توطئةالناظر إلى حال الولايات المتحدة مع بداية العشرية الثالثة للواحد والعشرين، والمتزامنة مع تفشي وباء الكورونا، في عديد المستويات، الداخلي منها والقاري، لا بد قد لمس تراجعاً نسبياً في علاقات وموازين القوة بينها وبين الخصوم، الإقليميين منهم والكونيين.
دواعي ذلك التراجع عدّة:
1) شرخ داخلي يتعمّق باضطراد حول أمّهات مسائل، كمثالي: الهيمنة الكونية الشاملة لقاء الانكماش المصحوب بقوة انتشار انتقائية؛ والمحافَظة الاجتماعية، مشبوبةً بتديّن ثاوٍ، في قضايا الإجهاض والجندر والتعليم قبالة التحلّل من نواميسها.
2) صعود عسير الفرملة لقوىً تحت كونية - فوق إقليمية، صاعدة وغير مستعدة للتبعية أو التدجين، وفي الرأس منها الصين.
3) سلّة من قوىً إقليمية مقاومة أو استقلالية أو متنائية، كما في حالات إيران وتركيا والبرازيل.
4) بل وابتزازها من قِبل بعض الحلفاء المزمنين، في الخليج مثلاً، بوشائج مستجدة وسريعة التصاعد مع من اختارتهما خصميها لدودين: روسيا والصين.
في المقابل، وبمعايير القوة الكلّيانية الشاملة فما زالت الولايات المتحدة القوة الأعظم في العالم، ولكن كعوب أخيلها هي حين ذهابها إلى مواجهات بؤرية، إقليمية أو محلية الطابع، فتسقط في شباك حدود القوة ومن ثم فوز المنازِل.

صراع وتوافق نهجين في الولايات المتحدة
كان في الخلفية انتزاع اليمين، الشعبوي/القومي، الجديد، سدّة الرئاسة في سباق 2016، ودأبُ مترادفات حزب الحرب/ دولة الأمن القومي/ المؤسسة الحاكمة/ الدولة العميقة على تخريب رئاسة رمزه، دونالد ترامب، وإعاقة إنفاذه نهج الانحسار الكوني الممنهج، والذي شمل في ما شمل دمج إسرائيل والحلفاء العرب في منظومة إستراتيجية، بأبعاد عسكرية واقتصادية واستخبارية وخلافه، سبيلاً إلى توضيب حال الحوض العربي الإسلامي - الإسلامدار - من دون حاجة إلى انخراط أميركي مباشر. ورغم التفارق بين المدرستين في كل شيء، إلا أنهما توافقتا على مسألة الحلف الإسرائيلي «العربي»، من باب أنه يؤمّن الامتداد الأمامي للولايات المتحدة - إسرائيل - خير تأمين، لا سيما والفكرة نبتٌ قديم لدى «المؤسسة»، تبرعم أول ما تبرعم، ربيع عام 1981، حين أعلن وزير خارجية ريغان، الكسندر هيغ، أن الوقت قد أزف لتشييد «إجماع إستراتيجي» ضم إسرائيل وعرب أميركا، بقيادة أميركية، في وجه الخطرين السوفياتي والإيراني.
ما أعاق هيغ عن نيل مناه كان وجود عقبات كؤود أمامه، كالأسد وصدام والقذافي، فاستهلّ حملة تعبيد المسار بتقويض المقاومة الفلسطينية في لبنان بواسطة إسرائيلية، عام 1982، وفي وقت كانت فيه الحرب العراقية-الإيرانية، المؤجّجة أميركياً، تأخذ من الصراع العربي الإسرائيلي قوتي العراق وإيران.
والحال أن عقود 1990-2020 الثلاثة كانت عقود الهيمنة الأميركية شبه الكاملة على «الحوض»، رغم هزّة 11 أيلول، وبلغت حدّ غزو العراق واحتلاله، والتفنّن، تلواً، في إيقاد فتنة سنية-شيعية عابرة لـ«الحوض» مذّاك؛ ولم يُطفأ سعيرها بعدُ بالتمام. ثم ألحقته بتجويدها انتهاز «الربيع» العربي لمصلحة مقاصدها في المنطقة، وبتحديدٍ في كل من ليبيا فسوريا.

