لقد تقمّص أنطون سعادة مأساة أمّته الواقعة تحت نير الاحتلال منذ بداية القرن السادس عشر، فلا تكاد تتخلّص من مستعبِد حتى يغزوها مستعمِر يقبض على روحها وحضارتها ومقدّراتها الطبيعية وإنتاجها، ينظر إليها بدونية، فيهينها ويمزّق أشلاءها، وينصاع السكان دون مقاومة تُذكر لأنهم مهووسون بخلافاتهم الداخلية، كونهم لم يصلوا إلى مرحلة تكوين دولة وطنية يشعرون عبرها بأنهم جسم واحد، ومصيرهم واحد. فبقي بعضهم صاغراً للعثماني باسم الدين، وبعضهم الآخر مرحّباً بالأجنبي باسم الدين أيضاً، ولم يخطر في بال أي منهم أن يدافع عن من شاركه الحياة على الأرض نفسها لآلاف السنين. وقف سعادة وحيداً في مدرسة برمانا، وهو لا يزال طفلاً، رافضاً رفع العلم التركي/العثماني على السارية المنصوبة في باحة المدرسة. كما أنه خالف كبار القوم مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فيما هم يتجادلون حول من هو الأنسب لحكمهم: الفرنسي أو البريطاني أو العثماني، فسألهم ببراءة: «أَوَليس من الأفضل أن نحكم أنفسنا بأنفسنا؟».
سعادة في ساو باولو عام 1928 (من كتاب بدر الحاج)

لم يستطع هذا المراهق أن يفهم لماذا هم أفضل منا، ولماذا نصّبوا أنفسهم كحاملين لـ«الحضارة» يبيعونها لمن يتصورون أنه مجتمع جاهل، متخلّف، بربري ومتوحّش، وهو الذي وُلد عام 1904 كسوري، إذ إن «لبنان الكبير» لم يكن موجوداً قبل دخول الفرنسي وتمزيقه لبلاد الشام بمعاونة البريطاني. هذه البريطانيا العظمى التي تنبّأ الدكتور خليل سعادة، والد أنطون، باندثارها حين قال عام 1931: «سوف تستيقظ بريطانيا وفرنسا إلى الأخطار التي تحيق بهما متى نشبت حرب عالمية أخرى، وستكون تلك الحرب الهائلة بدء تفكك الإمبراطورية البريطانية» (مجلة الرابطة، عدد 222 في الثالث من آذار 1934).
تجَسّد طفولة سعادة مآسي كل أطفال منطقة الهلال الخصيب من تشريد وتهجير وجوع ودمار واختفاء الأهل والأصدقاء وتناثرهم في بقاع العالم بحثاً عن الاستقرار والطمأنينة، فلا السلطنة العثمانية أمّنت لهم ازدهاراً وتطوراً في بلدهم يسمحان لهم بالبقاء، بل احتكرت كل الخطوط التجارية القادمة من الشرق الأقصى وحوّلتها إلى الغرب عبر إسطنبول، ولا هي استطاعت الدفاع عن إمبراطوريتها أمام الزحف الغربي للاستيلاء على المواد الأولية كالنفط، فتكرّست الهيمنة الغربية التي ستمنع البلاد من النهوض عبر تقسيمها لإضعافها وإخضاعها وتحويل سكانها إلى عبيد على أرضهم يستهلكون ما تنتجه الآلة الغربية الهائلة.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حطّ أنطون سعادة مع إخوته عند أخواله المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية بانتظار ما ستؤول إليه أحوال والدهم الذي اضطر لمغادرة مصر بعد دعمه لثورة عرابي باشا. وما إن استقر الدكتور خليل سعادة في البرازيل حتى طلب من أولاده ملاقاته هناك. كان الدكتور خليل سعادة قد تخرّج طبيباً جراحاً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في الكلية السورية البروتستانية (الجامعة الأميركية في بيروت) مع زملائه يعقوب صروف، بشارة زلزل، شبلي الشميل وجرجي زيدان، وهي أسماء كبيرة لمعت في فضاء المنطقة في السياسة والأدب والطب والصحافة.
