«إنه أمر في غاية البساطة فعلاً: فكلّما كنا نعني ما نقول، نكون قد ادّعينا بذلك أن ما نقوله حقيقي أو صحيح أو صادق»؛ بهذه الكلمات، يصوّر لنا الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر، يورغن هابرماس، ما يسمّيه «قبس المثالية» الذي «يقتحم حياتنا اليومية»، من دون أن يمنعه هذا التصوّر من التعامل «بالغشّ في جميع الأوقات» حينما يتعلّق الأمر بالفلسطينيين، مثلما فعل حديثاً عندما أصدر بياناً «تبريرياً» لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، بدعوى «الانتقام بهجوم مضادّ» من هجوم 7 أكتوبر. على أن العِبرة في ما تقدّم، هي أنه يمثّل، بالضبط، جوهر ما يدعوه هابرماس «المرض التواصلي» الذي يضرب العلاقة في ما «بيننا» وبين الائتلاف الغربي الذي يمثّله (وإن حمل عليه في غير ما موضع)، والمتجلّية أعراضه بوضوح في تلطّي هذا الأخير المستمر خلف أسوار اللغة - التي ليست، بأيّ حال، محايدة أو بريئة، بل هي «مراوغة وذات شموس وظلال» -، من أجل إكساب نزوعه المتقادم إلى التحكّم في «برابرة العالم» - بوصفه هو جامعاً لـ«الذوات المتفوّقة» -، بعداً عقلانياً، وشرعنة عنفه الممارَس بحق الشعوب القابعة في «مرتبة دنيا من نواحي الحكمة والذكاء والفضيلة والإنسانية».وإذا كان الحوار التلاعبي أو الاستغلالي هو ديدن ذلك الائتلاف، الذي يدعوه هابرماس إلى أن «يعمل على تحسين صورته» وكأن المشكلة في جوهرها هي مشكلة لفظية وليست ضاربة بجذورها في تاريخ من «التمييز والإذلال والإساءة إلى الثقافات الأخرى» - بحسب ما يقرّ به ناقدُ الحداثة نفسه -، فإن القوى الغربية المهيمنة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وجدت، خصوصاً منذ أن «أصاب قدرتها على التحكّم في الشؤون الدولية الضمور»، حاجتها الماسّة إلى «الاعتماد أكثر من ذي قبل على الشرح والإقناع»، بما جعل «الديبلوماسية الثقافية أمراً لا غنى عنه لإنجاز أهداف السياسة الأميركية» – وبالتبعية، الغربية عموماً –، وفقاً لما يقرّره هربرت شيللر في كتابه «الاتصال والهيمنة الثقافية». ومن هنا، جرى الاشتغال على تسخير طرائق «القوة الناعمة» ووسائطها وأدواتها من أجل تجميل الأهداف الاستعمارية وتسويقها وتجريع الرأي العام إياها. لكن «الخرافة»، التي يقتضي صنعها إزاحة طرق الإدراك والتفكير البديلة أو المعارضة، وجعل نظام الأفكار الراهنة، أي «الأيديولوجيا المسيطرة»، يبدو طبيعياً وعادياً بل وضرورياً، بقيت، في جوهرها، هي نفسها على طول الخطّ، منذ بدء تشكّل معالم الإمبراطورية شبه العالمية التي تقودها أميركا، مروراً ببلوغها ذروة قوتها عقب انتهاء الحرب الباردة، وصولاً إلى بدء مسار انحدارها اليوم: ثمّة قوة تجسّد «الاستثناء» في هذا العالم، وتحظى بـ«عناية إلهية خاصة»، وتمثل «شعباً مختاراً مدعوّاً ليكون النور في خدمة» الأغيار. «خرافةٌ» ظلّت ملازمة لأخرى صهيونية، انطلقت من المركزية الغربية، وعمّقتها بإضافة المركزية اليهودية إليها، بما أنتج «أسطورة» ممتدَّةً مؤسَّسةً على تحيّزات إنجيلية وإمبريالية وعرقية، طبقاً لما يراه المفكر وعالم الاجتماع المصري، عبد الوهاب المسيري.
