لمّا ناف عن نصف قرن، توزّع الجسم السياسي الفلسطيني على مدارس شتّى في تصوّر مآلٍ يبغيه لقضية العرب: فلسطين. بل وبلغ مِن تباين مداراتها أنْ وقعت في أفخاخٍ نصبتها لها جهاتٌ غربية، بل وإسرائيلية، ومصائد «عربية».لكنّ أسوأ الأسوأ كان ما أوقعتْ به نفسَها مِن نوائب. فعوضاً عن أن تصرّ قيادة «ما بعد الكرامة» على مسؤولية مصر والأردن في استعادة ما احتُلّ مِن فلسطين، عام 67، بحكم مسؤوليتهما عن فقدانه، رقصت طرباً لفخّ حسن المغرب الثاني وقد نصبه لها في قمّة الرباط، تشرين 1 أكتوبر 1974، أي إيكال مسؤولية استعادة فلسطين حصراً بها؛ بما عناه مِن إعفاء المتسبّبين في ضياع آخر ما بقي منها عربياً مِن عبء استردادها، وإلقاء التبعة على عاتق مَن لا ذنب له في ضياعها، وليس في وسعه تحريرها منفرداً. ثم هناك قبولها القرار 242، في تشرين 2 نوفمبر 1988، تتويجاً لرحلة استرضاءٍ مديدة لواشنطن بدأت غداة حرب تشرين، واستعرت نوازع التذلّل عندها أكثر بعد قبوله الأخرق، كما شهدنا في جنيف بعدها بشهر... وكله من دون أي طائل. ثمّ تتالت موجات تسونامي مدريد فأوسلو فتوابعه لتضرب ما توافق عليه الناس مِن ثوابت، فألبسها لبوس لزوم ما لا يلزم، طالما الرضى مِن «الراعي» كفيلٌ بالحدّ الأدنى، أي الـ67.
والحال أنّ الفكرة المركزية التي تاهت مِن القيادة الفلسطينية بعد حرب الـ 73، ولا سيما عقب أيلول 82، كانت أنّ ما انبغى أن يكون أسّ حركتها وديدنها هو تعظيم قوّتها كي تكون شريكاً فاعلاً في معادلة إقليمية-كونية تفرض «طبش» موازين القوى لمصلحتها، أمرٌ بذاته كفيلٌ بانتزاع فلسطين الـ67 مِن براثن محتلّها، من دون قيد.
لقد تناسلت رؤى واجتهادات تحدّثت عن الدولة الثنائية القومية والدولة الواحدة وكأنّ بهما توْرَدُ الإبل، وبمجرد التنظير المؤسَّس على خلفيةٍ لا هي مبدئية ولا حتى واقعية. وانحبست «فلسطين» في معزلٍ أشبه ببلديةٍ كبيرة، تحت السيطرة الإسرائيلية أرضاً وسماءً وماءً وبشراً وحدوداً وقدساً، بل ومحرَساً لها مِن بَنيها وبِهم.
لم تتلمّس واشنطن، طوال نصف قرنٍ منصرم، «ضرورة» أن تملي على إسرائيلها الانسحاب مِن فلسطين الـ67، بل ابتغت تأجيله حتى يصل الفلسطينيون إلى خطّ النهاية مسلّمين بشرائطها ومستسلمين لرغائبها، وحتى يصل عرب الطوق، ومَن خلفَهم، إلى ذات المآل، فيرتضون بإسرائيل تلك شريكاً رئيسياً في منظومة أمْنٍ وتعاون إقليمية تتبع المتروبول الأطلسي.
في تلك العقود، فرّخت إسرائيل حالاً مزدوج القسمات، تأمركت به وتديّنت معاً لتغدو -مع حياة الدعة والهناء- غير قادرة على تعب الحروب وعنائها مِن جهة، ومتيبّسة -بإصرار عقائدييها- على الجمود على موجود حيازتها لمنهوب فلسطين الـ 67، من جهة أخرى. فذهب صانعها وراعيها، تلواً، مذهب أنها مجرّد امتدادٍ نسيجي له، منزرع في الشرق، وجب ضمان أمنه ونمائه، وليس رصيداً وظيفياً بدَور مسدّس مصوّب إلى رؤوس مخالفيه في الإقليم وما بعده، كما كان الحال ما بين عامَي 1974 و2006.
