«الهيمنة تولد في المصنع»أنطونيو غرامشي
في مناهج الاقتصاد السياسي (الاقتصاد السياسي المقارن، الاقتصاد السياسي الدولي...)، يكون الهدف الجوهري من كلّ البحث هو في التنظير لحالة الرأسمالية اليوم: كيف تتشكّل القيمة؟ ما هي أنماط الإنتاج السائدة؟ كيف يختلف، بهذه المعاني، اليوم عن الأمس؟ والقصّة هنا، وبخاصة في المجتمعات الصناعية المتقدّمة، تبدأ غالباً من لحظة انحسار واندثار الفوردية منذ سبعينيات القرن العشرين. اسم “الفوردية” مشتقٌّ بالطبع من الصناعي هنري فورد، ولكنّه مصطلح يعبّر عن نمط إنتاجٍ كامل، هيمن في أغلب الدول الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية حتى أصبحت “الفوردية” وخط الإنتاج “الفوردي”، في مخيّلة الكثير من الناس، مرادفيْن للمجتمع الصناعي في ذاته (مع أنّ الفوردية لا تمثّل سوى أقلّ من نصف قرنٍ من عصر الصناعة المديد والمتنوّع). أنطونيو غرامشي، الفيلسوف الإيطالي الماركسي، كان من أوّل من نظّر للفورديّة وهيمنتها القادمة (في نصٍّ اسمه “الأمركة والفوردية”، من كتاباته في السّجن) وقد تنبّأ بشكل المجتمع الذي سوف تستولده هذه النزعة الجديدة، وذلك كان منذ أوائل الثلاثينيات. حذّر غرامشي من أنّ العلاقة بين العامل ورأس المال سوف تخرج عن نمط الاستغلال البدائي، حيث يحاول المصنع “عصر” العامل إلى الحدّ الأقصى بحثاً عن الرّبح، ويعطيه أجراً لا يكفيه سوى للحياة والتوالد. جزءٌ أساسي من خطّة هنري فورد كان في “يوم العمل بخمسة دولارات” الذي أعلنه عام 1914، وهو ما كان يومها يُعتبر أجراً مرتفعاً لعاملٍ غير ماهرٍ على خطّ التصنيع. الفكرة هي أنّ التكنولوجيا والإنتاج الفوردي الكثيف، الذي يجري في مصانع هائلة مبنية من الأساس حول العقلنة وخفض الكلفة، يسمحان برفع إنتاجية العامل بشكلٍ مدهش. هنا أنت تعطيه راتباً أكبر، ليس عن كرمٍ وإنسانيّة، بل لأنّك تحتاج إليه لأن يستهلك وأن يشتري، هو وأمثاله، نتاج المصنع الذي يعمل فيه: سيّارات هنري فورد مثلاً (وهو اشتهر بدايةً بـ”نموذج تي” الذي اكتسح السوق الأميركي: سيارة رخيصة وذات كفاءة، تخرج بالآلاف يومياً من بوابة المصنع، ويبنيها جيشٌ من عمّالٍ نصف-مهرة، يقوم كلٌّ فيهم بواجبه الصغير المحدّد سلفاً على خطّ إنتاجٍ ضخمٍ معقّد - والسيارة موجّهةٌ أساساً إلى جمهورٍ يشبههم من الزبائن).
