بعد سنوات من التردّد والتسويف والممانعة التي دأبت عليها الحكومات العراقية المتتالية، اتخذت حكومة السيد محمد شياع السوداني، التي شكّلها ويدعمها تحالف الأحزاب الإسلامية الشيعية (الإطار التنسيقي) خطوة عملية مهمة للبدء في تنفيذ مشروع مثير للجدل هو مشروع أنبوب نفط «البصرة – العقبة». تم إدراج المرحلة الأولى منه، والتي تصل بالأنبوب إلى مدينة حديثة في الموازنة العراقية العامة وتخصيص مبالغ ضخمة لهذه المرحلة قدّرت بأربعة مليارات وتسعمئة مليون دولار (تعادل ستة تريليونات وأربعمئة مليار دينار عراقي). ومعلوم أن العراق سيتحمّل تكاليف بناء الأنبوب داخل الأردن أيضاً وحتى ميناء العقبة، ثم تؤول ملكية القسم الأردني منه بعدها إلى الأردن. تاريخياً، تعود أوليات هذا المشروع إلى سنة 1983 حين اتفق العراق والأردن خلال الحرب العراقية الإيرانية على مدّ هذا الأنبوب. وجرى التخلي عن المشروع وإهماله بعدما فشلت الدولتان في الحصول على ضمانات دولية بعدم تعرض الكيان الصهيوني للأنبوب وتدميره. وبعد إسقاط الحكم العراقي السابق واحتلال العراق وقيام النظام الجديد، عاد المشروع إلى الواجهة سنة 2012، حيث اتفق رئيس مجلس الوزراء العراقي آنذاك، نوري المالكي، مع الأردن على البدء بتنفيذ هذا المشروع بعد عام من الاتفاقية العراقية الأميركية على انسحاب قوات الاحتلال. وقيل حينها إنَّ موافقة حكومة المالكي على هذا المشروع تأتي جزءاً من ثمن الانسحاب الأميركي، السرّي، وتسليم قيادة الحكم للأحزاب الإسلامية الشيعية. وقد زار وزير النقل العراقي آنذاك، هادي العامري، الأردن سنة 2014 وأبلغ عمّان موافقة العراق على المشروع وقرب البدء بالتنفيذ. وبعد عام واحد، أي في سنة 2015، زار وزير النفط آنذاك، عادل عبد المهدي، الأردن وكرّر موافقة العراق على المشروع وأعلن إشراك مصر فيه.
لكن المشروع تعرقل مجدداً بعد اجتياح تنظيم «الدولة» (داعش) وسيطرته على ثلث مساحة العراق وانتهاء فترة حكومة المالكي الثانية بهزيمة قواته التي شكّلتها ودرّبتها واشنطن أمام مسلّحي «داعش». وفي سنة 2017 تجدّد الضغط الأميركي على رئيس الوزراء الذي قاد عملية القضاء على تنظيم الدولة، حيدر العبادي، وصرّح هذا الأخير بأن العراق دعا الشركات المتخصصة إلى تقديم عروضها لتنفيذ المشروع، وتلت ذلك فترة من التسويف والضغوط الأميركية. وفي سنة 2019، وقبل استقالته، أعلن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي أن حكومته أعادت النظر كلياً بالمشروع ليكون ثلاثياً؛ عراقياً أردنياً ومصرياً. ومع حكومة مصطفى الكاظمي، بلغ الإصرار العراقي على تنفيذ المشروع أوجه، وظل رئيس الحكومة يصرّ على تنفيذه حتى أيامه الأخيرة، لكنه رحل وترك هذه القنبلة الاستراتيجية على مكتب خليفته الحالي!
لقد تعرّضت حكومة الكاظمي، المتهمة بالتقارب والتعامل المباشر مع السفارة الأميركية، لنقد حادّ ومحقّ من مجموعة الأحزاب والفصائل الإسلامية الشيعية الحليفة لإيران آنذاك، ولكن - ويا للعجب - فهذه المجموعة الناقدة نفسها غيّرت موقفها 180 درجة عملياً وسكتت هذه الأيام على الحكومة الحالية التي بدأت التنفيذ فعلياً.
