إيران والردع النووي
وعلى رغم تفشّي «اللغط الاستراتيجي» حول إقدام الإدارة الإيرانية للبرنامج النووي في الآونة الأخيرة على رفع مستوى التخصيب إلى 60% (وهو الأمر الذي يفسح المجال لبلوغ عتبة الـ90% العسكرية)، فإنّه من الصعب التأكّد ممّا إذا كان المشروع النووي الإيراني قد بلغ فعلاً مرحلة الاكتفاء الذاتي، أو إذا كانت هناك منشآت سرّية تعمل لرفع عمليّة التخصيب إلى المستوى العسكري، مثلما تتصوّر الترويكا الأوروبيّة التي دفعت مجلس محافظي الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة إلى إصدار قرار لإدانة إيران. مع العلم أنّ خيار العتبة النوويّة، كما هي حال دول مثل اليابان وكندا وكوريا الجنوبيّة، يُثير قلقاً لدى المسؤولين الإسرائيليين، وذلك خلافاً لدوائر في المؤسسة الأمنيّة الأميركية تميل إلى التعامل معه بوصفه أمراً واقعاً يتعيّن مراقبته عن كثب.
وفي أي حال، هناك عوامل استراتيجية طارئة عقب عمليّة 7 أكتوبر وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة قد تستدعي تفعيل خيار سلاح الردع النووي. ويتقدّم هذه العوامل السلوك الإسرائيلي غير العقلاني بعد الصدمة الناتجة من انهيار المنظومة الأمنيّة جرّاء «طوفان الأقصى»، والذي يدفع نحو الحرب الشاملة لتوريط واشنطن في نزاع عسكري مباشر مع إيران، من دون أن ننسى الغارات الإسرائيليّة المستمرة على البرنامج النووي الإيراني والتي تستهدف منشآته داخل إيران والعلماء والخبراء.
وثمّة تيار في التفكير السياسي الغربي ينظر إلى إيران باعتبارها مصدر اضطراب وتهدئة في آنٍ معاً في منطقة الشرق الأوسط، وأن هذه النظرة ما كانت لتكون مبرّرة لو التزمت طهران بسياسات إقليمية «تتّسم بالاعتدال والتوازن». وترجمة ذلك أن تتجنّب طهران الاعتراض على النفوذ الغربي، وأن تكون متعاونة وأقلّ اهتماماً بمعاداة إسرائيل، بل أكثر حرصاً على الحفاظ على المصالح الغربيّة في الشرق الأوسط. وعندها ستكون هذه الإيران في منأى عن محاولات التطويق والحصار ونظام العقوبات الاقتصادية والمالية، حتّى إنّ امتلاكها القدرات النوويّة والصاروخيّة لن يكون مصدر قلق للغرب بقدر ما هو الآن.
غير أنّ إيران إذا أصبحت دولة نوويّة، فإنّها ستكون في نظر الغرب رادعاً خطراً لإسرائيل وعاملاً مُحبطاً للاستقرار في الشرق الأوسط. فضلاً عن التزامن بين ظهور إيران قادرة على ممارسة الردع النووي، ومشرقٍ ضعيف ومفكّك تحت النفوذ الإيراني، ما يُفضي إلى التحكّم بعمليّة بناء نظام التوازن الإقليمي ويُهدّد بتقليص دائرة النفوذ الأميركي.
من هنا تحوّلَ التركيز على تقييد القدرة النوويّة الإيرانيّة (وهو ما سعت إليه خطة العمل المشتركة أو الاتفاق النووي المُبرم عام 2015 بين إيران والدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن زائد ألمانيا) إلى السياسة الإقليميّة الإيرانيّة، إذ تعزّزت بقوّة عسكريّة مضافة تتمثّل في القدرات الصاروخيّة البالستيّة التي استفادت من خبرات كوريّة وصينيّة وروسيّة.
وتسمح استراتيجيّة الحرب غير المتوازية، التي تتّبعها إيران في المشرق العربي، عبر التموضع والإمداد بالسلاح وتكنولوجيا الصواريخ الدقيقة، بالتواصل مع جبهات المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة وبناء جدار دفاعي متحرّك، تجلّت إحدى صُوره حديثاً في هجوم نيسان بالصواريخ والمُسيّرات التي انهالت على إسرائيل، واستنفرت خطّة دفاعيّة غربيّة عربيّة لم تنل من البُعد الرمزي لاختراق المجال الإسرائيلي، والذي رأى فيه الخبراء تذكيراً بتحوّل المستعمرة الإسرائيليّة إلى محميّة غربيّة.
ومع أن إيران المتصالحة مع السعوديّة ومِصر، لا تجد شريكاً إقليميّاً وازناً باستثناء اليمن بقيادة «أنصار الله» في صنعاء والمقاومة الفلسطينيّة بقيادة حركتَي «حماس» و«الجهاد»، فإنّه يمكنها الاعتماد على جبهة المساندة التي تخوض حرب استنزاف ضد إسرائيل انطلاقاً من لبنان والعراق وسوريا، لتفعيل استراتيجيتها غير المتوازية في الصراع مع أميركا وإسرائيل. كما يمكنها الرهان على تقاطع رؤاها ومصالحها الاستراتيجيّة مع روسيا والصين الحاضرتين بقوّة في المنطقة.
* كاتب وصحافي لبناني