الفكرة المركزية التي تاهت مِن القيادة الفلسطينية بعد حرب 1973، ولا سيما عقب أيلول 1982، كانت أنّ ما انبغى أن يكون أسّ حركتها وديدنها هو تعظيم قوّتها كي تكون شريكاً فاعلاً في معادلة إقليمية-كونية تفرض «طبش» موازين القوى


ومنذ 7 أكتوبر 2023، ارتسم واقعٌ جديد في الإقليم وما بعده: إسرائيل شبه مطوّقة بحزامٍ مِن نار: غزة ولبنان والبحر الأحمر/ اليمن والضفة وسوراقيا (وفي الخلفية إيران، التي عند شفق التحوّل مِن دولة عتبةٍ نووية إلى دولة تسلّحٍ نووي)، ولم يبق سوى انضمام فلسطينيي الـ48 وانكسار الحاجز الأردني كي تغدو المواجهة شاملة. هي في لجّة حرب استنزافٍ متفاوتة الشدّة، متعدّدة الجبهات، لا تعرف انفكاكاً عنها ولا فوزاً بها. هي في فخٍّ إستراتيجي نصبته لنفسها مذ مضت إلى غزوٍ برّي لقطاع غزة. هي في انفصال شبكي عن راعيها وسندها الأميركي، لانفضاح كمْ باتت عبئاً عليه سمعةً ومنعةً، لا بل وبات إنقاذها مِن نفسها، قبل أعدائها/ما، فعل استنزاف مرير له. هي مرذولة منبوذة يُشار إليها بالبنان كفالتٍ مِن حيث مكانه الطبيعي: السجن أو العصفورية. احتياطها نازفٌ متعب. اقتصادها مشدودٌ للآخر. قدرتها على الردع التصعيدي تبخّرت. نقص عديد قواتها سافر. مجتمعها ممزّق بين مَنازع شتّى، لكنه بأسره في قبضة ذهان لا شفاء منه سوى بكسره. الرأي العام لا في عالم الجنوب/ الشرق فقط (مع استثناء هندوسي غالب)، بل في عقر ديار عالم الغرب/ الشمال خرجَ مِن شرنقة مداهنة إسرائيل أو الانخداع بأضاليلها إلى معرج الانعتاق مِن، والتمرّد على، نهجها، بل والتساؤل عن شرعيتها ذاتها. لقد صارت فلسطين قضيةً داخلية في الغرب وداخل السياسيّة (Polity) الأميركية بالذات.
لذا كلّه، باتت الآن في الأوراق فرصةٌ فريدة لشقّ الطريق إلى مشرق نور. وبتكثيفٍ شديد، يمهّد السبيل لحوار واسع، أضع تصوّري واستشرافي في النقاط التالية:
1- إن هناك سبيلاً متّسقاً مع طبيعة الصراع العربي–الصهيوني (الأطلسي)، هو «إزالة آثار عدوان الـ67»، من دون المسّ بـ«ملف 48»، أي إصرارٌ فلسطيني لا يلين ولا ينكسر، بحالٍ مِن الأحوال، على الانسحاب التامّ والشامل مِن كلّ سنتيمتر مِن الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 67 -ومن ضمنها القدس الشرقية- وإزالة الاستيطان برمّته، ووقف استباحة الماء والسماء، وفكّ الارتباط الاقتصادي والخدمي بين إسرائيل والأراضي المحتلة. كلّها مع إحياء اتفاقات الهدنة لعام 49. لا شيء أقل ولا شيء أكثر. إنّ الضفّة الغربية، ومن ضمنها القدس الشرقية، هي الجائزة الجيوستراتيجية الأكبر ليس في الإقليم فقط، بل وما مديّات، والظفر بها بات واجباً اليوم.
إنّ استعادة أراضي الـ67 بالكامل –بما فيها القدس الشرقية– أمرٌ قابل للإنجاز بالقطع، ولا تحول دونه موانع، ثابتة كانت أم متحرّكة: السور للإزالة أو الانزياح إلى الحدّ. المستعمرات للإخلاء أو التفكيك. المياه الجوفية لِمَن فوقها. والسماء لِمَن تحتها. والقدس لآخر بوصة (مع ترتيبات قوافل عبادة يهودية لحائط البراق). ونقطة آخر السطر.
تنفيذاً، يقوم الأمين العام للأمم المتّحدة بجدولة الانسحاب الإسرائيلي، مصحوباً بتفعيل لجان الهدنة بيْن الجهة الفلسطينية المحلّية وبين إسرائيل، على ألّا تزيد مدّة الانسحاب عن أشهر ستّة.
لا يفترض ذلك السبيل مسبقاً إنشاء دولةٍ فلسطينية مستقلّة، لكنه لا ينفي احتمالها. الأساس هنا ألّا يكون هناك أيّ اتفاق مباشرٍ بيْن دولتين، واحدة قائمة والثانية تقوم، وإنما ترتيباتٌ غيْر مباشرة -عبْر الأمم المتحدة- للهدنة بيْن دولتين، إحداهما إسرائيل والثانية فلسطين الـ67 أو كيانٌ عربي اتّحادي أوسع شمل الضفة والقطاع مع سوريا و/أو الأردن و/أو مصر.
