. يحرص رجال الأمن عادة على وسم أنفسهم بحراس الأبواب. في إسرائيل كان حراس الأبواب مادة لدرور موريه في فيلمه «the Gate keepers»، ولكن أبوابهم لم تكن يوماً مسألة جغرافية ولا حتى داخلية. إذا فهمنا المعنى من وجود إسرائيل في عمقه، فإن احتلال فلسطين لم يكن غير واحد من تجليات «المهمة القذرة» للصهيونية. فمهمّة إسرائيل في عمقها تكمن في إعادة إنتاج مدننا بأبواب مؤصدة، تُحكم أبوابها في وجه الفقراء والمحرومين وأبناء الريف المتعبين، وتمارس حق عدم الضيافة ورفض من هم من غير المجموعات الموسورة. لذا كانت ولادة حزب الله في الضواحي المُعدمة، في جنبة من جنباتها، تعبيراً عن رفض هذا الشكل من المدن أو النُظُم. لم يكن على أبناء الأوزاعي أن يبحثوا في معاجم الصراع الطبقي ليعرفوا أن ثمة علاقة ما بين إنزال القوات الأميركية على شاطئهم سنة 1958 (من قبل أن يكونوا نازحين في الأوزاعي) والنظام السياسي في بيروت الذي استبقاهم عند حواف المدينة وضواحيها. في الضواحي تفجر غضب الثمانينيات، وتلك كانت ظاهرة عالمية. وبمثل ما كانت ضواحي مكسيكو، وساو باولو تزدان بجداريات المسيح المسلح، كانت ضواحي بيروت تعلن انفجار بركانها على المدينة ونظامها العالمي، وتعِد بالنصر.
نصر الله والعبور
أياً تكن نتيجة الحرب، وأياً يكن أداء حزب الله فيها، سيُكتب للشهيد السيد حسن نصر الله أنه المؤسس لخيال العبور لدى قوى المقاومة بأكملها. والعبور ليس مسألة عسكرية فحسب، هو في أصله جهد معرفي، ثقافي، سياسي، اقتصادي، وعسكري. فما الجهد العسكري في حقيقته إلا بناء تحتي لوعي المجتمع ورؤاه الكبرى. والعبور خروج إلى مِراحٍ أوسع، وتجاوز للخطوط المرتسمة في منطقتنا منذ عام 1948 بأقل تقدير، وهذه إحدى مغضبات أو مُسخطات الغرب علينا. لقد أراد السابع من تشرين الخروج بالمنطقة من نسق الانقسامات التي استنزفتنا عبثاً، كما أراد الخروج من نسق الاصطفافات التي استحكمت بنا ثم التأسيس لوعي جديد. وقد لا يشهد جيلنا كل ارتدادات السابع من تشرين. لكنه، وبالتأكيد، سيشهد بدء تأسيس الحدث لخيال جديد ولفضاءات سياسية جديدة، ولأسئلة معرفية وثقافية وتاريخية، لا شك تحتاج إلى الكثير من الشجاعة للعبور إلى مستوى آخر من فهم الصراع.
* كاتب
في لبنان، كانت حركة أمل أول امتثال لهذه الظاهرة، فيما لعبت حركة المحرومين دور التشكل السياسي الأول للجسد الريفي المقهور بصيغته الشيعية (لا أحبذ الافتراضات الأحادية الوجهة، ولكن لو قُدِّر للإمام الصدر - ربما - إكمال تجربته السياسية لاتخذت حركة المحرومين، ثم حركة أمل، وجهة «فوق شيعية»). عمل موسى الصدر على استيعاب القوة الريفية في فضاء المدينة عبر مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتعليم وعبر إعادة هندسة تدفقات النزوح الريفي إلى ضاحية بيروت الجنوبية. حركة أمل كانت هامش الشيعة في العمل عند تخوم المدينة. و«مدينة الزهراء» التي أصبحت في ما بعد الجامعة الإسلامية، في خلدة، جسدت الفضاء المكاني لمعنى التخوم (يمكن قراءة مدينة الزهراء أنثروبولوجياً كعتبة أو فضاء ناقل للأجساد من الريف الجنوبي إلى تخوم العاصمة مدة السبعينيات). ولأن الأزمة «المدينية – الريفية» كانت أكبر من الاحتواء، ولأن الريف صار أواخر السبعينيات ضواحٍ تتهدد المدن هوياتياً، ولأن خطاب الهويات الكبرى (الدينية والقومية) كان عالمياً وأعصى من أن يُحتوى منذ أواسط السبعينيات، لم تستطع الحركة منع انفجار القوة الشيعية مجدداً فوُلد حزب الله.
حزب الله: بركان تفجَّر
قلة هي الدراسات التي تناولت حزب الله أنثروبولوجياً لناحية أسلوب حياة أفراده وخيالهم السياسي. كان أكثر ما لفتني، عشية إعلان شهادة السيد فؤاد شكر، عهده مع أصدقائه مدة شبابهم، على قتال إسرائيل حتى الشهادة. ما معنى أن يتعاهد عشرة شباب في مقتبل العمر في واحدة من أفقر ضواحي بيروت (منطقة الأوزاعي) على قتال إسرائيل حتى الموت؟ منعاً للالتباس، نحن هنا نقرأ حزب الله عبر بُعد واحد من أبعاده.