صعود إيران إقليمياً
طوال تلك المدّة، مزجت إيران في سعيها إلى بناء قوة إقليمية مستقلة الإرادة ومعتدٍّ بها بين:
1) التزامها بمقاومات عربية، تعبيراً عن حاجتها أن تكون طرفاً في الصراع ضد إسرائيل، أكان من سبيل تثبيت شرعية أم من فهم سديد لمنطوق الجغراسياسة، مفاده أن قيامة إيران في الإقليم متناسبة عكساً مع فرط قوة إسرائيل فيه.
2) تطويرها لبرنامج نووي، كان عسكري الطابع في البداية وإلى أن سلّمت المعارضة الإيرانية أسراره إلى واشنطن وتل أبيب مطالع العشرية الأولى للقرن، ثم اتّخذ لبوساً سلمياً مذّاك تحت عين الرقابة الدولية وبصرها، من دون أن يعيقه اللبوس ذاك عن الوصول بإيران إلى العتبة النووية.
3) «صبر إستراتيجي» مديد تحمّلت فيه نظام عقوبات غربياً أثخن فيها إيلاماً.
4) تقاطعات مصالح، تكتيكية الطابع، بينها وبين الغرب، كما في حالتي أفغانستان والعراق.

فوات الرسمية العربية
في المقابل، كان الفوات ديدن الرسميات العربية، التابعة لواشنطن منها أم غير التابعة أم تلك التي في منزلة بين المنزلتين، أسّه من أوانٍ مستطرقة:
1) الوصول بالخصومة مع إيران إلى حدود الصراع المسلح في سوريا واليمن، والفتنة الأهلية في لبنان.
2) الخروج بالعلاقة مع إسرائيل من قبو الإخفاء إلى سطح التماهي.
3) الحروب الأهلية المتنقلة، من الجزائر إلى العراق فليبيا فسوريا واليمن فالسودان، مع صراع أهلي تحت-مسلح في مصر، وفتنة جوالة في لبنان وحتى تونس.
4) الانفجارات الاجتماعية ذات الصلة بتراجع التنمية وتزايد السكان وهجمة الجفاف واتساع الفوارق الطبقية وشيوع الفساد.
5) والنتيجة الكلية: استفادة إسرائيل حتى الثمالة، بما ملأها طموحاً في تحويل الفوات إلى موات.
تجلّى ذلك في إمعانها ببسط استيطانها الإحلالي في الضفة وحصار غزة وانتهاك الأقصى، متكئة على سلطة محلية حارسة لأمنها، ناهيك بدعم مفتوح من راعيها الأميركي، راح يسارع في طلب تطبيع عربي شامل مع امتداده في الإقليم، من دون اكتراث بصلب القضايا: فلسطين، أرضاً وشعباً. كانت تلك هي أجواء 6 أكتوبر 2023.
كان ما فعله السنوار وصحبه يوم 7 أكتوبر أشبه بمن فتح بطن الغرب الجماعي، وصرّته إسرائيل، ولعب بأمعائه/ا شدّاً وإرخاء


الطوفان
مقاومة فلسطين، وفي الرأس منها «قسام» حماس، كان لها، عند تلك النقطة من مسار الحوادث، قولٌ آخر قلَب الموائد على رؤوس أصحابها، ابتغاء من تغاضى أو أهمل أو تواطأ في أنها وقضيتها الرقم الإستراتيجي الصعب في المنطقة وأبعد، وأن إشعال الحريق سبيل أوحد لشقّ الطريق نحو إجلاء إسرائيل، احتلالاً واستيطاناً وتبعيةً، عن الضفة الغربية والقدس الشرقية، ورفع الحصار عن غزة، لقاء هدنة طويلة الأمد.
لم تكن لديها أوهام في يُسر تلك المهمة، ولكن نجاحها الباهر في ذلك اليوم المشهود، والذي فاجأها مداه كما فاجأ عدوها والعالم، فاض رد فعله عند إسرائيل عمّا يمكن لأحدٍ، سواء هي أم العالم كله، توقّعه من فجور جنوني وعربدة إبادة جماعية. كان ما فعله السنوار وصحبه يوم 7 أكتوبر أشبه بمن فتح بطن الغرب الجماعي، وصرّته إسرائيل، ولعب بأمعائه/ا شدّاً وإرخاء.