لم يستطع أنطون سعادة أن ينسى مأساة وطنه، أو أن يتخلى عن أمته التي اعتبرها كأمّه. رفض أن يتأقلم مع الواقع الجديد، فطالما بلاده ليست في خير، لن يكون هو في خير أيضاً. عكف على دراسة التاريخ، وكتب الاجتماع ومتابعة مجريات السياسات الدولية وانكبّ على قراءة كل ما يمتّ إلى بناء الأمة الوطنية/القومية بصلة: النظريات، أنظمة الحكم، المجتمع والشعب، الاقتصاد والسياسات الدولية.
نشأت علاقة خاصة بين أنطون ووالده الذي بدوره قرّر إهمال ممارسة اختصاصه في الطب، والتفرّغ إلى الكتابة في صحيفة سياسية أصدرها الاثنان وحيدين، ودون معاونة أحد، حتى إن أنطون تعلّم صف الأحرف المطبعية، فكان يكتب المقال رأساً عبر صفّه في الجريدة. وبذل الاثنان حياتهما من أجل توعية أهل بلادهما، وإرشادهم إلى طريق الخلاص، طريق بناء الدولة الوطنية التي وحدها تستطيع أن تواجه الدولة الغربية بكل جبروتها وصلافتها. وكما تخلّى الأب عن مكانة مرموقة وبحبوحة مادية نتيجة مركزه كطبيب، خاصة وأنه ترأّس مستشفى في عكا قبل رحيله إلى مصر؛ كذلك الابن، تخلّى عن أي طموح مادي وعاش حياة متقشّفة شديدة البساطة، ولم يتطلع أو يشفق على نفسه للحظة لأنه اتخذ قراراً لا رجعة عنه: «يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة كي أساعد على تضميد جراح أمّتي البالغة» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول: 43).

مواجهة سعادة لتقسيم المنطقة
لم يكن يخطر في بال سكان بلاد الشام أنهم سيُقسّمون، وأن هذه الدول الغربية الزاحفة ستنصّب الأخ ضد أخيه باسم الدين والمذهب والطائفة والملّة والعرق. ولم يخطر في بالهم أن بلادهم الجميلة الملوّنة بالأعراق والملل المختلفة سيتم تقطيعها، وأن هذا التقطيع سيكون مفروضاً عليهم بالقوة بالرغم من نداءاتهم المتكررة الرافضة للتقسيم، كما بيّنت بعثة كينغ-كراين الأميركية حين جاءت إلى المنطقة عام 1919 وأجرت استفتاء حول الموضوع، كما وأنها نبّهت إلى خطر الاستيطان الصهيوني الذي سيفجّر المنطقة.
تصدّى أنطون سعادة بكل قوته وعزمه لمشروع التقسيم، واعتبر أن هذا التقسيم سيسمح للدول الغربية ليس فقط بالسيطرة على المنطقة، بل بتنفيذ المشروع الصهيوني بسهولة لعدم وجود جبهة موحّدة من دول «سوراقيا» أو منطقة الهلال الخصيب تستطيع أن تواجه الآلة الجبارة العسكرية الغربية. وسعادة هو أول من فصل بين اليهودية كدين والصهيونية التي هي مشروع قومي استيطاني يستعمل الدين لمآربه الخاصة. فـ«إسرائيل» دولة مركّبة من مبدأين عنصريين ( dual caste system): المبدأ الإثني المتمثّل بالانتماء العِرقي إلى الوطن، أي تعريف هوية اليهودي على أساس يهودية الأم، وهو بهذا يظهر جذوره القبلية القديمة للمجتمعات البدائية التي تعتبر أن أصل القبيلة يعود للأم (matriarchal society)، والمبدأ الطائفي المتمثل بالهوية الدينية، أي أن الصهيونية ترفض رفضاً قاطعاً الاندماج مع الآخر المختلف دينياً، والآخر المختلف عرقياً!