لقد قيل الكثير عن هذا المشروع، وهو يعود كما بيّنّا إلى مرحلة ما قبل الاحتلال الأميركي، ولكن طبيعته وأهدافه تغيّرت خلال سنوات الاحتلال الأولى، وأمسى واحداً من عدة مشاريع وضعتها «مجموعة كروكر» (وهي مجموعة مخابراتية أميركية بعضوية خبراء عراقيين للتخطيط والتنفيذ، وكنتُ قد أمطتُ اللثام عن هذه المجموعة وأسماء أعضائها وأهدافها في مقالة بعنوان «هل تحكم مجموعة كروكر العراق؟» نُشرت في «الأخبار» في عدد 7 أيلول 2017).
لنلقِ الآن نظرة على هذا المشروع من داخله ومن خلال ما قاله الخبراء والمتخصصون والساسة والصحافة الأجنبية:
نشرت صحيفة «إندبندنت عربية»، بتاريخ الخميس 1 تموز 2021، تقريراً اقتصادياً مفصلاً عن هذا المشروع بعنوان «العراق يصرّ على تنفيذ أنبوب "البصرة - العقبة" النفطي، رغم الانتقادات» خلصت فيه إلى أنه «لا قيمة تجارية له على الإطلاق، لأن كلفة نقل البرميل الواحد فيه قد تصل إلى تسعة دولارات إضافية مقابل ستين سنتاً عن طريق موانئ البصرة».
وفي تفاصيل وأوليات الموضوع أيضاً، نعلم من تقرير «إندبندنت عربية» أن المشروع «منذ الإعلان عن الاتفاق بين الحكومة العراقية السابقة، برئاسة عادل عبد المهدي، والحكومة الأردنية في عام 2019، واجه سلسلة انتقادات وتشكيكاً من أحزاب وجماعات شيعية، وصلت إلى حد اعتباره بدايةً للعلاقة مع إسرائيل خلال الفترة المقبلة».
ونقرأ أيضاً رأياً للباحث العراقي في مجال النفط حمزة الجواهري، قال فيه إنَّ «الكُلَف المرتفعة لتصدير النفط العراقي عبر الأنبوب العراقي - الأردني والمخاطر الأمنية من تفجيره تجعل منه غير مجدٍ اقتصادياً». وأضاف الجواهري أن «26 مليار دولار - بجميع مراحله - كُلفة إنشاء الأنبوب النفطي وهو رقم كبير، ما يعني أن كُلفة مرور برميل النفط الواحد ستبلغ تسعة دولارات. في المقابل، فإن كُلفة تصديره من الخليج عبر موانئ البصرة هي 60 سنتاً». الجواهري أضاف أن «العراق سيقدم ضمانات سيادية - وهي ضمانات خطرة لا تجرؤ أغنى الدول على تقديمها - من أجل إنشاء هذا الأنبوب كونه سيكون أنبوباً عراقياً، وبالتالي سيكون المستفيدان منه هما دولتا الأردن ومصر، أما العراق فسيتحمل أي خسائر تطرأ». أمّا عن دور إسرائيل، فقد أوضح الباحث العراقي أن «الأنبوب يمرّ عبر مضيق تيران الذي تتحكم به إسرائيل بضمان عدة دول جميعها على علاقة جيدة بها»، معتبراً أن «أفضل الحلول هو استمرار تصدير النفط عن طريق موانئ البصرة على الخليج مع زيادة قدرتها التصديرية».
خبير اقتصادي عراقي آخر هو د. عبد علي عوض كان أكثر صراحة وحدّة، فوصف هذا المشروع بالكارثة! يخبرنا د. عوض في مقالة له: «لقد أبدَت عدة شركات استثمارية استعدادها لإنجاز ذلك المشروع، وفي البداية قدّمت التكاليف التخمينية بمقدار 18 مليار دولار... وهذا يعني أنّ العراق سيدفع مبلغاً يزيد على تكلفة النقل المعتادة بأربعة أضعاف على استخراج برميل واحد من باطن الأرض! ويتضمّن المشروع إقامة محطات الضخ، إضافة إلى إنشاء مستودعات التخزين في ميناء العقبة... والجانب الأردني لن يدفع سنتاً واحداً من تكاليف إنجاز ذلك المشروع، إنما يريد قطف ثماره من دون أية نفقات».