في كتابه «الباب: مقاربة إثنولوجية» يقدم باسكال ديبي تاريخاً سياسياً للباب ووظائفه في المدينة. فمن الربع الأول من القرن التاسع عشر، أي منذ أن أدرك تجار الأراضي في باريس أن بناء عمارات في أحياء باريس الجديدة - بدلاً من البيوت الفردية - أفضل لهم، بدأ التاريخ السياسي للباب في مدننا المعاصرة. كان اجتذاب الطبقات العليا إلى نمط من المساكن الجماعية يقتضي الاهتمام بالأبواب، والخدم المتخصصين في فتح باب العمارة للحفاظ على التقاليد البرجوازية، وكان على المقاولين في باريس الاتفاق مع المعماريين لإقامة مسكن صغير غير مرئي مُدرج جمالياً في طراز العمارة، ولكنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بعمليات المرور «من وإلى المسكن». هكذا صار تاريخ المدينة في العالم تاريخ أبوابها ليس إلا. في السجون شكلت الأبواب الحديد المستدخَلة في تلك المدة نفسها، عتبة أخرى من عتبات الصراع لمراقبة الأجساد وللتحكم في الزمن الخاص بالمرء في المدينة. وهكذا ارتبطت فكرة الباب بالحماية، ثم بالخصوصية، ثم بخوف المالكين من المستأجرين والصراع على الملكية، ثم بالصراع على الأخلاق بين البروليتارية والبرجوازية، ثم بتاريخ القسمة بين الوطني وغير الوطني (غالباً ما يكون حراس الأبواب من بلد آخر). إلى أن اهتدى «خطاب الأبواب» إلى الدلالة الأمنية للمسألة. يحرص رجال الأمن عادة على وسم أنفسهم بحراس الأبواب. في إسرائيل كان حراس الأبواب مادة لدرور موريه في فيلمه «the Gate keepers»، ولكن أبوابهم لم تكن يوماً مسألة جغرافية ولا حتى داخلية. إذا فهمنا المعنى من وجود إسرائيل في عمقه، فإن احتلال فلسطين لم يكن غير واحد من تجليات «المهمة القذرة» للصهيونية. فمهمّة إسرائيل في عمقها تكمن في إعادة إنتاج مدننا بأبواب مؤصدة، تُحكم أبوابها في وجه الفقراء والمحرومين وأبناء الريف المتعبين، وتمارس حق عدم الضيافة ورفض من هم من غير المجموعات الموسورة. لذا كانت ولادة حزب الله في الضواحي المُعدمة، في جنبة من جنباتها، تعبيراً عن رفض هذا الشكل من المدن أو النُظُم. لم يكن على أبناء الأوزاعي أن يبحثوا في معاجم الصراع الطبقي ليعرفوا أن ثمة علاقة ما بين إنزال القوات الأميركية على شاطئهم سنة 1958 (من قبل أن يكونوا نازحين في الأوزاعي) والنظام السياسي في بيروت الذي استبقاهم عند حواف المدينة وضواحيها. في الضواحي تفجر غضب الثمانينيات، وتلك كانت ظاهرة عالمية. وبمثل ما كانت ضواحي مكسيكو، وساو باولو تزدان بجداريات المسيح المسلح، كانت ضواحي بيروت تعلن انفجار بركانها على المدينة ونظامها العالمي، وتعِد بالنصر.
نصر الله والعبور
أياً تكن نتيجة الحرب، وأياً يكن أداء حزب الله فيها، سيُكتب للشهيد السيد حسن نصر الله أنه المؤسس لخيال العبور لدى قوى المقاومة بأكملها. والعبور ليس مسألة عسكرية فحسب، هو في أصله جهد معرفي، ثقافي، سياسي، اقتصادي، وعسكري. فما الجهد العسكري في حقيقته إلا بناء تحتي لوعي المجتمع ورؤاه الكبرى. والعبور خروج إلى مِراحٍ أوسع، وتجاوز للخطوط المرتسمة في منطقتنا منذ عام 1948 بأقل تقدير، وهذه إحدى مغضبات أو مُسخطات الغرب علينا. لقد أراد السابع من تشرين الخروج بالمنطقة من نسق الانقسامات التي استنزفتنا عبثاً، كما أراد الخروج من نسق الاصطفافات التي استحكمت بنا ثم التأسيس لوعي جديد. وقد لا يشهد جيلنا كل ارتدادات السابع من تشرين. لكنه، وبالتأكيد، سيشهد بدء تأسيس الحدث لخيال جديد ولفضاءات سياسية جديدة، ولأسئلة معرفية وثقافية وتاريخية، لا شك تحتاج إلى الكثير من الشجاعة للعبور إلى مستوى آخر من فهم الصراع.
* كاتب