وسعادة أول من نادى بوحدة الجبهات، وأن لا مكان للتحرر من الاحتلال والتهجير والدمار إلا بهذه الوحدة، كما أنه أول من استشفّ تواطؤ بريطانيا العظمى التي فتحت الباب واسعاً أمام الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتي ستعمل على تدمير بلاد الشام كما كانت قبل عام 1920. فوحدة بلاد الشام هي الوضع الطبيعي، لا تقسيمات سايكس-بيكو الاستعمارية، التي فُرضت على سكان المنطقة بقوة السلاح كما بيّنت معركة ميسلون السورية. التقسيم لم يكن نتيجة إرادة شعبية محلية، بل على العكس من ذلك تماماً، فإصرار سعادة لا ينبع من أهواء خاصة، بل من الإرادة الشعبية التي تريد استعادة أرضها ووحدتها.
سعادة أول من نادى بوحدة الجبهات، وأن لا مكان للتحرر من الاحتلال والتهجير والدمار إلا بهذه الوحدة


قدّم سعادة مشروعاً حديثاً للغاية في زمانه، وحتى في أيامنا هذه التي نشاهد فيها عودة التيار العنصري في الدول الغربية بقوة واضحة كما تُظهر الانتخابات التي تجري في هذه الدول. سعادة بنى مفهومه للدولة القومية على أساس تراثنا الحضاري الاندماجي المنفتح، فكل من يحيا على أرض سوراقيا هو مواطن/مواطنة يتساوى مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بمعزل عن الجذور الإثنية أو الدينية. النموذج الذي ارتكز عليه سعادة يعاكس تماماً المثال الصهيوني العنصري/الديني الحاقد الذي لا يقبل العيش مع الآخر تحت أي ظرف، وهو في حرب أبدية ضده.
أولوية سعادة تمثّلت في إعادة بلاد الشام إلى وضعها السابق للدخول الغربي الذي حلّل لنفسه قتل وتهجير السوراقيين، وتوطين عناصر أجنبيين يستولون على الأرض تحت ذريعة التفوق العنصري للرجل الأبيض، كما صرّح رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، ونستون تشرشل، بعد صدور تقرير لجنة بيل البريطانية (Peel Commission).
انتقد سعادة التشرذم السائد في كيانات سوراقيا، ما يؤثر سلباً على مسار التحرر الوطني، فناشد الجميع عام 1948 بتوحيد الجبهات قائلاً: «مع كل الكوارث الجسام، ظلت الأمة السورية في شلل تجاه إطباق القوات والمطامع الأجنبية عليها لأن الفئات التي تصدّت للمعالجة السياسية كانت كلها من النوع الرجعي أو الإقطاعي أو العشائري، وكلها قامت تعمل عمل الشركات المحدودة الرأسمال... هكذا تحددت قضايا ما بين النهرين والشام ولبنان وفلسطين وشرق الأردن. فلم تكن هناك قضية واحدة تضم كل الأجزاء، وتجتمع فيها كل القوى، ويخطط لها عمل موحّد» (أنطون سعادة، «في المسألة الفلسطينية»، الصفحة 140 وما يلي).
أحد أهداف تقسيمات سايكس-بيكو (1916)، غير المعلنة طبعاً، تمحورت حول فتح الطريق أمام وعد بلفور (1917) لإنشاء «وطن قومي» لليهود في فلسطين، وعمل اللورد سايكس الصهيوني جاهداً لتقطيع أوصال المنطقة بشكل يسمح بإقامة دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين. سايكس-بيكو ووعد بلفور مشروعان متلازمان، ولم يكن من الممكن تنفيذ أحدهما دون الآخر. ولا يزال هذا الأمر قائماً إلى يومنا الحاضر، فلا تسمح الولايات المتحدة الأميركية بأي تقارب بين دول سوراقيا، بل تعمل جاهدة لنشوب حروب بينها، وترسيخ التفرقة، حتى إنها أقامت معسكرات أميركية على الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وتحاول إنجاز الشيء نفسه بين سوريا ولبنان. وتعي الولايات المتحدة الأميركية - خليفة إمبراطورية بريطانيا العظمى - أن أي تقارب بين دول «سوراقيا» سيؤدي إلى تهديد وجودي لـ«إسرائيل» كما يحدث الآن في الحرب على غزة، إذ إن المقاومة وحّدت الجبهات كما سعى سعادة.

