بخلاف ما يُريده البعض، فإنّ ارتباطاً تاريخياً كان ولا يزال بين لبنان وفلسطين. فهما، قبل الاستعمار الأوروبي، كانا امتداداً واحداً عبر التاريخ: مدن كنعانية (فينيقية) ساحلاً ووسطاً، وأرض واحدة في ممرّ عبره جميع الغزاة: فراعنة، ويونانيون، وفرس، ورومان، ودول الخلافات الإسلامية ودويلاتها، ولم ينقطع التواصل الجغرافي، سوى بعد نكبة فلسطين 1948، إذ إن تقسيم جغرافيات المنطقة على دول تحت قُبّة الاستعمارَين البريطاني والفرنسي لم يقو على بقاء الروابط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين شعوب هذه المنطقة، وخصوصاً بين لبنان عموماً، وجنوبه خصوصاً، وفلسطين.هذه المقدمة لا علاقة مباشرة لها بموضوع هذه المقالة، إنما بهدف الربط بين الماضي بتشعباته، والحاضر بتعقيداته. ربط شكلي وفي الجوهر في آن؛ على أن ما يهمّنا هو مقارنة في الحاضر والماضي القريب في مجريات أحداث عاملها المشترك عدوان إسرائيلي على فلسطين، وعلى لبنان، وانقسام عمودي وأفقي لدى شعبَي هذين البلدين، مع فارق أن الانقسام الفلسطيني ظل المسيطر على المشهد، بينما في الشدائد كان الانقسام في لبنان يُحيد ولو نسبياً حتى انقضاء الأمر.
إذاً، إحدى نقاط الالتقاء الفلسطيني/ اللبناني، هو العدوان الإسرائيلي على الشعبين، والاختلاف هو بين تجميد الانقسام بين السلطة والمقاومة، في لبنان، خلال الحرب وبعدها مباشرة، وانتزاع بعض من المكتسبات؛ واستمرار الانقسام الفلسطيني وتفاقمه، وبالتالي خسارة ما يُمكن أن يكون قد تحقق من مكتسبات ولو ضئيلة.

مكاسب التقاء الضرورة في لبنان
عانى لبنان ويُعاني منذ استقلاله في أربعينيات القرن الماضي من انقسامات طائفية وسياسية انعكست اختلافات ثقافية واجتماعية في بعض النواحي، وأنتجت الانقسامات تلك، قبل الاستقلال، وبعده، حروباً أهلية صغيرة وكبيرة، تداخل فيها الداخل مع الخارج. لكن ما كان مميزاً في الأمر، على الأقل منذ عدوان «عناقيد الغضب» (1996) وصولاً إلى ما بعد 7 تشرين الأول 2023، تلمس اتفاق غير مكتوب بين السلطة الرسمية والمقاومة، وذلك خلال المفاوضات لوقف إطلاق النار، مع التأكيد أن اختلاف المنطلقات بين بعض من هم في السلطة ومن هم في المقاومة كان سابقاً موجوداً وهو حالياً قائم، لكن في اللحظة المصيرية يتم التركيز على الهدف المشترك: وقف العدوان.
بعد توقف الحرب الأهلية بناءً على اتفاق الطائف، ووصول رفيق الحريري إلى سُدّة رئاسة الحكومة اللبنانية، سعى الحريري لربط علاقة مع جميع مكوّنات المجتمع السياسي اللبناني، ومن ضمنه حزب الله على الرغم من اختلاف منطق المقاومة كبؤرة ثورية، ومنطق دولة الليبرالية الجديدة. هذا الاختلاف العميق، تم تجميده تماماً خلال العدوان الذي شنته إسرائيل في 11 نيسان 1996، على امتداد 16 يوماً كان ختامه مجزرة قانا الشهيرة، إذ خاضت المقاومة مواجهة شرسة مع الجيش الإسرائيلي على أرض الجنوب، وخاضت السلطة، ممثلة في حينه برفيق الحريري، مواجهة سياسية وديبلوماسية، أفضت في نهايتها إلى ما عُرف بـ «تفاهم نيسان» الذي كرّس شرعية المقاومة في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية عبر اتفاق هو بمثابة اتفاقية دولية (شفيق المصري، «تفاهم نيسان في أبعاده القانونيّة والسياسية»، «مجلة الدفاع الوطني»، العدد 32، نيسان/ أبريل 2000).
بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، توجّه الرئيس رفيق الحريري بصحبة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى مدينة صور، حيث أُقيم مهرجان شعبي حاشد احتفاءً بانتهاء العدوان وتكريس حق لبنان في المقاومة، دولياً، على أن الاختلاف السياسي ومن حيث النهج لم يتوقف، وبقي وربما يتفاقم، لكن الناظم دائماً كان تلاقي مسار المقاومة ومسار السياسة والديبلوماسية عند حدوث اعتداء إسرائيلي.
في تموز 2006 كانت تجربة ثانية لالتقاء الضرورة بين السلطة والمقاومة، ففي هذا التاريخ شنت إسرائيل ما سمتها «حرب لبنان الثانية» أو حرب تموز مثلما هو متعارف عليه في لبنان، وذلك في إثر عملية «الوعد الصادق» التي تمكّن فيها حزب الله من أسر جنديين إسرائيليين، وتلتها في اليوم التالي سلسلة هجمات جوية إسرائيلية غطّت أرجاء الجغرافيا اللبنانية، استهدفت خلالها محطات الكهرباء والمياه والجسور، وكذلك الأحياء السكنية في قرى ومدن الجنوب، وصولاً إلى بيروت.
