لن يفهم الإنسان في لبنان شيئاً من واقعه إن لم يفهم أنّ لبنان -والمنطقة- لا يزال خاضعاً لضغط الاستعمار وأنّ هذا الاستعمار شرسٌ قاتل ومدمّر.طالما يقرأ الإنسانُ الأحداثَ بمفردها، منفصلةً عمّا يحدث حولها، ستبقى ردّات فعله خارجةً عن الواقع. هكذا إنسانٌ سيقرأ، مثلاً، حربَ العراق بأنّها حربٌ بين الولايات المتّحدة والعراق، أو بين بوش الابن وصدّام حسين. ولن يستغرب أنّ الإعلام لا يبثّ شيئاً عن ليبيا. ولا يرى في صمت مصر وعدم قدرتها على فتح معبر رفح أمام البضائع انعداماً للسيادة. ولن يرى في الحرب في سوريا سوى النظام الديكتاتوري، وينسى احتلال جيشٍ أميركي لجزءٍ من الأراضي السورية، وجيشٍ تركي لجزءٍ آخر، وضلوعَ دولٍ عربيّة في تمويل حربٍ لا تزال تهدّدُ وحدةَ أراضي البلاد. وحين يذكرُ ذاك الإنسان اليمنَ سيرى في الحوثيّين أذرعاً إيرانية، ولا يرى في المقلب الآخر أذرعاً للولايات المتّحدة أو السعودية أو الإمارات. بالنسبة إلى ذاك الإنسان، الحربُ على اليمن أحجيةٌ، فهو لا يربطها بقدرة اليمنيّين اليوم على تهديد مسارات الإبحار نحو فلسطين المحتلّة، لا يربطها برغبة الولايات المتّحدة في السيطرة وتأمين أمن «حاملة طائراتها الخالية من الجنود الأميركيين والتي لا تغرق»، أي إسرائيل، كما وصفها ألكسندر هيغ وزير الخارجية الأميركي في الثمانينيات.
الإنسان الذي لا يعي خضوعَنا لهجمات الاستعمار اليوم، لا يرى في دول الخليج سوى البحبوحة وناطحات السحاب. فهو لم يسمع عن ملايين الفقراء في السعوديّة وغيرها، ولا يرى الجزيةَ السنويّة التي تفرضها الولايات المتّحدة وأوروبا على دول الخليج على شكل شراء أسلحةٍ، وطائرات، وعقود صيانة. وصاحبُنا لا يتذكّر العقليّةَ الاستعماريّة التي باح بها ترامب: نحن نحمي عروشهم وعليهم أن يدفعوا؛ قبل أن يسافر إلى السعوديّة ويعود بغنيمةٍ تناهز الخمسمئة مليار دولار «استثمارات».
وحين يتذكّر ذاك الإنسان فلسطين، سيرى أوجاع الفلسطينيّين ومأساتهم، قد يذكر أنّ إسرائيل تمارس إبادةً أو لا يذكر، ولكنّه في الحالتين سيلوم «حماس» على كونها لم تحم السكّان، وكونها قامت بهجوم «أرعن» ولم تستعدّ لـ«ردّة الفعل» الصهيونية. وسينسى أنّ الفلسطينيّين يعيشون يوميّاً التنكيلَ والقتل والطرد من البيوت والأراضي والسجن اللامتناهي، وأنّ ما يناهز السبعمئة ألف صهيونيّ يحتلّون أراضيَ في الضفّة ويمنعون قيام أيّ دولة ذات معنى، وأنّ الحكومات الصهيونيّة تقيّم عدد السعرات الحراريّة التي تدخل غزّة ولم تكن تسمح قبل حرب الإبادة إلّا بدخول ما يكفي لكي لا تحدث مجاعة. سينسى هكذا إنسان أنّ القضيّة الفلسطينيّة كانت تغوص في النسيان بسبب اتّفاقات الخيانة والتطبيع مع دولة التنكيل والتدمير والتهديد والاحتلال الإخلائيّ والفصل العنصري. وهذا الإنسان لا يقول لنا ماذا يقترح على الفلسطينيّين أن يفعلوا؟ أن ينبطحوا أرضاً ويموتوا حتّى يحيا هو ونحن بسلام؟ أن نتابع حياتنا في ظلّ تهديد دولةٍ مسلّحة نوويّاً لن تهدأ حتّى تسيطر وتمتصّ ثروات بلادنا هي ودول الاستعمار الأميركي والأوروبي وتقتلنا مِن الفقر وتستعبدنا؟