هنا نصطدم بالوجه الآخر للزيادة في الإنتاجية (بفضل التكنولوجيا والتنظيم الحديث): من الذي سوف يستهلك كلّ هذه السّلع؟ أنت تحتاج في العصر الصناعي المتقدّم إلى طبقة عاملة كبيرة، ولكن بمدخولٍ عالٍ نسبياً وقدرة على الاستهلاك، حتى تشتري السيارات والبرادات والتلفزيونات وبيوت الضواحي التي يتمّ بناؤها بالملايين. حين يرتفع دخل العامل في أميركا يزداد الطلب على السلع، فيوسّع المصنع إنتاجه وتنخفض كلفة السلعة أكثر، فيزداد الطلب عليها مجدّداً، وهكذا دواليك. هذه “الصّفقة” بين المنتجين والعمّال (نموّ مستمرّ في الإنتاج والأرباح يقابله ارتفاعٌ في الدخل والاستهلاك) هي، باختصار، جوهر “المرحلة الفوردية” التي طبعت العالم الصناعي المتقدّم بعد الحرب العالمية الثانية: العقود الثلاثة الشهيرة من النموّ المستمرّ (“الثلاثون العظيمة”)، السياسات الكينزيّة، “دولة الرفاه”، الحداثة الصناعية بمعناها الكلاسيكي… هذه كلّها مفاهيم ارتبطت بالفوردية وبأيام عزّها، وهي أيضاً قد خفتت بالتوازي مع أزمة الفوردية وتفكّكها في السبعينيات وما تلاها. جديرٌ أن نذكّر بأنّ الفوردية، كالكثير من أنماط الإنتاج في العصر الصناعي، لم تكن مقصورةً على العالم الرأسمالي الغربي، بل اعتنق تقنياتها ومبادئها الأساسية - وبالحماس ذاته - الاتحاد السوفياتي أيّام ستالين وأغلب الدول الاشتراكية التي خاضت مشاريعَ للتصنيع في النصف الثاني من القرن العشرين (في مرحلة التحشيد الكبرى لخلق قطاعٍ سوفياتي صناعي كبير، أي في الثلاثينيات وما بعد، كانت هناك مجلّات عمالية متخصّصة في الاتحاد السوفياتي تناقش نظرياتٍ مستوحاة من الفوردية والتايلورية في عقلنة خطوط الإنتاج، ومسابقات تجري بين العمّال لكسر الرقم القياسي في إنتاج سلعةٍ ما).
لم تكن الفورديّة مجرّد مصنعٍ ونموذجٍ للتراكم، بل كانت تنظيماً كاملاً للمجتمع. هل تذكرون حين كانت أفلام الكرتون للأطفال تبثّ، على الإذاعة الرسمية الوحيدة، في أوقاتٍ محدّدة؟ في صباح الإجازة مثلاً، أو في زمن الاستراحة بعد عودة الأولاد من المدرسة؟ هذا كان شذرةً من بقايا المجتمع الفوردي الذي خلق “زمناً” خاصّاً به: العمّال (وأغلبهم ذكور) يذهبون إلى أعمالهم ويعودون منها في الوقت نفسه، فيما النساء يهتممن بالمنزل. هناك وقتٌ معيّن يشاهد فيه الأطفال الكرتون ووقتٌ للفروض المنزلية، ووقتٌ للمسلسل العائلي، ووقتٌ للأخبار، ووقتٌ يقفل فيه البثّ بالكامل، إذ لا يفترض أن أحداً ليس في سريره في مثل هذه الساعة. هذا ليس جدولاً “طبيعياً” أو بديهياً لحياة الناس بل هو العصر الصناعي في القرن العشرين وزمنه ومواقيته، ويعكسه نمط المنزل والعائلة والمجتمع أيامها. اليوم، بالمقابل، اختفى تقريباً نمط “الإذاعة الرسمية”، وأصبحت لديك القنوات المتخصّصة، والبثّ على الإنترنت، وهي غالباً باشتراكات، وهي تعطيك الكارتون أو الأخبار أو المسلسلات على مدار النهار والليل. التنظيم الجماعي “من فوق” لم يعد موجوداً، والإشباع الفوري للرغبة هو العنوان، وهناك شيءٌ معروضٌ لكلّ الأذواق.
