في 13 آب/أغسطس 2006، أي عشيّة الموعد المقرّر لوقف الحرب الصهيونية على لبنان في تموز/يوليو 2006، جمعتني ندوة تلفزيونية على شاشة «أل بي سي» وأدارتها الإعلامية القديرة شذى عمر، وشارك فيها ضيوف ثلاثة من لبنان ومصر والولايات المتحدة؛ وكان السؤال هل ستلتزم تل أبيب بوقف النار في الموعد المحدّد، هل سيعود إلى الجنوب مئات الآلاف من النازحين الجنوبيّين الذين استقبلتهم المناطق اللبنانية كافة، كما استقبلتهم، كعادتها، المدن السورية المحتضنة لكل عربي، بل لكل حرّ في العالم، حين يحتاج إلى الاحتضان. الضيوف الثلاثة يومها كانوا يشكّكون بالتزام تل أبيب بقرار مجلس الأمن 1701 بوقف الحرب على لبنان، وبعضهم كان يوحي بأن الكيان الصهيوني لن يوقف هذه الحرب قبل أن يحقّق الهدف المعلن له منذ بدايتها، وهو سحق حزب الله والمقاومة اللبنانية. كان لي يومها موقف آخر بالقول: «غداً الإثنين، وفي الثامنة صباحاً، وهو الموعد المقرّر لوقف إطلاق النار، لن نسمع طلقة رصاص في الجنوب، بل إنّ الرصاصة الأخيرة ستكون من المقاومة لتعلن النصر على العدوان». وقلت أيضاً يومها: «وغداً عند الساعة الثامنة صباحاً ستجدون الجنوبيّين يزحفون إلى قراهم وبيوتهم التي دمّر العدوان الكثير منها».
وكان جوابي مستنداً إلى أمرين، أولهما إدراكي أنّ تل أبيب وواشنطن ما كانتا لتوافقا على وقف النار لولا شعورهما بالعجز عن متابعة الحرب، وثانيهما معرفتي بأهل الجنوب الذين ناضلنا معهم على مدى عقود وعرفنا صلابتهم وإقدامهم.
فعلاً، منذ السادسة صباح الرابع عشر من آب، اتّصل بي عدد من الأخوات والإخوة المكلّفين بالاهتمام بشؤون النازحين الجنوبيّين في مراكز إيوائهم من مدارس وغيرها، يخبرني أنّ النازحين يرتّبون أغراضهم تمهيداً للعودة إلى الجنوب بأسرع وقت ممكن، وهكذا كان، امتلأت طرقات الجنوب بأهل جبل عامل العائدين إلى بيوتهم وقراهم.
ذكرت هذه الواقعة اليوم، وبعد أكثر من 17 عاماً على ذلك العدوان، لأنني استخدمتها في كثير من ردودي على أصدقاء وإعلاميين يسألون: هل ستوقف تل أبيب وواشنطن العدوان على غزّة؟ هل ستنجح المفاوضات غير المباشرة بين المقاومة والعدو في الوصول إلى اتفاق كاتّفاق باريس مع بعض التعديلات عليه.
واليوم، وفي أجواء محادثات جارية في الدوحة والقاهرة وباريس، أستطيع أن أقول إنّني أتوقّع وقفاً للعدوان، تحت أي مسمى كان، هدنة إنسانية أو غيرها، ورضوخاً لمعظم مطالب حركة «حماس» وفصائل المقاومة.
وسبب توقعي هذا أن أهل العدوان في تل أبيب وخارجها، باتوا مدركين لعجزهم عن مواصلة العدوان وتحمّل الخسائر التي يمنون بها كل يوم، وبفعل اتّساع جبهة المواجهة على مستوى الأقطار (لبنان، اليمن، العراق)، أو أن أهدافها لم تعد محصورة بالكيان نفسه، بل بداعميه في واشنطن ولندن، كما أن المعركة لم تعد ساحتها غزّة خصوصاً، بل عموم فلسطين وأكنافها، ناهيك عن معرفتنا بأهل غزّة الذين واكبنا بطولاتهم منذ حرب 1967.
ورغم الآلام الكبرى التي يعاني منها أهل غزّة والتي هزّتنا من الأعماق، من جراء هذه الوحشية النازية الصهيونية والخراب والدمار الذي لحق بغزّة وأوجه الحياة كافة فيها، ولكن نستطيع أن نتوقع إقرار العدو بهزيمته في الأيام القادمة عبر وقف العدوان، ومع محاولات أميركية وأوروبية تسعى، عبر بعض الإجراءات، إلى حفظ ماء وجه تل أبيب وداعميها.
ومع اقترابنا من النصر لا بدّ من كلمة للتاريخ: لقد عرفنا كعرب ومسلمين عدداً من الانتصارات على أعدائنا، لكن لم نعرف كيف نحافظ عليها، وكل ما نتمناه أن يبدع الفلسطينيون في حماية الانتصار وتحصينه، كما أبدعوا في إلحاق الهزيمة بالعدو، لا سيّما في إطار وحدة وطنية قاعدتها المقاومة وتكامل عربي وإقليمي يُخرج المنطقة من أجواء الصراعات غير المبرّرة إلى أجواء التصالح والتعاون والتماسك في وجه العدو.

* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي