الجيش الوطني والمؤسسات الأمنية التي تمّ بناؤها إثر نهاية الحرب الأهلية في لبنان كانت الضمانة الوحيدة، والاستثناء، في وطنٍ اختار نظامه مبكراً طريق المحاصصة وشخصنة السلطات. وبنفس المعنى، فإنّ التطوّرات التي طرأت على المؤسسات الأمنية منذ عام 2005 و«تحرّرنا» من النفوذ السوري قد تكون أخطر ما جرى على البلد في السنوات الماضية، بل إنّها تمثّل انهيار حاجز الدفاع الأخير الذي كان يوحي للمواطن اللبناني بمقدارٍ من الثقة والأمان في زمن الأزمات والقلاقل.
حتّى سنة 2005، كانت المؤسسات الأمنية ـــ تحت «الوصاية السورية»، وربما بسببها ـــ تتمتّع بدرجةٍ ما من الاستقلالية عن المجتمع السياسي اللبناني وانقساماته. كان من غير المستغرب أن يقوم مديرٌ أمني (جميل السيد أو غيره) برفض طلب لأحد الرؤساء الثلاثة أو إقفال الهاتف في وجهه؛ وهذا لم تكن له علاقة بشجاعة الضباط وإقدامهم، بل بارتكازهم على «مؤسسة» لها كيانها المستقلّ وسلطتها الخاصة، تفصلها مسافةٌ واضحة عن السياسة والسياسيين، ويشعر أفرادها بولاءٍ وانتماء شبه حصريّ لها.
لم يعد بالإمكان تخيّل سيناريو من هذا النّوع اليوم، فالجوّ الأمني وطريقة العمل اختلفا تماماً. لا داعي لإدراج أمثلة محرجة، بل يكفي قول ما يعرفه الجميع في لبنان، وهو أنّ أغلب الضباط الأمنيين، حتى في الرتب المتوسّطة والدنيا، صارت لهم «مرجعيات سياسية» ترعى مسارهم المهني ويمثّلونها وتمثّلهم. المؤسسة العسكرية التي أُنشئت على أساسٍ غير طائفي بعد الحرب أصبحت مرتعاً للقوى السياسيّة وحساباتها الفئوية، حتّى صار للأجهزة الأمنية المختلفة هوياتها الطائفية المتعارف عليها. ثمّ أخذ الأمر أبعاداً أخطر مع قيام قوى أجنبية وسفاراتها، بالتوازي مع اختراقها المتزايد للبنان بعد عام 2005، بالانخراط مباشرة في تجهيز وتنظيم أجهزةٍ أمنية «قريبة لها» (ما يجبرنا على الافتراض بأننا مكشوفون أمنياً واستخبارياً، وهو وضعٌ قد يستلزم سنوات ومعارك سياسية لإصلاحه).
حين اختُبر الجيش العراقي في الأشهر الماضية، وكان الأداء قاصراً، نهل الكثيرون من تفسيرات المؤامرة (الداخلية والخارجية) أو لاموا الضباط والأفراد، بدلاً من أن يفهموا أنّ الجيش ما هو إلّا مرآةٌ للنظام السياسي العراقي، وتلك كانت أكبر نقاط ضعفه. إذا تحوّل الأمن في لبنان إلى امتدادٍ للنظام السياسي، يصير التشاؤم مبرّراً. في أغنية تصف سفينةً تغرق، يقول الفنّان الأميركي توم وايتس: «انتهى كلّ شيء، انتهى كلّ شيء، هناك ثقبٌ في غرفة المحرّك... ومن هم النّاس الذين وضعناهم في القيادة؟ قتلة، لصوصٌ، ومحامون».