يمكن لنا، بدرجةٍ ما، أن نستخدم هذا المثال عن التسلية لتشبيه عملية الانتقال (في الغرب الصناعي) ممّا سُمّي بالمرحلة الفوردية إلى “ما بعدها”. كانت قطعة الثياب التي ترتديها في الخمسينيات والستينيات هي غالباً نتاج مكانٍ واحدٍ كبير تحصل فيه كلّ عملية الإنتاج، تصميماً وتصنيعاً وتوضيباً، وقد ينتج المشغّل التصميم ذاته لسنوات. أمّا اليوم، فإنّ رسالة إلكترونية تصل من لوس أنجليس إلى شينجن أو مومباي، وهي مرفقة بتصميم وبمواصفات، وعدد القطع المطلوبة والمهلة الزمنية. وخلال يومٍ أو اثنين يكون عددٌ معتبرٌ من العمّال (بعضهم مؤقت، وبعضهم قد تمّ توظيفه خصيصاً لأجل هذا العقد، وبعضهم يعمل من منازله مع أولاده) قد انكبّ على صناعة المنتج المطلوب. السؤال الكبير في السنوات الماضية كان في تفسير هذا التحوّل ومعناه، وما الذي يأتي تحديداً “بعد الفوردية”؟

الفوردية وما بعدها
يوجد نقاشٌ طويلٌ ومستمرّ حول ماهيّة “الفوردية” وتاريخها، وهل هي قد وجدت وسادت حقّاً أم نحن نبالغ حين ننظر إلى الخلف؟ وهل كانت هي التطوّر الطبيعي والمحتّم للرأسمالية الصناعيّة، أم أنّها قد اعتُمدت في ظروفٍ تاريخية معيّنة، بسبب حاجاتٍ محددة، وتمّ إهمال البدائل؟ (“الحاجات” هنا كانت عسكرية أساساً، وتحديداً سباق التسلح خلال الحرب العالمية الثانية. فإن كنت تتنافس مع خصمك على إنتاج الدبابات والطائرات بأسرع شكلٍ ممكن - وليس من الضروري هنا أن تمتلك الدبّابة الأفضل بل الأكثر عدداً - فلا شيء سينافس خطّ الإنتاج الفوردي) ولكن هذا النقاش هو ليس موضوعنا اليوم. يكفي القول إنّه كان من الطبيعي أن تصل الفوردية، كغيرها، إلى حدودها كنمطٍ للتراكم والنموّ، وأن تستنفد في نهاية المطاف. هناك أيضاً أسباب ذاتية ونقاط ضعفٍ في المفهوم الفوردي نفسه؛ هو بطبيعته، مثلاً، ليس “ليّناً” ولا يقدر على رفع الإنتاج وخفضه برشاقة للتأقلم مع أحوال السوق. هي، بتعبيرٍ آخر، منظومةٌ مصمّمة لمراحل النموّ والتوسّع الأفقي، ومعامل تشتغل بأقصى طاقتها، ولكنها لا تناسب أوقات الأزمة والانكماش. كما أنّ خط الإنتاج الفوردي كبيرٌ و”جامد”، أيّ تعديل أو تحديث فيه قد يتطلّب تغييره بأكمله، وأي خطأ في مرحلةٍ ما قد يعطّل منظومة الإنتاج ويوقفها. هذا، بالمناسبة، كان حدثاً دائماً ومعتاداً في تلك المصانع، حيث يتوقف الجميع عن العمل لإصلاح عطل ما في مكانٍ آخر، أو يتمّ رمي الإنتاج الذي تبيّن أنّه يحمل خطأً تكرّر بلا انتباه (أعرف أستاذاً بريطانياً كان يعمل في شبابه في معملٍ من هذا النمط، مصنع كبير لإنتاج الشوكولا، وهو يقول إنهم كانوا يبتهجون على خطّ الإنتاج حين تحصل مثل هذه الأخطاء، إذ إنّ الحلوى التي لا يمكن بيعها ستُوزّع عليهم). كما تبيّن أنّه من الصّعب على شركةٍ “فوردية” تقليدية، تريد صنع كلّ قطعةٍ من السيارة بنفسها، أن تنافس - في النوعية وفي التكلفة - نمطاً جديداً من الصناعيين يعوّلون على شبكة منتقاةٍ من المورّدين، كلٌّ منهم قد تخصّص في إنتاج القطعة التي يبيعها حتّى أصبح الأفضل والأوفر في مجاله، ودور الشركة الأمّ يتركّز في التصميم والتنسيق والتجميع النهائي (وهذا ما كان يفعله اليابانيّون، الذين خرجوا بخطوط إنتاجٍ “مرنة” سبقت في النوعية والفعالية منافسيها الغربيين). الأساس هو أنّه، مع أزمة السبعينيات في الغرب والتحولات التي تلتها، لم يحصل مجرّد استبدالٍ لنموذجٍ صناعيٍّ بآخر، بل تغيّرت كامل البنية الاجتماعية للرأسمالية في دول المركز وعملية توزيع القيمة والدخل بين أطرافها.