على أن عمر «الخرافة»، أي «خرافة»، إنما مرتبط بعمر القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقف خلفها، والأيديولوجيا المهيمنة التي تغذّيها، وهو ما قد يفسّر فاعلية الضربات الرمزية التي ما فتئت تتلقّاها «الخزعبلات» الأميركية والإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر. لقد بدت «الذات الناطقة» الغربية، لأول مرّة على مرّ تاريخ منطقها الصادر عن برهان خطأ وسفسطة ومغالطات، عاجزةً عمّا يسمّيه الفيلسوف الأميركي، ناوم تشومسكي، «تصنيع الإجماع» أو «القبول»، ليس على مستوى الرأي العام العالمي فقط، وإنّما أيضاً داخل المركز الاستعماري أو «المتروبول»، حيث أظهر الجيل الجديد الذي استطاع التفلّت من مختبر «تلقين القيم الصحيحة»، قدرته على تحدّي «الهيراركية» في مجال الإعلام والاتصال، ومزاحمة الرواية المهيمنة على القاموس العالمي، وإحداث اختراقات نوعية وواسعة في الفضاء العمومي الغربي. والمفارقة، هنا، أن الجيل المذكور لم تكن أداته في ذلك، سوى البيئة نفسها (الويب 2.0) التي أريدَ منها - خلافاً للخطاب «الطوباوي» الذي بشّر بها بوصفها أداة للتحرّر من الوساطات السياسية والاجتماعية والهياكل المتسلّطة ذات التراتبيات الهرمية - تعزيز الأدوات التي يجري عبرها إفهام «القطيع الضالّ» حقيقة «المصالح العامة» وتوجيهه نحوها، وإيهامه بأنه يملك الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونه، فيما الحقيقة أن في ما وراء تلك البيئة «طبقة متخصّصة» جديدة، تجاوزت الهمّ الإمبراطوري بأشواط، وباتت مسكونة بهمّ «التألّه» (ادّعاء الألوهية)، وفقاً لما تدلّ عليه، مثلاً، أحدث نماذج خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
تتشكّل في وجه تلك السلطة المتداعية «سوق لغوية» جديدة عنوانها حق الشعوب المستعمَرة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، في مقاومة مستعمِريها والتحرّر منهم واستنبات نموذجها للعيش والتطور


وإذا دلّ ذينك التفلّت والتحدّي على شيء، فإنّما على أن البنية المشار إليها، والمتناقضة على نحو بيّن، لا تفتأ تتفلّت في اللحظة نفسها التي تَظهر فيها خاضعةً للتحكّم عبر عدد صغير من الأطراف، وأن التحكّم فيها «صار أسهل فأسهل وأصعب فأصعب في آنٍ معاً»، بحسب ما يراه الفيلسوف الفرنسي، جاك دريدا. ثبت ذلك، مثلاً، في هجمات 11 أيلول، عندما استغلّت جماعة غير دولتية ما يُدعى العولمة قيد التحقّق (قوة رأسمالية، تواصل من بعد، تكنولوجيا متقدّمة، عبور للحدود... إلخ)، من أجل ادّعاء التصرّف باسم معذّبي تلك العولمة إياها. كما ثبت في عملية «طوفان الأقصى» نفسها، حيث استطاعت حركة «حماس» تعطيل «أرقى التقنيات وأكثرها ثباتاً في المعركة»، عبر طائرات مسيّرة انتحارية أصابت الذكاء الاصطناعي الذي يدير هذا النظام في مقتل، وخلقت فجوة زمنية استغلّها المقاتلون لإنجاح عملية الاختراق بعيداً من أعين غرفة القيادة الإسرائيلية التي لم تصل إلى شاشاتها إشارات التنبيه، والحال هذه. وحتى على مستوى حروب المصطلحات والسرديات، ظهر، في المعركة الحالية أيضاً، أن الصلابة والفعالية الأميركيتَين اللتَين ظلّ النظام العالمي، منذ بداية التسعينيات، يعتمد في استقراره عليهما على المستويات كافة، بما فيها المنطق الخطابي ونظام البديهيات والقانون الثقافي، لم تعودا بالقوة نفسها التي تخوّل الولايات المتحدة لعب دور الوصي على ذلك النظام أو الضامن له، والاستئثار بالثقة التي كان يشعر الجميع، بمن فيهم خصوم واشنطن، بالحاجة إليها، بوصف الأخيرة «الوحدة النهائية المفترضة للقوة والقانون» - كما يصفها دريدا أيضاً -، حتى عندما تدوس على القوانين الدولية بقدمها، من دون أن تلقى عقابها.
