إنّ المُكاشفة ومصارحة الذّات أفضل وأشرف من الصمت، وأجدى من اللف والدوران. فالأسئلة الحارقة التي تصرخ بها غزّة منذ 20 عاماً من الحصار، وعشرة أشهر من المذابح اليومية، لم يعُد من الممكن تجاهلها. فلماذا لم تتحرّك، حتى الآن، قيادة الأحزاب العربيّة داخل «الخط الأخضر» لنُصرة شعبها؟ ولماذا يصبح الصمت حالة عامّة وشاملة؟ كيف سَقطت قيادات هذه القوى على اختلاف تياراتها الفكرية والسياسية؟ أين يكمُن الخلل؟
إنّ نقد سلوك حزب فلسطيني، أيّ حزب، ليس هُجوماً على «الجماهير» و«الهوية» و«الخصوصية» و«التاريخ» و«السجل النضالي» وغيرها من كلمات كبيرة يتلطّى البعض خلفها، ولا علاقة لها بالموضوع المطروق أصلاً. ينظُر هؤلاء إلى كل نقدٍ مشروع كأنه «مزاودة»، وهذه كلمة رائجة عند الفلسطينيين يصعُب شرحها وترجمتها. إنّ نقد هذه الأحزاب ومساءلتها وتبيان قصورها حقّ لكل فلسطيني وفلسطينية، جدير أن يدفعنا نحو مواجهة التحدّيات التي تقف أمام الحركة الوطنية في الوطن والشتات. فلا أحد، ولا حزب، خارج دائرة المسؤولية.
ينظُر هؤلاء إلى كل نقدٍ مشروع كأنه «مزاودة»، وهذه كلمة رائجة عند الفلسطينيين يصعُب شرحها وترجمتها
سياسة القمع والترهيب التي تمارسها أجهزة الاحتلال بحق شعبنا في الجزء المحتل من الوطن (48) لها صلة مباشرة في المسألة، إذ تعرّض المئات من الشباب والطلبة والعمّال إلى أشكال متعددة من العقاب، خاصّة بعد معركة «سيف القدس» أيار 2021. العشرات منهم دخلوا السجون وخسروا وظائفهم ومقاعدهم الدراسيّة. يوجد أكثر من 200 مناضل من «شباب الداخل» يقبعون في السجون. والمئات مثلهم في الاعتقال المنزلي، ولا يمكن إغفال قوانين التهويد وهدم البيوت والحصار «القانوني» وما يسمى قانون الطوارئ، إلى جانب التحدّيات التي لا حصر لها، مثل «الجريمة المُنظّمة» والفقر والتهديد بالتهجير. غير أنّ هذا كُلّه يدفع إلى التّحدي والمواجهة بدل أن يصير مُبرِراً لحالة العجز والتقاعس، وأنصاف المواقف التي تصدُر عن بعض الأحزاب العربيّة في «الدّاخل». سياسة غرز الرأس في الرمل حول ما يجري من ذبح يوميّ صارت شَكلاً من أشكال التواطؤ والعار.
إلى جانب المجازر الصهيونيّة في غزّة، وعمليات الاغتيال واقتحام جيش العدوّ لمدن وقرى ومخيمات الضفّة المحتلّة، تتعرّض الحركة الأسيرة في السجون لصنوف من التعذيب، والقتل، والعزل، والتجويع. يخرج الأسرى والأسيرات من المعتقلات إلى المشافي فوراً (بعضهم استشهد فور إطلاق سراحه)، وبعضهم خرج من المعتقلات دون أطراف. ويواصل العدوّ احتجاز مئات جثامين الشهداء من بينهم أسرى شهداء، فيما تتعرّض التّجمعات الفلسطينية في القدس إلى قوانين وسياسات قمعية وعنصرية بالجملة. فما الذي يمنع قيادة «أحزاب الدّاخل» من التحرّك الجاد على الصعيد السياسي والجماهيري والإعلامي، ولو في حدود برنامج الحد الأدنى على الأقل؟ لماذا لا تنسحب أو تقاطع برلمان «الدولة» التي ترتكب مجازر بحق شعبها؟
إنّ سلوك قيادات الأحزاب (خصوصاً أحزاب الكنيست) لا يرقى إلى استحقاق السّابع من أكتوبر المجيد، ولا يُعبّر عن ضمير واستعداد شعبنا في فلسطين المحتلّة (48) الذي تحرّك بقوة وشجاعة في أيار 2021، ولا يساهم في وقف حرب الإبادة التي تهندسها حكومة نتنياهو الفاشيّة. فما يجري في غزّة من قتل وإبادة وحصار وتجويع وتعطيش يكشف عن ضعف قيادة هذه الأحزاب وغيابها إلى حدود التلاشي، ويُشير إلى أزمة عميقة تنخر في جسد القوى الحزبية، تشبه - إلى حد التطابق - عجز الفصائل الفلسطينيّة والعربيّة الهامشيّة التي تتفرج على المشهد الدّامي في غزّة. هذه الأحزاب التي لم تتجرأ على إصدار بيان سياسي للردّ على ما يسمّى «الرئاسة في رام الله» والقول لفريق أوسلو: ابلعوا ألسنتكم قبل التطاول على المقاومة الباسلة والقائد محمد الضيف.
هل تستطيع هذه الأحزاب الدعوة إلى التظاهر في الشوارع والميادين للمطالبة بوقف حرب الإبادة الجماعية كما يفعل ملايين البشر في كل بقاع الكون؟ أو أنْ تدعو إلى عقد صفقة تبادل مع المقاومة (على الأقل) كما تفعل بعض القوى اليهودية؟ وقف ما يجري في سجون الاحتلال؟ إنّ صراخ نواب «الكنيست» من العرب ضد نتنياهو وبن غفير، ومن خلف منصّة برلمان العدوّ، نغمة يطرب لها البعض، لكنها في الواقع تثير الشفقة والتقزز. نشازٌ يفضح صاحبه أكثر مما يستره، لا قيمة له في ميزان هذه المعركة التاريخية الفاصلة، أصوات تُلمِّع صورة الكيان و«الديموقراطية الإسرائيلية» وقد تمنح صاحبها شعوراً بالرضى عن الذّات و«الشجاعة» المزيفة!
* كاتب فلسطيني