«من سمات «غوغل» و«آبل» وأمثالهما أنها تحتفظ دوماً بكتلةٍ كبيرةٍ من المال الفائض، أي أرباح لا تعرف ماذا تفعل بها. وهذا لم يكن يحصل في العصر الفوردي، لأن الفائض وُزّع على استثماراتٍ ورواتب للعمال»


سوف أشارككم تحليلاً مثيراً في هذا الإطار خرج أخيراً، هو لباحثٍ اسمه مارك شوارتز (وعمله هنا جزءٌ من مشروعٍ أكبر لمجموعة من الباحثين في الاقتصاد السياسي، خرجت بعض نصوصه في كتابٍ بعنوان “عائداتٌ متناقصة: السياسات الجديدة للنموّ والركود”، من تحرير لوتشيو باكارو ومارك بليث، إصدار أوكسفورد 2022). يعرض شوارتز النظريات المتعدّدة التي قُدّمت لتفسير المرحلة التي تلت الفوردية: سردية التكنولوجيا ووسائل الاتصال، سردية العولمة، سردية “اقتصاد المعرفة”... ويفنّدها كلّها ليقدّم صيغته الخاصّة: “اقتصاد الفرانشايز” (franchise). هو يستخدم تعبير الـ”فرانشايز” من ناحية كتشبيهٍ لعمل الشركات الجديدة التي تهيمن اليوم على السوق، وأيضاً لأنّ أول ظهورٍ لهذا النمط كان تحديداً في قطاع الفنادق والمطاعم السريعة التي اعتمدت مبدأ الفرانشايز. وذلك كان ابتداءً من أواسط الستينيات، قبل أن ينتشر هذا النموذج إلى القطاعات التقنية وغيرها ويصبح، في رأي شوارتز، الطابع الرئيسي للتراكم الرأسمالي في الغرب.
الفكرة الجوهرية هنا هي أنّه، مع تفكّك البنية الفوردية، انقسم الإنتاج في الغرب الصناعي إلى ثلاثة مستويات كانت قبل ذلك مدمجةً معاً وغير قابلة للفصل. فلنعد خطوةً إلى الوراء: أي عملية إنتاج سوف تستخدم أكثر من “شكلٍ” من أشكال رأس المال. لديك رأسمال يقوم على الملكية الفكرية التي تحوزها (براءات الاختراع، مكتبة البرامج والتصاميم التي تمتلكها، اسم الماركة وشعبيتها...)، وهناك بالمقابل رأسمال “مادّي”، فيزيائي (المصانع والماكينات والعقارات)، وهناك، ثالثاً، وظائف تحتاج إلى رأسمال “بشري” كثيف (التوصيل وإدارة المستودع، خطوط التجميع والتوضيب، البيع وخدمة الزبائن، ...). ما يحصل في المرحلة “ما بعد الفوردية”، باختصار، هو أنّ هذه الأجزاء الثلاثة قد انفصل بعضها عن بعض، وأفرزت تراتبية جديدة في الإنتاج والربحية، بعد أن كانت في العهد الفوردي السابق جزءاً من كلّ.
المسألة الجوهرية هي أنّ معدلات الربحية تختلف كثيراً بين المستويات الثلاثة. النشاطات التي تقوم على بيع “الملكية الفكرية” تربح كثيراً وتكون قليلة الكلفة (برنامج الكمبيوتر، مثلاً، يمكنك استنساخه بالمجّان بعد أن تكتبه، وكلفة بيع كلّ وحدةٍ إضافية منه تقترب من الصفر). أمّا رأس المال الصناعي، فيأتي في الدرجة الثانية، لأنّه مكلف ويحتاج إلى استثماراتٍ كبيرة، حاجز المنافسة هنا مرتفع، ولكنه ليس مستحيلاً، والربحية تعكس ذلك. أمّا رأس المال البشري، المكوّن من عمالٍ غير مهرة أو نصف مهرة، فهو الأكثر عرضةً للتنافس، حيث هوامش الربح لا تُذكر وهي تقوم على خفض “كلفة” العامل إلى الحدّ الأقصى. هذا الفارق يبقى نظريّاً ولا يهمّ كثيراً في الفوردية، يكتب شوارتز، لأن الأرباح كانت تتوزّع داخلياً في نهاية الأمر على الشركة ككلّ، أمّا حين يصبح من المتاح أن تفصل “الأجزاء المربحة” عن غيرها، فإنّ كلّ شيءٍ يتغيّر. هذا ما انتبهت إليه باكراً شركات الفندقة مثل “هيلتون” و”شيراتون”: لو أنّك، بدلاً من الاستثمار في العقارات والفنادق وإدارة العمّال الكثر، لقمت حصراً ببيع “التجربة” التي صمّمتها، واسم الشركة والتدريب والمعايير التي سجّلتها باسمك، فأنت سوف تقصر عملك على النشاط الأكثر ربحية وتترك سواه لغيرك. من هنا أصبح لسلاسل الفنادق، مثل “هيلتون”، آلاف المباني التي تحمل اسمها حول العالم، ولكن الشركة لا تمتلك فعلياً إلا عدداً ضئيلاً جدّاً منها. هناك مستثمرون يقومون بشراء المبنى والعقار، وشركات متخصصة تؤمّن العمّال وتلتزم الإدارة اليوميّة، و”هيلتون” تكتفي بالتوجيه وتقديم خبرتها واسمها، والفكرة ذاتها استولدت سلسلة المطاعم السريعة والفروع التي يجري ترخيصها بالآلاف.