يعدّ هذا المشروع العبثي والذي لا طائل تجارياً منه إحدى فقرات مشروع أطلق عليه «الشام الجديد»، ثم غيّروا اسمه - لأنه لا يمرّ بقلب الشام سوريا ولبنان - وسُمِّيَ مشروع «المشرق الجديد»، وهو مشروع أميركي غربي إسرائيلي يهدف في الدرجة الأولى إلى زجِّ إسرائيل في اقتصادات المنطقة ومحاصرة سوريا وإيران ومعهما كل دولة ترفض التطبيع والاستسلام.
إنّ من المعروف أن نفط العراق يذهب أغلبه إلى دول في آسيا وجنوب شرقها، وفي مقدمتها الصين والهند وأقصر طريق لها هو عبر موانئ العراق، فالخليج والمحيط الهندي. أمّا البحر الأحمر فلا يؤدي إلا إلى الكيان الصهيوني ومصر والسودان وإثيوبيا ودول جنوب أفريقيا واليمن والسعودية، ومعظم هذه الدول ليس لها أي تعامل تجاري نفطي مع العراق، أو أنها دول منتجة ومصدرة للنفط كالسعودية، فلا يبقى سوى إسرائيل، وأول دولتين عربيتين اعترفتا بها وتطبّعان معها وهما الأردن ومصر، وها قد اتضحت خطة المشروع الآن؟
إضافة إلى كل ما سبق، تأتي الكلمة الفصل في كشف حقيقة مشروع أنبوب البصرة العقبة بالأرقام والوقائع في مقالة مهنية للخبير النفطي العراقي أحمد موسى جياد، بعنوان «أنبوب نفط البصرة - العقبة... الاعتبارات الاقتصادية والقانونية والجيوسياسية والجيواستراتيجية» وردت فيها الخلاصات التالية، نقتبس أهمها حرفياً عن المقالة:
- في أقل من أربعة أشهر في عام 2021 عرض وزير النفط العراقي موقفين متناقضين تماماً يتعلقان بكلفة ونوعية عقد تنفيذ هذا الأنبوب، حيث تباينت الكلفة بما يزيد على 14 مليار دولار رغم بقاء الأساسيات الفنية ومكونات المشروع على ما هي عليه وبدون تقديم أي تفسير لهذا التباين غير المسبوق.
- يُستخلص مما تقدم ما يأتي: أولاً، عدم توفر أي منفذ لتمويل المشروع لغاية 14 نيسان 2022. وثانياً، لا يوجد أي مؤشر لتوصل وزارات النفط والتخطيط والمالية إلى إمكانية تمويل المشروع ضمن اتفاق إطار التعاون الاستراتيجي الصيني – العراقي.
- لم تعرض وزارة النفط لغاية تاريخه دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، رغم التغيير الهائل في كلفة المشروع وتبديل العقد التنفيذي ونوعيته!
- في 20 تشرين الأول 2021 ذكرت وزارة النفط أن كلفة المشروع تبلغ 12.1 مليار دولار، وتشمل أربع فقرات وهي الكلفة الرأسمالية وكلفة التمويل ومبلغ الاحتياطي ومبلغ الإشراف والمراقبة (تبلغ الكلفة الرأسمالية وكلفة التمويل 10.917 مليارات دولار).
- تقول الوزارة إنَّ «البيئة السياسية، القانونية متوفرة في كل من العراق والأردن»، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تمت دراسة اتفاقية «وادي عربة» (بين الأردن والكيان الإسرائيلي) وتقدير مدى تأثيرها على الأنبوب من الجوانب كافة: التنفيذ والتشغيل والأمنية؟
- نظرياً، لو تم تطوير جميع منافذ التصدير - الموجودة الآن - فسيكون للعراق طاقات تصديرية تفوق أكثر من ضعفي الطاقة الإنتاجية للنفط. يبلغ مجموع هذه المنافذ ما يزيد على 13 مليون برميل يومياً، منها 7 ملايين برميل يومياً كانت من خلال منافذ التصدير في تركيا وسوريا والمملكة العربية السعودية.