هكذا، وبينما تكافح أميركا، بطريقة فوضوية وعنيفة، لوقف تقهقرها، وتتزعزع سلطة الكلام الممنوحة لها، وتتراجع فاعلية الهراوات الأيديولوجية التي بقيت لعقود تجلد العالم بها، وتتعاظم الفجوة بين القيم الليبرالية التي بُشّر يوماً بـ«نهاية التاريخ» على أساس انتصارها وبين العفن والظلامية المخبوءَين تحت طبقاتها، يترهّل «نظام القول» الغربي أكثر فأكثر، ويتيه أساطينه في كيفية الحفاظ على قدرتهم على سكّ «اللاشيء»، أو إخفاء عنفهم الرمزي، أو مواراة الحقيقة المفيدة بأن معانيهم ومفاهيمهم هي ثمرة إنتاج مراقَب ومنتقًى ومنظّم ومعادٍ استخدامه، بالضبط، حتى لا يشملنا ولا يستوعبنا ويلفظنا لا إلى دوائر «اللامعنى» فحسب، بل وأيضاً إلى مربّعات سيميوطيقية مرتبطة بكلّ ما يزعمون محاربته منذ قرابة السبعة عقود (بكلّ صراحة، يقول «قائد منتخَب بارز» لمدّعي عام «المحكمة الجنائية الدولية»، كريم خان، إن «المحكمة أنشئت لأفريقيا والبلطجية» من أمثالنا). ولربّما يكون أوضح نموذج ممّا تقدّم، «عازف الروك في العالم الحرّ»، أنتوني بلينكن، الذي يكاد فعله الكلامي في الحرب، ومن بين تجلّياته مثلاً جملته النموذجية التالية: «هجوم 7 أكتوبر وخسائر المدنيين في غزة أثناء ممارسة إسرائيل حقها في ضمان عدم تكرار الهجوم يثير مخاوف حقوقية»، تكون نموذجاً للعجز المثير للشفقة عن تظهير «الحقيقة» بالشكل الذي يريده صاحب الخطاب، وإقامة توزيعات بين ما هو «صحيح وصادق» وما هو «خطأ ووهم»، فيما مواهب الرجل الغنائية، والتي راح يستعرضها في كييف عندما كانت آلة حرب حلفائه تسلخ جلود الأطفال في غزة، تقصُر عن مخاطبة حتى عقول هؤلاء الأطفال، بالجماليات وثيمات الأَمركة (بعد الأَوربة) والتحديث والتحضّر والحرية والديموقراطية (المفصّلتَين على المقاس).
في المقابل، تتشكّل، في وجه تلك السلطة المتداعية، «سوق لغوية» جديدة، عنوانها حق الشعوب المستعمَرة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، في مقاومة مستعمِريها والتحرّر منهم واستنبات نموذجها للعيش والتطور، بناءً على دوافع واحتياجات وآليات توزيع للقوة الاجتماعية مغايرة لما هو سائد في «المركز». وانطلاقاً من أن الفاعلين في هذه «السوق» باتوا متمكّنين من إنتاج خطاب موجّه إلى متلقين قادرين على تقييمه وتقديره ومنحه «سعراً» معيناً، بدأت تتشكّل سلطة رمزية للسرديات التي عانت على مرّ عقود من اختلال علاقات القوة والغلبة، بما يتيح شقّ «الغيتوية» الغربية - الإسرائيلية، والتحرّر من طابعها الأسطوري الذي يجعل المستهدَف بها مستوعَباً نفسياً ومهزوماً تماماً. وهكذا، تبدو مقولة الفيلسوف والمناضل الفرنسي - الجزائري، فرانتز فانون: «المستعمَر سيكون منفلتاً من دغله على قدر ما يعتنق قيم المتروبول الثقافية. وسيكون أبيض على قدر ما يرفض سواده»، وقد أخذت تنعكس على نحو مدهش، لتفتح أمامنا طريقاً بديلة، «لا نبغي (فيها) اللحاق بأحد (...)» إذ «لا بدّ من قلب صفحة جديدة، ويتعيّن أن نستنبط مفاهيم جديدة ونحاول أن نستولد إنساناً جديداً يستطيع الوقوف على قدميه»، وفقاً لما كان قد أوصى به فانون نفسه، «معذّبي الأرض»... وما أكثر عذاباتنا، نحن الذين لم نكن أكثر من «قطرة من السمّ الذي حقنتم به شرايين التاريخ»!
* من أسرة «الأخبار»