سياسات الرّكود
لو أنّك نظرت اليوم إلى أكبر الشركات في العالم، فهي فعلياً تلك التي تمثّل الطبقة العليا في نظام الـ”فرانشايز”: غوغل وآبل ومايكروسوف وغيرها. هي كلّها شركات لا تدخل عملية الإنتاج بنفسها، “آبل” تصمّم في كاليفورنيا وهناك آخرون يصنّعون في الصّين، والمكوّنات من كوريا واليابان وأوروبا وأميركا. مايكروسوفت تبيع الـ”سوفتوير- البرامج” وتترك الـ”هاردوير- أدوات التشغيل” لغيرها. هناك مجالات قليلة، شديدة التعقيد والتخصّص، لا تزال عملية التصميم والتصنيع فيها متلازمة - مثل محركات الطائرات - ولكن حتى صناعة الشرائح الدقيقة أصبحت تقوم أيضاً على التمييز بين من يصمّم ومن يصنع (حاولت “انتل”، وهي “فوردية” في جذورها وتأسيسها، أن تحافظ على الريادة في المجالين، والنتيجة لم تكن إيجابية). ما يقوله شوارتز هو أنّ هذه الشركات التي تقوم على الملكية الفكرية لم تغزُ السوق من حيث قيمتها وحجم أعمالها فحسب، بل بحجم أرباحها غير المسبوق. يثبت شوارتز بالإحصاءات أنّ الغالبية الساحقة من أرباح البورصة الأميركية ككلّ، في العقدين الماضيين، تعود فعلياً إلى عددٍ قليلٍ من الشركات الرائدة في “اقتصاد المعرفة”. والفارق في الربحية بين المستويات الثلاثة ساطعٌ وصادم. حتى أكبر الشركات الصناعية وأكثرها تقدّماً، مثل “تي اس ام سي” التايوانية الشهيرة في صناعة الشرائح الدقيقة، والتي يكلف المصنع الواحد من مصانعها عشرات مليارات الدولارات، إلا أنّ نسبة ربحيتها - في أفضل أيامها - تظلّ أقلّ بكثير من ربحيّة بعض “زبائنها” الذين تصنع لهم الشرائح، مثل “آبل” و”انفيديا” وغيرهما التي تكتفي بالاختراع والتصميم.

«بدلاً من أن تتحول الأرباح في الاقتصاد إلى استثمارٍ، وإلى رواتب وطلب على السلع والخدمات، فهي أصبحت اليوم تتحول إلى أصول ماليّة، والمشكلة هي أنّ هذا التوزيع بطبيعته يدفع بالاقتصاد دوماً نحو الركود والكساد»


من خصائص هذه الشركات أنّها لا تحتاج إلى أعدادٍ كبيرة من الموظّفين مقارنةً بحجم أعمالها، فلا خطوط إنتاجٍ ولا عمّال غير مهرة بالآلاف، والمهام التي تحتاج إلى يد عاملة كثيفة يتمّ توكيلها إلى شركاتٍ خارجية. حتى في مجالات البرمجة والـ”كودنغ”، يقول شوارتز، فإنّ “غوغل” و”ميتا” وغيرهما أصبحت تعتمد، بنسبةٍ معتبرة، على متعاقدين خارجيين ليسوا من موظفي الشركة. من هنا يصبح لديك طبقةٌ من الموظّفين “المحظوظين” لأنهم يعملون في هذا القطاع الذي يحتكر الربحية ولا يحتاج إلى الكثير من العمّال. ويصبح ما يحدّد مستواك، بحسب شوارتز، هو ليس الوظيفة التي تقوم بها فحسب، بل القطاع الذي تعمل فيه ضمن هذه التقسيمة (سوف تقوم نظرياً بالعمل ذاته، موظف استقبال مثلاً، ولكن ظروفك ستختلف جذرياً إن كنت تفعل ذلك في “غوغل”، أو في شركة تأمين، أو في مول شعبي رخيص. وفي بعض شركات التقانة الناجحة أصبح جميع الموظفين أثرياء - حرفياً - لقلّة عددهم وبفضل الأسهم التي حصلوا عليها وحدها).