- تشير المعلومات إلى إمكانية توفر خطين لتصدير النفط من خلال سوريا: الأول قديم بطاقة 2.2 مليون برميل يومياً ويحتاج إلى إعادة تأهيل مكثفة وينقل نفط كركوك إلى كل من حمص وميناء بانياس، والثاني جديد ينقل النفط الثقيل من الحقول الشمالية إلى طرطوس وبطاقة 1.5 برميل يومياً؛ وبذلك يمكن أن تتوفر طاقة تصديرية من خلال المنفذ السوري تفوق أنبوب البصرة - العقبة في حالة إكمال مدّ كلا الأنبوبين أو أيٍّ منهما.
- إن كلفة ضخ البرميل بالأنبوب من البصرة إلى العقبة بواقع 10.33 دولارات مرتفعة للغاية، مقارنة بكلفة النقل البحري من البصرة إلى العقبة والتي تستطيع شركة التسويق الحكومية «سومو» تحديدها بدقة. وهذا ربما يفسر عدم حماسة المدير العام لسومو، حيث قال حديثاً ما معناه: إذا كانت كلفة النقل بأنبوب «البصرة - العقبة» مرتفعة فإنها تردع المشترين الذين لديهم بدائل أخرى.
- في ضوء ما ذكر أعلاه في هذه المداخلة ومداخلاتي السابقة حول الموضوع، قد يكون من الضروري اللجوء إلى القضاء وخاصة إلى المحكمة الاتحادية العليا لتقييد السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء ووزارة النفط والشركات التابعة لها) وعدم سيرها في المشروع لحين تقديم ما يثبت أن هذا المشروع يحقق أفضل مصلحة للشعب العراقي؛ لذا فإنني أدعم أي تحرك بهذا الاتجاه حفاظاً على المصلحة الاقتصادية للعراق وللقطاع النفطي.
أما بخصوص العلاقة المباشرة للكيان الصهيوني بمشروع أنبوب نفط البصرة - العقبة ومقدار الفائدة التي سيتحصل عليها، فلنطّلع على هذه الشهادة المهمة (بالصوت والصورة) للخبير العراقي في ميدان اقتصادات النفط حمزة الجواهري، والذي سبق للمحكمة الاتحادية العليا أن انتدبته مستشاراً قضائياً تحكيمياً في قضية الطعن في مشروع شركة النفط الوطني، وارتضت تقريره المنصف الذي قدّمه وحكمت بموجبه للطرف العراقي الوطني الاستقلالي الطاعن في المشروع. وقال السيد الجواهري في لقاء تلفزيوني معه أجري قبل بضعة أسابيع إنَّ خط «البصرة - العقبة» النفطي هو حصان طروادة للتطبيع مع إسرائيل. وإن واشنطن تضغط على بغداد لتنفيذه. وأضاف موضحاً: «من هذا الخط ستأخذ الأردن 200 ألف برميل من النفط يومياً بخصم عشرة بالمئة، وتأخذ مصر 300 ألف برميل بخصم 18 بالمئة ثم تبيعه مصر إلى إسرائيل بخصم 8 بالمئة فتحصل على ربح عشرة بالمئة. والعراق سيدفع تكاليف خط البصرة - العقبة كلها وحتى للقسم المارّ في الأردن، وبعد عشرين سنة ستؤول ملكية هذا القسم من الخط إلى الأردن».
وأخيراً، هل بلغ الخيار بين الاحتفاظ بسلطة الفساد والطائفية السياسية من قبل الأحزاب الإسلامية الشيعية في «الإطار التنسيقي» مقابل التفريط بثروات العراق والسير في طريق التطبيع وإنعاش الكيان الصهيوني مرحلة جديدة مع البدء بتنفيذ هذا المشروع؟ وما موقع قانون تجريم التطبيع مع هذا الكيان المسمّى «قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني الرقم (1) لسنة 2022»، والذي سنَّهُ مجلس النواب العراقي ذاته، الذي يلتزم الصمت هذه الأيام على هذه الخطوة التطبيعية الخطرة، وربما سيصوّت قريباً لمصلحة إمرار الموازنة والبدء بالمشروع؟

*كاتب عراقي