خلفية الطوفان
لقد وصلت واشنطن إلى 7 أكتوبر ومجتمعها يوشك على الانزلاق إلى شقاق أهلي محتدم. أوروبا الحليفة تتعرّض لانكشاف إستراتيجي بفعل الرجحان الروسي في الحرب الأوكرانية، معطوفاً على تراجع اقتصاداتها، على خلفية الحرب الاقتصادية الغربية المشنّة على روسيا، وعلى تصاعد قوة اليمين القومي/الشعبوي في دولها. ربيبتها إسرائيل تعيش شرخاً مجتمعياً مُحال التجسير، ويحكمها يمين مسياني قيامي لا يعرف طبيعةً لصراعه مع الشعب الأصلاني سوى صفريته. منافستها الرئيسية الصين تمضي بسرعة الضوء إلى تنافسية مكتفية في مجالات التقانة وفي ميدان السلاح. ثم كلٌ من الصين وإيران يسهم في الحرب الأوكرانية عوناً لروسيا. وإيران عند العتبة النووية.

في صدّ الطوفان
لقد بدت كل العقود الخمسة الممتدة منذ هزيمة الـ67، وما أفرزته من إيكال وظيفة الوكيل الإقليمي الرئيسي إلى إسرائيل، وقد ذرتها الرياح. استدعى الأمر جهداً خارقاً من الغرب الجماعي لتمكين إسرائيل من استئنافها، الوظيفة، والتي كان جهد تأطيرها في منظومة ناتو إسرائيلي-«عربي» جارياً على قدم وساق منذ بروفة أيار 2021 الأخيرة في غزة، وعلى قاعدة تطبيع سعودي-إسرائيلي يتوِّج المسيرة «الإبراهيمية».
كان شغلها الشاغل، إثر القارعة، أمران: إيقاف إسرائيل على رجليها بعد أن طوّح بها «القسام» أرضاً لسحابة نهار فارق، وجعَل من جيشها الجيش الذي يُهزم، وأفزع مجتمعها متسبّباً له في ذهانٍ جماعيٍ ضرب معه رأسه برجليه وصرخ: الثأر التورا/تلمودي ولا شيء سواه.
تبنّت واشنطن الافتتاحية الجوية الإسرائيلية لأسابيع ثلاثة، أُلقيت خلالها أحزمة نار بقوة 40 ألف طن مقذوفات. صار رئيسها ووزراؤها أعضاء في كابينيت الحرب الإسرائيلية، وضباطها مشيرون في غرفة عمليات «تساهل». فُتحت مخازن سلاحها وذخيرتها على مصراعيها لتقيم أوده، وهو الذي لا يستطيع مداومة القتال، من دون مدد أميركي، سوى لعشرين يوماً. تجنّدت «لانغلي» وأخواتها لاستخبار ما لزِمه. تقبّلت واشنطن قيام «تساهل» بالهجوم البري، فقَطعُ رأس «قسام» حماس أوجب الواجبات عندها، مع تحفّظ لها على مديّاته هنا وهناك، لا بداعي الحرص على حيوات البشر، بل لعقم جدواها، من جهة، ولعظَم كلفتها السياسية من جهة أخرى.
شغَل بال واشنطن انتفاع روسيا، بل والصين، من الانشغال المتزايد لها في غرب آسيا جرّاء حدث 7 أكتوبر، لا سيما في ضوء تعزّز العلاقات الروسية - الإيرانية العسكرية على المسرح الأوكراني، وتزايد استهلاك الصين للنفط الإيراني.

الحرب الإقليمية خارج الصراع
سعت واشنطن، منذ الدقيقة الأولى، إلى درء خطر التوسعة لنطاق الحرب في غزة إلى حرب إقليمية كبرى. وتلاقى سعيها مع تفضيل إيران، غير المتدثّرة بعد بسلاح نووي، له، مستنّة عوَضه إشعال الطوق المحادّ لإسرائيل، من جهة، وطرق الاقتراب إليه، من جهة أخرى، كما تمثّل في جبهة شمالٍ لبنانية مسنِدة، وفي إخراج الملاحة من وصوب إسرائيل، يمنياً، من التداول.
عليه، فلقد حملت مقاومة غزة، وفي الرأس منها «قسام» حماس، على كتفيها عبء منازلة «تساهل»، أكان في تلقّيها ما فاض عن 60 ألف طن مقذوفات أُصلِيتها وشعبها من الجو والبحر والبر، أم في الاشتباك مع قوات الغزو البرية - بقوة 5 فرق - بسبيلي التعرّض المباشر لانتشارها، أو بالخروج إلى مطاولتها في إغارات مستنزِفة، ومن مأمن الأنفاق، ولسبعة أشهر متصلة في الليل وفي النهار.

