برغم تباين المواقف والرؤى داخل كيان العدوّ، وفي أوساط حلفائه، يتفق كل هؤلاء على توصيف السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 باعتباره «الصدمة الكبرى» و«الفشل الأمني الأخطر» في تاريخ مشروعهم الاستيطاني في فلسطين المحتلة. وقد كثُر الحديث عن «ضرورة التعاون الوثيق بين الحلفاء» لإنقاذ مستعمرتهم – من نفسها ومن أعدائها – فثمّة إجماع في تل أبيب وواشنطن على أنّ «الحرب هي الحل»، وأن محور المقاومة يُشكّل «التهديد الوجودي الأول»، فيما الخلاف داخل معسكر العدوّ يظلّ على الطريقة والتكتيك وليس على الهدف الاستراتيجي. يعلنون موقفهم في السّر والعلن، يقولون: كلّنا نكره إيران والسنوار ونصر الله والحوثي، لكن في زمن اللايقين والصواريخ الدقيقة، من يضمن نتائج الحرب؟!ومع كل قذيفة أميركية يُلقيها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزّة والضفّة وجنوب لبنان وسوريا، وتردّ المقاومة، يتراكم الفشل الصهيوني الأميركي. تنزف الإمبراطورية من رصيدها وموقعها الاستراتيجي في عالم تتقدّم فيه قوى دولية وازنة ويتغيّر بسرعة الصواريخ أيضاً، فيما ينتظر «شيوخ النفط» ونظام «كامب ديفيد» و«مملكة وادي عربة» و«قطيع أوسلو» بشائر «النّصر الإسرائيلي على حماس»! لأن هزيمة إسرائيل، وفشلها، تعني فشلاً ذريعاً لكل أقطاب هذا المعسكر.
إنّ الحروب التّدميرية، والهيمنة الاقتصادية والبلطجة السياسية، طبيعة مُلازمة للاستعمار. هذه قوى تنهب الكوكب منذ 500 سنة، وهندست أكبر عملية سطو مسلّح في التاريخ. لم تسرق فلسطين وثروات العرب والمسلمين وأحلامهم فحسب، بل استعمرت قارات وسحقت شعوباً وأبادت قبائل. وتريد أميركا، بالحرب، وفرض اتفاقيات الاستسلام، إعادة إنتاج «النظام الدولي الجديد» على مقاسها. فالحرب الشاملة وصفة مجرّبة وجاهزة، ومَن لا تستطيع أميركا قهره بالقنابل، تفرض عليه العقوبات والحصار وحرب التجويع، وبرغم كل ذلك، أميركا مصدومة وحائرة أمام حقائق الواقع.
تغيّر ميزان القوى في منطقتنا مع بداية القرن الجديد، يمكن تحديد نقطة هذا التحوّل مع الانتصار التّاريخي للمقاومة اللبنانية في أيار عام 2000 حين نجحت في تحرير الجنوب بالقوة المسلّحة دون تنازلات سياسية، فقدَّمت نموذجاً ثورياً مُغايراً أثبتت من خلاله أن الكفاح المسلّح (الجهاد والمقاومة) يظل ممكناً في أصعب الظروف. صار لدينا وصفة مجربة وناجعة أيضاً. وصار في وسع المقاومة أن تقول للعدوّ وشركائه: لا تمتحنوا صبرنا، إذا أقدمتم على العدوان والحرب، قد يصل عويلكم إلى قبرص!
النّصر النظيف الذي أنجزته المقاومة في لبنان عام 2000 وإجبار ايهود باراك على تجرّع الهزيمة، كررته المقاومة الفلسطينية حين أجبرت شارون على الانسحاب وتفكيك مستعمراته التي فقدت «قدسيّتها» عام 2005، وذهب «الوحش» مُضطرّاً إلى «قراراته» تحت النار، أطلق عليها عبارات من نوع «قرارات مؤلمة» و«خيارات صعبة» وقدَّم مبرراً جاهزاً: «فعلت هذا من أجل بقاء إسرائيل»!