عودة سعادة (1930)
لا نجد صوراً لعودة سعادة عام 1930 إلى لبنان عبر البحر، فهو لم يكن معروفاً آنذاك إلا من بعض الأقارب والأصدقاء. أتى حاملاً مشروعاً طموحاً لبلاده، ومصمّماً على إنشاء حزب قوي يستطيع تنفيذ برنامجه، ما يؤدي إلى استقلال بلاده ونهوضها وتقدّمها بين الأمم. لم يكن الاستقلال غاية سعادة النهائية، بل المعبر الإلزامي لبناء أمته التي تمحورت على الأسس الآتية:
أولاً، لا مناص من بناء دولة وطنية/قومية بعد أن تلاشت الإمبراطوريات الدينية، واندحرت السلطنة العثمانية، وعمّ العالم نموذج الدولة-الأم (nation-state) المرتكز على إعطاء الأولوية للشعب كمصدر السلطات للدولة.
ثانياً، وجوب الفصل بين الدين والدولة لأن الدين في أساسه رسالة روحية تصبو إلى خلاص النفس، بينما الدولة محكومة بإدارة شؤون المجتمع على أسس علمية، وتحتاج إلى متخصّصين من مختلف المجالات يواكبون التطورات الحاصلة في العالم كي يستطيع مجتمعهم البقاء والتقدم والازدهار. بالإضافة إلى ذلك، إن فصل الدين عن الدولة يبني مجتمعاً عادلاً تتمثّل فيه كل الفئات دون أن تشعر إحداها بالغبن والهوان. والعنصر الأهم إزالة الفوارق الدينية والتعصب الديني الأعمى. وبالمناسبة، هو وجّه نداء إلى القوميين حين نشبت الفتنة الدينية بين «النجادة» و«الكتائب» عام 1936، وطلب من القوميين النزول إلى الشارع والفصل بين الفريقين «لأن تحويل الوطن إلى ميدان ينقسم فيه الشعب الواحد الموحّد المصير إلى جيشين يتطاحنان للوصول إلى غاية واحدة، هي الخراب القومي، عمل شائن لا يليق إلا بالشعوب البربرية، والرجعية تحب البربرية لأن فيها حياتها وكرامتها» (الأعمال الكاملة، الجزء 2: 54-55).
ثالثاً، منع التمييز العنصري والتفرقة بين العناصر العرقية أو الدينية والمذهبية، المقيمة على أرض الوطن كونها متساوية في المواطنة.
رابعاً، العمل على إزالة كل العوائق أمام مساواة الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الوطنية.
اتّكل أنطون سعادة في هذه الرؤية على والده الدكتور خليل سعادة الذي كان قد أنشأ حزباً في أميركا اللاتينية سمّاه «الحزب الوطني الديموقراطي» وضمنه وحدة بلاد الشام على أساس النظام الديموقراطي الفدرالي (كتاب «الرابطة»، الصفحة 153).
عاد سعادة إلى الوطن وزاده الوحيد حلمه ومشروعه الوطني الضخم لا يملك منه إلا طاقته وجهده الشخصي، فلا مال لديه أو منصب، لذلك اتّجه فور وصوله إلى قريته ضهور الشوير القابعة في كنف جبل صنين، وعمل على بناء العرزال من شجر الصنوبر وكشحه، فكان عرزاله مؤلفاً من غرفة نوم وشرفة فسيحة تتسع للأصدقاء والأقرباء. أحب سعادة الطبيعة، فنام في عرزاله مطمئناً، واغتسل في «العين» القريبة، وأكل الشوفان مع الحليب الذي كان يُقدّم له يومياً من بائعي الحليب الذين كانوا يؤمّون الدير القريب من العرزال في «المطل». هذا المطل الذي قضى فيه سعادة أجمل أيام حياته يتأمل جبل صنين الشامخ من جهة، والبحر المتوسط الشديد الزرقة من جهة أخرى، وما بينهما الهضاب والبوادي المكسوّة بأشجار الصنوبر والسنديان. أمضى نهاره في القراءة والكتابة ووضع المداميك الأولى لتنفيذ هذه المهمة الكبيرة، ألا وهي تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأمّ دمشق حيث أمضى سعادة سنة يكتب في صحافتها ويحاضر في منتدياتها، ويناقش في سبيل قضيته.
(يتبع)
* أستاذة جامعية