هنا تبدأ مشكلة هذا النموذج بالظهور، يحاجّ شوارتز وزملاؤه، وتبرز نقطة ضعفه الأساسية. تقسيم الأرباح على الشكل الحالي يعني أنّ هناك شركات قليلة ستستأثر بأغلب الفائض. في الوقت نفسه، فإن هذه الشركات لا تحتاج إلى استثماراتٍ في مصانع وخطوط إنتاج، ولا هي توظف مئات الآلاف من العمال. لهذا السبب نجد أن من سمات “غوغل” و”آبل” وأمثالهما أنها تحتفظ دوماً بكتلةٍ كبيرةٍ من المال الفائض (cash pile)، أي أرباح حققتها وهي لا تعرف ماذا تفعل بها. هذا ببساطة لم يكن يحصل في العصر الفوردي، إذ كان الفائض يتوزّع على استثماراتٍ (لتحديث مصانعك أو توسيعها) ورواتب للعمال... أما اليوم، فإن هذه الأرباح الفائضة تُنفق أساساً في اتجاهين: الأوّل هو الاستحواذ، حيث تقوم هذه الشركات الناجحة باستخدام قدراتها المالية لشراء المنافسين وهم بعد صغار، أو للحصول على تقنية جديدة طوّروها، وهي هكذا تحصّن موقعها الاحتكاري في السوق وتحميه. قامت شركة “مايكروسوفت” بمئات الاستحواذات في تاريخها، يحصي شوارتز، بل تقدم شركة أحياناً على شراء أخرى مفلسة (كما حصل مع “نوكيا”) ببساطة لـ”حجز” براءات اختراعها ومنعها من الوقوع في يد منافسٍ محتمل. أمّا الجانب الثاني للإنفاق فهو في أن تشتري الشركة أسهمها الخاصّة من فائضها المالي (share buybacks)، وهي وسيلة غير مباشرة لتوزيع الأرباح على المالكين. هذه عمليّة كانت تحصل في الماضي في أوقاتٍ قليلةٍ واستثنائية، ولكنها أصبحت نهجاً في العقدين الماضيين، وعلى مستوى لم يسبق له مثيل في التاريخ. شركة “آبل” وحدها قد “أعادت شراء” أسهمٍ لها بأكثر من 640 مليار دولار خلال العقد الماضي.
بتعابير أخرى، بدلاً من أن تتحول الأرباح في الاقتصاد إلى استثمارٍ، ورواتب وطلب على السلع والخدمات، فهي أصبحت تتحول أساساً إلى أصول ماليّة. والمشكلة هي أنّ هذا التوزيع بطبيعته يدفع بالاقتصاد دوماً نحو الركود والكساد، إذ إنّ النموّ “الحقيقي” في نهاية المطاف يعتمد أساساً على الاستثمار والطّلب. من هنا، يحاجّ كتاب باكارو وبليث، لم يتحقق النموّ في الغرب خلال العقدين الماضيين إلّا عبر الاستدانة الهائلة والتدخّل المباشر للدولة لتحفيز الاقتصاد (من التسهيل الكمّي إلى سياسات الفائدة إلى الإنفاق الكبير للقطاع العام عبر العجز والاستدانة)، والبديل الفوري لذلك سيكون حالة الكساد.

خاتمة: الرأس والأعضاء
في وسعنا، من هذا المنظور، أن نرسم “خريطة” تبسيطية للاقتصاد العالمي: أميركا تتحكّم بنشاطات “الملكية الفكرية”، التي تحقق أعلى قيمةٍ وأرباح، وبفارقٍ كبيرٍ عن أقرب المنافسين كاليابان. أمّا المانيا واليابان وكوريا وتايوان، فهي تختصّ أساساً بـ”الطابق الثاني” ضمن هذه الترتيبة، وتمسك بالعملية الصناعية المتقدّمة. فيما الصين ودول جنوب آسيا كانت قد تسلّمت الوظائف التي تحتاج إلى رأسمال بشري كثيف، وتنتج أقلّ قدرٍ من القيمة والأرباح. وهذا يأخذنا إلى الجانب الآخر من المعادلة، أي التجارة العالمية والنظام الاقتصادي الدولي، خاصّةً وهو يدخل اليوم في مرحلةٍ تاريخية جديدة تعيد ترتيبه بالكامل، وهو يحتاج لنقاشه إلى مقالٍ خاص (إلا لو شعرت بالملل وأنهيت السلسلة باكراً).