وحين يذكر بلدَه لبنان، سينسى أنّ الولايات المتّحدة لا تسمح لجيشه بتسلّح يمكّنه من الدفاع عن أرضه، فبات يُستخدم داخل البلاد فقط، وأنّه لولا أنّ لبنانيّين سلّحوا أنفسهم خلال ثمانينيات القرن الفائت لَما كان بالإمكان دحر الاحتلال في لبنان عام 2000، وهزيمته عام 2006. هكذا إنسان لم يعِ بعد أنّ الاستعمار يهاجمه يوميّاً، وأنّ حكومات الصهيونيّة، مِن اليمين إلى اليسار، تجمعها العنصريّةُ الإخلائيّة الاحتلاليّة وتهدّد لبنان بشكلٍ دائم وتعتمد على الولايات المتّحدة التي تسلّحها لمتابعة عمليّة إبادةٍ مقرّرة ديموقراطياً. وينسى، أو لا يعلم، أنّ مطلوبَ الاستعمار كان دائماً خضوع السكّان الأصليّين لخطط النهب والسلب والإفقار، أو التدمير.
وقد يَحزن هذا الإنسان أنّ حزب الله يهاجمُ إسرائيل لأنّه يعطي لها ذريعةً كي تهاجمنا، ولا ينتبه أنّها تقتل اليوم عشرات الآلاف وتقدّم بعد ذلك الذرائع الوهميّة مِن دون خوف مِن تبعات. وقد ينتقد تفرّدَ حزب الله إذ لم يَستشر بقيّة الشركاء في الوطن قَبل أن يُقدم على هكذا خطوةٍ حربيّة. لا يتنبّه ذاك الإنسان أنّ ما يحدث في غزّة والضفّة مِن إبادةٍ لعشرات الآلاف بلا حساب، ومِن سلب أراضٍ، هو أمرٌ يمكنه أن يحدث في لبنان لولا أنّ جزءاً مِن هذا الشعب يقاوم.
مِن مآسي استعمار الفكر عندنا، هو أنّ كثيرين لا يستطيعون أن يقفوا مع حركات مقاومةٍ مسلّحة ضدّ الطغيان إلّا إن كانت تشبه شيئاً مثاليّاً يعتقدونه الأفضل: أن تكون لا دينيّة، مثلاً. لربّما يمكنهم أن ينتظروا نشوء المثال، أمّا الناس فهم يموتون اليوم، ويستشرفون غداً قاتلاً في ظلّ الاستعمار، ويحتاجون أن يقاوموا عنف المستعمِر.
كلّ شعبٍ له الحقّ في التنقيب في تراثه عن وسائل لمقاومة عنف المستعمِر المسلّح المتعدّد الأوجه، وبلادنا -شئنا أم أبينا- تحمل تراثاً دينيّاً كبيراً، فإن قامت مجموعةٌ بالحفر في التراث لاستخراج مكامن قوّةٍ مِن أحد وجوهه، وهو الدين، مِن أجل مقاومة الاستعمار، فهذا حقٌّ لكلّ الشعوب. يمكِن للكتّاب والمثقّفين أن يدْعوا إلى قيام حركات مقاومةٍ علمانيّة، ولتبنّي أنظمة حكمٍ لا دينيّة، ولكن حتّى يحين موعدنا مع فصل الحكم ووسائله عن الدّين ووسائله، وهو أمرٌ حسنٌ، خاصّةً في بلادٍ متعدّدة الأديان والطوائف، هناك بشرٌ يريدون أن يعيشوا، ويحبّون الحياة أحراراً لا عبيداً، ولأجل ذلك يقاومون اليوم، لأجلهم ولأجلنا. يقاومون كي لا تُهزم فكرة المقاومة في فلسطين وخارجها، وكي لا يتمكّن الاحتلال يوماً من إلقاء آلاف آلاف الأطنان من المتفجّرات على أولادٍ ورجال ونساء في فلسطين وفي لبنان وأيّ بلد آخر.

* كاتب وأستاذ جامعي