لا تمثّل التحويلات النقدية الآتية من المهاجرين العالمثالثيين إلى بلدان المنشأ مخرجاً من أزمة انهيار المداخيل فقط، مع التراجع المستمرّ في أسعار الصرف، في تلك الدول. ثمّة، إضافة إلى ذلك، أبعاد تتجاوز اقتصادات تلك البلدان، مع كلّ ما تتعرّض له من أزمات، إلى نمط التدفّقات نفسه الذي انتقل مع الهجرة المنهجية إلى الغرب، من شكل إلى آخر، يكاد يكون نقيضاً له. فالمعروف عن التدفُّقات الرأسمالية أنها تتمحور حول حركة الرساميل، ويساعدها في ذلك انتقال العمالة والسلع والخدمات، لتكون في خدمة تراكمها وتركّزِها، بعد الحصول على فائض القيمة، في دولة رأسمالية أو أكثر. ليس ثمّة إمكانية، في هذه الدورة المُحكَمة، لتفلّتٍ من النوع الذي يحصل حالياً، مع خروج أجزاء صغيرة من الأجور التي تُدفَع للطبقة العاملة العالمثالثية هناك، عن تغذية الناتج المحلّي الإجمالي، في الغرب. غير أنّ التركُّز الكبير لرأس المال، شمالاً، أصبح عرضةً، مع هذا التدفّق المستمرّ للتحويلات النقدية إلى دول الجنوب، لخروقات، تمثّل، بمجملها، ما يمكن اعتباره، من دون مبالغة، إعادةَ توزيعٍ للعمل والثروة، على مستوى العالم.
تصعيب عملية الإنتاج
الهجرة إلى الغرب والشمال للعمل، هي بالتعريف انتقالٌ للطبقة العاملة من فضاءٍ للإنتاج والتبادل على مستوى الأقاليم التي تتواجد فيها جنوباً، إلى السوق الرأسمالي الذي تحصل فيه المبادلات على نطاق عالمي. القيمة المُضافة لهذا الانتقال، على مستوى زيادة حصّة الشمال من الإنتاج والمبادلات، مع التعزيز الحاصل لقوّة العمل لديه، غالباً ما تكون على حساب الاقتصادات الإقليمية، التي حصلت منها الهجرة. فهذه الأخيرة لم تخسر أجزاء كبيرة من قوّة عملها فقط، بل أيضاً تراجَعَ ناتجها المحلّي الإجمالي، بالقدر نفسه الذي زاد فيه نظيرُه في الغرب. والحال أنّ تزامُن هذا التراجُع مع الانهيارات الكبرى في أسعار الصرف، جعلت إمكانية التعويض عن هذه الخسارة في قوّة العمل والناتج المحلّي صعبة، إن لم تكن مستحيلة. فأيُّ زيادةٍ للإنتاج، أو أيُّ إحلال لقوّة عملٍ بديلة، في ظلّ خسارة المداخيل قوّتَها الشرائية، لن تكون مجدية، ولا سيّما مع التراكم الحاصل للأزمات، من انهيار أسعار الصرف إلى التضخُّم القياسي، وصولاً إلى أزمات الديون. وكلّ ذلك في إطار نظام العقوبات، الذي يصعّب عملية الاستيراد ويزيد كلفتها على المورِّدين والمنتِجين، إلى الحدّ الأقصى.
الجدوى من عملية الإنتاج هنا تصبح موضِعَ شكّ، فحتى الاستثمار الصغير، الذي يعوّل على المشاريع التي لا تحتاج إلى قنوات للتمويل من الخارج أو إلى التحويلات البنكية الخاضعة للمراقَبة، يتحوّل، بدوره، إلى عملية مكلِفة بالنسبة إلى أصحابه، وبالتالي تنتفي ربحيّته حتى قبل مباشَرة العمل به. هذا يقود، على المدى البعيد، إلى تعزيز المنحى الذي يعتبر ما حصل، لجهة الهجرة وفقدان قوّة العمل وأجزاء كبيرة من الناتج المحلّي، مناسبةً لتعزيز الاقتصاد النقدي، على حساب نظيره الإنتاجي. والحال أنّ التحويلات النقدية، التي بدأت تَصِل مع استقرار نموذج الهجرة، تبدو وكأنها تدعم هذه الوجهة بالفعل، ولكن في سياق هو أقرب إلى تحفيز الطلب الاستهلاكي المتراجِع بفعل الأزمة منه إلى تعزيز الاقتصاد النقدي، على حساب الإنتاج.