توالت صدمات الكيان الصهيوني حين استطاعت المقاومة وحاضنتها الشعبية الصمود وتجاوز العدوان بعد إفشال أهدافه. إنّ إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب انتصار ثانٍ، لأن المقاومة تملك - إلى جانب الرؤية السياسية والسلاح والهدف – القدرة على التنظيم والتخطيط. ليس محض صدفة أن يشتد عودها بعد كل معركة. ذلك لأنها لم تعُد حالة عفوية وارتجالية مثل «فزعات العرب» و«فشة الخلق» كما كان حال «منظمة التحرير» وأنظمة العنتريات العربية!
ليست كثرة السلاح، ولا نوعه، ما يصنَع الصمود والنّصر. يمكن للسلاح أن يصدأ ويتحوّل إلى خُردة لا قيمة لها إذا لم تتوفر القدرة على التنظيم والتجديد والإرادة السياسية وصياغة المشروع الثوري البديل. فهذه باكستان أمامنا، أكبر دولة إسلامية نووية، تجاوز عدد سكانها 245 مليون نسمة، وهذه مصر، أكبر دولة عربية، عديد جيوشها وأجهزتها الأمنية تجاوز 2 مليون جندي! لا يراها العدوّ ولا يحسب لها حساباً، بينما يخاف الصهاينة من خليّة فلسطينية مسلّحة في مخيم للاجئين بالضفّة المحتلّة. إنّ ما يخيف العدوّ وأجهزته هو هدف حامل السلاح، والفكر الذي يقوده، وليس السلاح في حدّ ذاته.
ولم يُحقق الشعب اللبناني انتصاره عام 2000 بسبب امتلاك حزب الله «أسلحة كاسرة للتوازن»، بل لأن المقاومة دفعت العدوّ إلى حالة مستمرة من الفشل والصدمة تحوّلت مع الوقت إلى حالة إنكار ثم إلى استعداد العدوّ لتجرّع الهزيمة. فإذا امتلكت المقاومة اليوم المعرفة العميقة بأحوال العدوّ وعرفت مكامن ضعفه وقوته، وامتلكت سلاحاً رادعاً وقدرة على تصنيع سلاحها وتطويره، انتقلنا إلى مرحلة نوعية، وأصبحت إمكانية إلحاق الهزيمة بجيش العدوّ وزوال الكيان الغاضب مسألة وقت. وانتقل هدف تحرير فلسطين من حيّز الإمكانية التّاريخية إلى حيّز الإمكانية الواقعيّة.
يُقدّم لنا الشعب اليمني وقواته المسلّحة الباسلة نموذجاً ثورياً جديداً غير مسبوق في مواجهة أساطيل الاستعمار الأميركية والبريطانية في المنطقة والعالم. ومع وجود القيادة الصلبة الموثوقة في صنعاء، والقراءة الاستراتيجية لواقع الصراع، رأينا كيف استطاع اليمن إدخال «البنتاغون» في دائرة الصدمة والإنكار. هذا الواقع لم ينشأ فجأة. تحقق بالتراكم والصبر والتضحيات، ولا ينفصل عن صمود الشعب اليمني في مواجهة الحصار والعدوان منذ عام 2015 وما حققته الثورة اليمنية بقيادة «أنصار الله» من تجربة ميدانية وسياسية وعسكرية وقدرة مُدهشة على امتلاك السلاح وتطويره.
يعيش الكيان الصهيوني في قطاع غزّة والمنطقة أسوأ مرحلة في تاريخه منذ عام 1948 ويعجز أمام صبر الشعب الفلسطيني ومقاومته الشجاعة التي صنعت المعجزات فوق الأرض وتحتها. ويظهر فشل «وحدات النخبة» الصهيونية أمام كتائب فلسطينية مسلّحة ومنظّمة جرى «تطعيمها بالنار» منذ انتفاضة الأقصى/ أيلول 2000، وخاضت أكثر من حرب ومعركة، فأسّست إلى «الطوفان» وما بعد الطوفان.
نعم، الكيان الصهيوني عدوّ مجرم وقويّ، مثل كل مستعمر، يملك قدرات هائلة، لكنه أشبه بوحش فقأت المقاومة عينيه فأدخلته في دائرة الصدمة والتيه. إنه قابل للهزيمة والشلل، والزوال أيضاً.

* كاتب فلسطيني