2- تتمّ خلال ذلك عمليّة فكٍّ اقتصادية شاملة وتامّة عن إسرائيل، مِن أوّل الارتباط الكهربي لآخر الجمارك وتحصيلها. المراد هو بتر حبل السرّة، وإخراج فلسطين الصغرى مِن فلك إسرائيل المعاشي، ثمّ توجيه وجهتها شطر عمقها العربي. يتأتّى مِن جرّاء ذلك القضاء على مصالح الكومبرادور الفلسطيني المتعامل مع المحتلّ، معطوفة على مناشط فيلق «الأنجزة» المؤلّف من نخب ابتعيت.
3- إنّ ملفّ الـ48 -العودة والتعويض والحدود والاعتراف- محذورٌ ومحظورٌ لا يمسّه أو يلمسه كائنٌ مَن كان، مطهّرون أم سواهم. هو مؤجّلٌ لعمر جيلٍ أو زهائه. بالتالي، فلا اعتراف بـ«حقّ» إسرائيل في الوجود، ولا «قانونياً» بوجودها، ولا تفاوض مباشراً معها، ولا صلح. إنّ أحداً لا ينبغي له أنْ يقع في فخّ غواية أو ترهيب الانجرار إلى قبول شرط الاعتراف بـ«حقّ» إسرائيل في الوجود. العلاقة طردية بيْن التمسّك بالثوابت وبيْن احترام القوى الدولية الفاعلة واضطرارها إلى التعامل معها، وفقاً لمنطق الضرورة.
4- إنّ مردود المشروع الوظيفي الإسرائيلي لصاحبه الأطلسي قد شارف على الذوي، وردعيّته وهيبته قد تعرّضت لذوبانٍ يكاد يفتك بها ويلقيها في جبٍّ عميق. وكلّما احتاج «الفرع» إلى عنفٍ فائق الشدّة كلّما تأكّدت شكوك «الأصل» في تضاؤل فعاليته، بل وتحوّله إلى مصدرٍ لهبّات الانتقام. إذاً، فتشبّثٌ مصرٌّ على شرطَي: إخلاء الـ67 وعدم التفريط بالـ 48، واقعيٌ بامتياز، ناهيك بمبدئيّته.
5- إنّ قدرة «الراعي» الأكبر على إملاء إرادته، وتمكين مشروع وكيله الإقليمي، قد تآكلت، ولن تجد طريقها للترميم عودةً إلى ما كانت عليه العشريّة الأخيرة مِن القرن العشرين والعشريّة الأولى مِن الحادي والعشرين.
6- إنّ العاصم والخميرة والشرط هي كلّها في أن تتمّ ترتيبات الانسحاب في إطار الصراع، متفاوت الوتائر، بيْن الخيمة الأوراسية المتعدّدة الأوتاد -روسيا وإيران وتركيا والصين- وبيْن الخيمة الأطلسية، أي بانضواءٍ فلسطيني بيّنٍ تحت ظلّ الأولى.
بالمِثل، فموضوعة الانسحاب التامّ مِن أراضي الـ67 تنطبق بحذافيرها على المسرح السوري، مثلما هي ترتيبات لجان الهدنة. مِن هنا فأيّ كلامٍ عن معاهدة صلحٍ واتّفاقات تطبيعٍ وتبادل ديبلوماسي ومحطّات إنذار مبكرٍ بيْن سوريا وإسرائيل يندرج كلّه تحت باب لزوم ما لا يلزم. والحال أنّ دمشق تعلم علْم اليقين أنّ الصراع كلّه هو في «الشام» وعلى «الشام». والشام هذه هي غرب آسيا ومفتاح أوراسيا. من هنا، فما استطاع «أنور» فعله جنوب الشام لا يستطيع أحدٌ استنساخه فيها، شتّان.
7- أخلص للقول إنّ سيناريو «الدولتين» يشمل في طيّاته الاعتراف المتبادل والتطبيع وباقي المشتقّات؛ و«الدولة الواحدة» سيناريو ملتبس لا يعرِف فيه أحدٌ ماهيّة الدولة، أعربية أم صهيونية أو في منزلةٍ بين المنزلتين؟ ثمّ هو، حتّى مع التغاضي عن التباسه، يفوق قدرة الجيل الراهن مِن الشعب، بل والأمّة، على إنجازه، اللهم إلّا بتحقّق أحد شرطين: وحدة عربية أو انهيار أميركي.
واجب اليوم هو تحرير الـ67 وعدم المسّ بحقوق الـ48، وهما -لعمري- في نطاق الممكن، شرط صحّة العزم وصلابة الإرادة.
والله أعلم.