خيبة «السيوف الحديدية»
وبعد أن أنفق «تساهل» نصف عام ونيّف وهو يبارز في شمال القطاع ووسطه بأقصى ما لديه من عدّة وعدد ونار، أشارت عليه واشنطن بالانكفاء والاكتفاء بغارات بؤرية من غلاف القطاع. ما بين ذلك وما بين الفشل في اصطياد قيادة حماس واكتشاف أماكن الرهائن، تصاعدت درجة الذهان المجتمعي في إسرائيل، ممثّلاً بانقسام حاد حول كل شيء، وفي الصُلب مسائل الحرب والسلام. وفوق خيبة أمل واشنطن في «تساهل» فقد انضافت فوقه إعاقة الانقسام الجوّاني في إسرائيل إنفاذ مطلب واشنطن في إزاحة اليمين المتطرف من المشهد والإتيان بيمين وسط يتماشى مع رؤيتها لناتو شرق أوسطي، رؤيةٌ اقتضت مقاربةً للمسألة الفلسطينية، ملؤها السراب؛ أي ما دعي بحل الدولتين.

ما بعد الطوفان
خرجت الولايات المتحدة من الطوفان بجملة تحوّلات طالتها وحلفاؤها وخصومها، في آن.
شملت مخرَجات الطوفان المستجدّة:
1) تراجع الوزن النوعي للولايات المتحدة في عموم، وسواءٌ في صورة تحدٍّ إقليمي كحرب الإسناد اللبنانية – اليمنية، أم في توسيع حلفائها الإقليميين المزمنين لهوامش حركتهم نسبةً إلى متنها.
2) اتّساخ قوتها الناعمة، في ضوء شراكتها الراعية لإسرائيل في حملة الإبادة الجماعية، فباتت عصيّة على أفهام ومعَد أي متلقٍّ لدعايتها.
3) انبعاث انتفاضة طالبية في جامعات النخبة الأميركية، سرعان ما امتدت إلى باقي جامعات الغرب الجماعي، جذّرت اندخال «فلسطين» في الذهن الجمعي الأميركي/الغربي كإحدى القضايا الفارقة في حياة المجتمع، وعلى خلفية نبذ إسرائيل الربيبة كياناً خارج الناموس.
4) بدء اعتبار الصهيونية عامياً وباءً انبغى التعافي منه، وحتى بين شرائع متّسعة من اليهود، ورغم استمساك النخب الغربية الحاكمة بها بفجور مُهين.
5) خروج إيران من بيات «الصبر الإستراتيجي»، كما مثّلته ليلة 13/14 نيسان.
6) تلاشي سطوة الردع الإسرائيلية، وانهيار سمعة وسائطه.
7) استماتة واشنطن في جبه التيار المناوئ لمقاصدها في الإقليم في صورة ناتو إسرائيلي – «عربي» مصحوب بتطبيع شامل طليعته سعودية، وما زالت المحاولة جارية.
8) توثّب روسيا والصين - وبالذات الأولى الأخبر - لإزاحة الولايات المتحدة من المنطقة، فصعودهما من مرتبة تحت الكوني/فوق الإقليمي إلى الكوني بامتياز حتّم توطّد مكانتهما فيه، وبما شمل من دور قابلة سلام عربي – إسرائيلي، يرَون ضرورته.
9) تردّي أحوال الاقتصاد الإسرائيلي، مُرفقاً بازدياد الهجرة إلى الغرب.
10) انغراس تناذر الدعث في المجتمع الإسرائيلي، كمثال حالات عدم تلبية الاحتياط طلب الالتحاق بالخدمة.
11) انتعاش الجهادية السلفية من جديد، وكما في كلّ مرّة يكون الغرب الجماعي فيها طليعة محترفي الدوس على الإسلامدار.
12) تفاقم خشية المَلكيات من سوء أحوال إسرائيل، معطوفاً على ازدياد رهابها من إيران، لحدّ الدفاع عسكرياً واستخبارياً عن الأولى وضدّ الثانية، تحت قيادة غربية - أساساً أميركية - في موقعة صواريخ نيسان.
13) مهمٌ الانتباه إلى اتّساع الشرخ بين الراعي ونمروده، في ضوء تمرّد الأخير على ضوابط الأول، وحيرة الأخير في كيفية تدبّر إيصال طاقمٍ حاكمٍ يُسلس القياد له.

* ورقة قدّمت إلى الدورة الـ33 للمؤتمر القومي العربي (دورة «طوفان الأقصى») التي انعقدت في بيروت الأسبوع الماضي

** كاتب عربي