جاء العدوان الإسرائيلي في وقت كان فيه الانقسام اللبناني على أشده، وخصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وولادة ما عُرف بتجمّعَي «8 آذار» و«14 آذار»، كتعبير عن الانقسام العمودي الأوسع في لبنان منذ تأسيسه.
ترأّس الحكومة في هذه المرحلة الشديدة التوتر داخلياً، في لبنان، الرئيس فؤاد السنيورة، الشخصية غير المحبوبة من قبل ما سمّي لاحقاً «محور المقاومة»، لكن على الرغم من هذا الانقسام الذي ظلّ ظاهراً بشكل أو آخر لحظة اندلاع الحرب وخلال أيامها الـ 33، خاض لبنان غمار الحرب على جبهتين: جبهة المقاومة التي واجهت الاجتياح البري في الجنوب بشراسة، والقصف التدميري الإسرائيلي بقصف مستعمرات شمال فلسطين المحتلة بما تيسّر في حينه من قدرة صاروخية، وجبهة المفاوضات على إنهاء الحرب التي كان رأس حربتها الرئيس السنيورة بالتنسيق مع الرئيس بري. وبغض النظر عن الاختلاف في تقييم وقائع تلك المرحلة، فإن النتيجة كانت وقف العدوان الإسرائيلي وصدور القرار 1701، كحل وسط بين مطالب إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والغرب وكثيرون من العرب، وبين لبنان بحكومته ومقاومته وقليل من الحلفاء الدوليين.
لم ينته الانقسام الداخلي اللبناني بانتهاء الحرب، بل تفاقم وسادت مراحل شديدة الاستقطاب، كادت أن تصل إلى حروب داخلية جديدة، سواء في 2008، وبعد الفراغ الأطول في سدة الرئاسة في حينه، والذي دام أكثر من عامين، واختتم بانتخاب ميشال عون رئيساً، من دون أن تنتهي الخلافات التي تفاقمت، أو بعد التظاهرات الحاشدة في تشرين الأول 2019، وانفجار المرفأ في 2020، والأزمة السياسية الحادة التي أفضت إلى ابتعاد سعد الحريري عن العمل السياسي واختياره منفى له في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وسط هذا الانقسام المستمر في لبنان والمتفاقم، اندلعت الأحداث الأخيرة بعد عملية «طوفان الأقصى» في غزة في 7 تشرين الأول 2023، وأعلن حزب الله فتح جبهة المساندة لغزة من جنوب لبنان، في اليوم التالي، ومثل الأحداث المفصلية السابقة، فإن المقاومة تواجه بشراسة على الحدود الجنوبية وتفرض معادلات ميدانية، والسلطة اللبنانية تقوم بالاتصالات السياسية والديبلوماسية الموازية، على الرغم من شلل الحكومة والانقسام السياسي الحاد والمتفاقم خصوصاً منذ انتهاء ولاية ميشال عون الرئاسية في تشرين الأول 2022.
ربما الأبرز في التقاء الضرورة بين المقاومة والسلطة في لبنان في زمن الحروب العدوانية الإسرائيلية على البلد، تأكيد قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون، رداً على سؤال أحد أعضاء الكونغرس الأميركي، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، أن الجيش اللبناني سيدخل المواجهة إذا اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان. أهمية هذا الموقف أنه يأتي من قائد الجيش الذي تعمل الولايات المتحدة والغرب ودول عربية على تقويته وتمويله بهدف أن يكون القوة الموازية لحزب الله والمواجهة له.

مثالب الموقف الرسمي الفلسطيني
لم تكن الساحة الفلسطينية منذ انطلاق مرحلة الكفاح المسلح في كانون الثاني 1965، بمنأى عن الخلافات، لكن لم تصل يوماً إلى ما وصلت إليه منذ المواجهة بين «فتح» و«حماس» في قطاع غزة في سنة 2007، وتولي الأخيرة السيطرة على القطاع. بل يُمكن القول إن موقف السلطة الفلسطينية في رام الله، وموقعها إزاء العدوان الإسرائيلي الدموي والإبادة في غزة، وهو عدوان لم يوفر الضفة الغربية، هو الموقف الأكثر سلبية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية.
لقد نأت السلطة الفلسطينية بنفسها عمّا يجري في قطاع غزة، وبدل أن توجّه جُلّ حراكها لمواجهة ديبلوماسية مع إسرائيل، فقد حمّلت في أكثر من مرّة «حماس» مسؤولية الدماء الغزيرة في غزة، وربما آخرها وليس أخيرها، خطاب الرئيس محمود عباس خلال اجتماع القمة العربية في البحرين.
لم تعزل السلطة في رام الله «حماس»، بل عزلت نفسها، وهي التي باتت مرفوضة من قبل السياسيين الإسرائيليين على مختلف انتماءاتهم، ومطلوب تغييرها تحت عنوان «سلطة فلسطينية متجددة»، بل حالت دون مراكمة مكاسب سياسية وديبلوماسية فلسطينية فيما لو تولّت هي المفاوضات بتنسيق مباشر، أو غير مباشر، مع المقاومة، على غرار ما حدث ويحدث في لبنان، وراكم ويراكم مكاسب للبلد.
ثمّة من يطلقون على أداء السلطة الفلسطينية هذا «الغباء السياسي» و«الأنانية الشديدة السلبية»، وثمّة من يتّهمها بـ«لا أخلاقية» موصوفة؛ وبغضّ النظر عن صحة ذلك من عدمها، فإن الثابت أن السلطة الفلسطينية عزلت نفسها شعبياً، ولم تكسب عطف إسرائيل وحلفائها غرباً وعرباً، وباتت «سلطة غير ذي صلة».
* كاتب فلسطيني