القيمة المُضافة لهذا الانتقال، على مستوى زيادة حصّة الشمال من الإنتاج والمبادلات، مع التعزيز الحاصل لقوّة العمل لديه، غالباً ما تكون على حساب الاقتصادات الإقليمية


حدود النموّ المدفوع بالإنفاق الاستهلاكي
ثمّة إشكالية في النموّ المدفوع بالإنفاق الاستهلاكي، وهو ما لا تقدِر التحويلات النقدية على تفاديه نتيجة بنيتها النقدية. هذا النموذج، سواء في وجهته النهائية الخاصّة بالإنفاق على السلع والخدمات والإيجارات هنا، أو حتى في مجراه المتصل بنمط التدفُّق النقدي من الخارج، لا يساعِد على استقرار نموذج متقدِّم للإنتاج، ويكاد يقتصر تأثيره على تحريك الركود الحاصل في القطاعات التجارية والخدميّة بفعل الأزمة. هكذا يُذكي الطلب الكبير على السلع والخدمات، المدفوع بالفارق في سعر الصرف بين العملتين الوطنية والأجنبية، الحركة التجارية في هذه القطاعات ويدفع بها قُدُماً، أكثر بكثير مما يفعل مع نظيرتها الخاصّة بالإنتاج، سواء في الزراعة أو في الصناعة.
ثمّة نموٌّ يحصلُ بالطبع، في مجرى هذه العملية، وحصولُه يتجاوز قطاعات التجارة والخدمات إلى نظيرتها الإنتاجية. وذلك على ضوء الطلب المتزايد على السلع، وحتى الخدمات، ولكنه من النوع الذي لا يدوم طويلاً. ليس لأنّ النموذج الذي يقوم عليه متعارضٌ مع الإنتاج بالضرورة، بقدر ما هي بنيته الاقتصادية التي لا تسمح بالذهاب أبعَدَ من تحريك عجلة الاستهلاك عبر النقد المتدفِّق من الخارج مدفوعاً بفارق سعر الصرف. عدم تحريك العجلة الإنتاجية كما يجب، أُسوةً بنظيرتيها الاستهلاكية والتجارية، مردُّه إلى كون التحويلات هي الجزء الذي لم يُنفَق من الدخل الأساسي المنتَج في الخارج على السلع والخدمات في الغرب. فلو أُنفِقَ كامل الدخل الآتي من هناك على تغذية الناتج المحلّي في السويد أو ألمانيا أو سواهما، لما وصَلَنا منه شيء، ولكان النموّ بأكمله، الذي يعزّزه هذا الدخل أو سواه، من نصيب الاقتصادات التي استقرّ فيها المهاجرون. وهذا يعني أنّ القاعدة في الإنفاق هناك هي أن ينفق المرء حيث يَعمل ويعيش، لا حيث يقيم أهله أو ما تبقّى من عائلته. أمّا الاستثناء، فهو ما يحصل مع الأجزاء من الدخل المُرسَلة، على شكل تدفّقات نقدية، إلى هنا، لمساعدة العائلات الباقية في الداخل على تجاوز تبعات الأزمة الاقتصادية. التحويلات بهذا المعنى، هي بمثابة تهريب لأجزاء بسيطة من أجور الطبقة العاملة التي انتهى إليها المهاجرون، من طريق آلية التراكم التي تحصل هناك.

تغذية وهم الاستعاضة
جوهر المشكلة، كما تبدو من هذا المنظور، هي في انتقال الإنتاج، مع الهجرة واستقرار نموذج التحويلات، إلى الخارج، حيث الارتباط الجديد للمهاجرين بدول اللجوء يجعل نشاطهم الإنتاجي، بعد إتمام عملية الاندماج هناك، جزءاً من الهيكل الإنتاجي في الغرب. أي حيث يعيشون ويعملون وينفقون، لا حيث تذهب الأجزاء الباقية من أجرهم بعد اقتطاعِها وإرسالِها إلى دول المنشأ. حصول ذلك لا يغذّي فقط الناتج المحلّي الإجمالي في دول اللجوء أكثر بكثير ممّا يفعل مع الاقتصاد هنا، بل يضفي كذلك على عملية إرسال التحويلات، بعد اقتطاعها من الأجور، طابعاً خارجياً إذا صحّ التعبير. فالتدفقّات النقدية الفرديّة بالعملة الأجنبية، حتى لو كانت تغذّي الإنفاق الاستهلاكي في الداخل، لن تتحوّل يوماً إلى جزء من بنية الاقتصاد الداخلية. ليس فقط لأنها لا تُنتَج في الداخل، ولا تأتي بالعملة المحلّية، بل لأنّ البنية الإنتاجية ذاتها التي يتموضع فيها المهاجرون، ويحصلون عبرها على الأجور، مفارِقة لنظيرتها في الداخل.
كلّ ذلك يجب أن يُؤخذ في الحسبان حين تُرسل التحويلات إلى هنا لإعالة العائلات الباقية في الداخل، لأنّ التعامل مع الأمر كما لو كان بنية اقتصادية بديلة، في ظلّ انهيار سعر الصرف وانحسار الإنفاق الاستثماري لمصلحة نظيرِه الاستهلاكي، سيغذّي الوهم القائل باحتواء نموذج التحويلات للأزمة. ما يحصل حالياً، هو أنّ ثمّة ميلاً بدأ يظهر للاستعاضة عن تصدير السلع والخدمات بالأفراد، على اعتبار أنّ العائد من العملة الأجنبية لم يعد يحصل عبر الإنتاج في الداخل، بل في الخارج، وبوساطة الأفراد الذين تحوّلوا إلى جزء من البنية الإنتاجية في الغرب.
* كاتب سوري