ولكن من المهمّ أن نلفت هنا إلى أننا لا نتحدث عن محض “عملية صناعية” تستبدل أخرى، أو تنظيمٍ تقني للإنتاج والعمل، بل عن عملية سياسية واجتماعية كاملة هي التي تخلق القيمة. العملية التي شرحناها أعلاه حول فصل “الإنتاج الفكري” عن باقي قطاعات الاقتصاد كان، قبل أيّ شيءٍ، تقسيماً قانونياً وسياسياً (في أواخر القرن التاسع عشر، مثلاً، لم يكن مفهوم “الملكية الفكرية” معروفاً ولم تكن له قيمةٌ خاصة). من دون إحاطة سلعةٍ ما بنظامٍ قانوني يحصرها ويحصر استخدامها، فهي لا يمكن “تقريشها” - وبخاصة إن كانت “رقمية” الطابع. يشرح شوارتز أنّ كامل النظام القانوني في الغرب (والعالم) كان عليه أن يتغيّر لكي يصنع منظومةً معقّدة لحفظ وحماية “الملكية الفكرية” هذه. كيف تقرّر أن شيئاً ما، غير ملموسٍ، هو ملكية حصرية لطرفٍ معيّن؟ نحن معتادون على براءات الاختراع، وهو إجراءٌ قد يبدو منطقياً لحماية من اكتشف آلةً أو تقنية جديدة، أو لحماية تصميمٍ فنّي أو “لوغو” تجاري. ولكن ماذا عن الـ”سوفتوير” مثلاً؟ يقول شوارتز إن فكرة تسجيل سطرٍ من الـ”كود” باسمك، ومنع غيرك من نسخه أو حتى كتابة شيءٍ قريبٍ له، لم تصبح مدوّنة في القوانين حتى السبعينيات. حسنٌ، ماذا إذاً عن جسمٍ بيولوجي قمت بتصميمه في المختبر عبر علم الجينات؟ هذا أيضاً له ملكية فكرية. بل حتّى تقنيات المضاربة في البورصة، يضيف شوارتز، يمكن اليوم أن تسجّلها ملكاً لك وتمنع غيرك عن تقليدها.
الأمر ذاته سوف تراه على المستوى الدّولي، فالإنتاج يتوزّع بحسب القيمة، والقيمة تأتي من التوافق الذي بني حولها والقواعد والقوانين، و”التوافق” والقوانين تصنعها القوّة. لهذا السبب أشعر بانزعاج حين يتكلّم العربيّ، بشماتة، عن سلوك الأوروبيين واليابانيين “الدوني” تجاه واشنطن، وكيف أنهم “خانعون” لها، خاضعون بلا مقاومةٍ للاستغلال والابتزاز: “انظر كيف تحلبهم أميركا حلباً وتجنّدهم في حملاتها، انظر كيف ينصاعون لها ويدفعون الفواتير صاغرين، انظر إلى اتفاقات بلازا وماذا فعلت باليابان، هؤلاء الإمّعات المساكين”. هم ليسوا مساكين، صدّقني، بل أنت - أخي في المشرق العربي أو السودان - المسكين هنا. المسألة عقلانية بالكامل: هذه الدول في مركز المنظومة تفهم أن ثراءها وامتيازاتها تأتي أساساً من هذا “النظام الدولي” ومن موقعها المفضّل فيه. والنّظام تقوده أميركا وتحميه وهو قد جعلنا جميعاً في رخاء، نحن أهل المركز، وإن بدرجات متفاوتة. حتى يستمرّ هذا الرخاء عليك أن تقبل بهذه التراتبية، وأن تضحّي حين تجب التضحية وتلعب دورك المقرّر بانضباطٍ وصمت، سواء في أوكرانيا أو في الشرق الأوسط أو حتى ضدّ الصّين. وبالطبع فإنّ أميركا هي من سيأمر ويقود، وسوف تحصل دوماً على الثمرة الأولى والموقع الأميز، وهي من سيقرّر “حالة الاستثناء”، هل تريد إمبراطوريةً من غير رأس؟