ماذا يجدي الكلام، في هذا الزمن الرديء، إذا لم يكن له معنى؟ ما جدوى الكلام في حضرة الموت والدمار؟ ماذا يجدي البيان السياسي إذا لم يكن له وزن على الأرض، ولم يبالِ به أحد؟ ربما ينبغي القول إن ملحمة «طوفان الأقصى» كشفت النقاب عن معنى الروابط الأخوية، ومعنى الاتحاد في الدين، واللغة والتاريخ، والجغرافيا، ومعنى التضامن العربي والاتفاقيات المُشتركة، ومعنى المؤسسات الجامعية الوهمية التي لا تستطيع رفع صوتها بدون أمرٍ ولا توجيه. وبيّنت أيضاً، أن هذه العلاقات واهية ولا قيمة لها، لا أمام القليل الذي يفرّقها ولا الكثير الذي يجمعها. وهذا بمجمله لا يتجاوز متطلبات الحد الأدنى، ولا أضعف الإيمان التي لا تتجاوز الدعاء بالقلب.منذ أن بدأت عملية «طوفان الأقصى» البطولية، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والكيان الصهيوني يشن حرب إبادة مُمنهجة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، بإدارة وإشراف ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية المباشرة، ودعم أوروبي من جميع الدول ذات الإرث الاستعماري والعنصري البغيض. إنها حرب إبادة عنصرية، وعرقية، ودينية، واضحة وعلنية وبغطاء كامل من تلك الدول ذات التاريخ النازي والفاشي والإجرامي. تلك الدول التي تشكل محور الشر والإجرام في العالم. كل ذلك مقابل عين تقاوم المخرز، ولا من يجرؤ على قول كلمة حق، بوجه عدوان جائر، أو حتى يرفع يديه، ولو سراً، للدعاء.
منذ اليوم الأول للمعركة، تحركت دول محور الشر والإجرام إلى الميدان، من دون أن تتداعى إلى عقد قمة بينها. بل سارعت تلك الدول تلقائياً، وربما بإشارات خفية وسريعة، إلى إعلان تضامنها الكامل مع الكيان الصهيوني المُستعمر وتأكيد حقه بالدفاع عن نفسه ضد الشعب المُستعمَر واتخاذ مواقف عدائية ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض المُحتلة، وإصدار بيانات إدانة شديدة اللهجة ضد المقاومة واعتبارها إرهاباً. بعض تلك الدول ذات التاريخ النازي أوقفت المُساعدات المالية والتنموية البخسة التي يمنّ بها على الفلسطينيين. بينما وصل وزير الخارجية الأميركي الى الكيان الصهيوني قائلاً إنه أتى متضامناً كيهودي. ولحقه الرئيس الأميركي، مؤكداً دعم بلاده القوي للكيان الصهيوني، ومردداً أكاذيب دعائية رخيصة. ولحقهم وزير الدفاع الأميركي وآخرون من القادة العسكريين والأمنيين. وشاركوا بالاجتماعات الأمنية المصغرة لحكومة العدو، وفي الوقت عينه كانت الولايات المتحدة تُرسل حاملات الطائرات العملاقة، وتُرسل الطائرات المُحملة بالذخائر المُحرمة دولياً، وتُرسل الجنود للمشاركة بالقتال والإشراف على سير المعارك. وكانت الإدارة الأميركية وغيرها من أجهزة المخابرات النازية أيضاً تُرسل صور الأقمار الاصطناعية والمعلومات التجسسية عن غزة، وعن المستشفيات ومدارس «الأونروا» التي تعرضت جميعها للقصف، وكل ما يساعد الكيان الصهيوني في حربه ضد المدنيين الفلسطينيين.
ليس ذلك فحسب، بل وُجهت التهديدات العلنية والصريحة والمباشرة إلى كل من تسوّل له نفسه مساعدة الفلسطينيين ودعمهم من النواحي الإنسانية، فضلاً عمّن يُحاول أن يمد يد العون العسكري أو يفكر بتوسيع دائرة القتال. ولم يسلم من التهديد الأمين العام للأمم المتحدة، لأنه قال إن السبب الرئيسيّ للأحداث هو الاحتلال الصهيوني. وعليه، تم إرسال المبعوثين إلى لبنان والمنطقة العربية، والعين تجاه المقاومة الإسلامية في لبنان. وجاء أيضاً رؤساء الحكومات، البريطاني، والفرنسي، والألماني، والإيطالي، ولم يبق أحد إلا وقدم إلى الكيان الصهيوني للتضامن والمساعدة. ويجدر القول إن هذه المواقف الواضحة والقوية المنحازة إلى جانب الكيان الصهيوني تشير إلى مكانة هذا الكيان لدى تلك الدول الاستعمارية التي ساعدت على إنشائه، وتوفر له الغطاء الدولي على جرائمه، وسبل الحماية والدعم المطلق، وخصوصاً أن هذا الكيان يمثّل الموقف المتقدّم لتلك الدول في نهب خيرات البلدان العربية والهيمنة على مقدراتها. ومن ناحية أخرى، تُشير إلى ازدواجية المعايير حول الديموقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان. ويشير أيضاً الى النفاق، والخداع الواضحين في دعم القضية الفلسطينية والمطالبة بإنهاء الاحتلال، أو وقف الاستيطان وتهجير السكان الفلسطينيين من أراضيهم. هذه الدول تقدّم الدعم المطلق للكيان الصهيوني في احتلاله للأراضي الفلسطينية، وتدعم حقه بالعدوان على الشعب الفلسطيني، تحت حجة الدفاع عن النفس، وتدين أعمال المقاومة المشروعة ضد الاحتلال باعتبارها أعمالاً إرهابية.
لقد كشفت ملحمة «طوفان الأقصى» الواقع العربي المرير، العاجز الخانع، والذليل، الذي نعيش به، وبيّنت أن الخطابات الرسمية الوهمية لم تكن سوى أكاذيب مفضوحة، ومواقف مخزية يندى لها الجبين. منذ بداية «الطوفان»، لم تستطع الدول العربية أن تعلن موقفاً يُعبّر عن التضامن الأخوي مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة غير مسبوقة، بالأسلحة الأميركية المُحرمة دولياً. ولم تستطع أن تفعل أقل مما فعلته بعض الدول الأوروبية، مثل إيرلندا، أو الأميركية اللاتينية، مثل بوليفيا، التي طردت السفير الصهيوني من بلادها. الكثير من الدول العربية أصدرت بيانات خجولة ترفض الاعتداءات على المدنيين من قبل الطرفين، مساويةً بين الجلاد والضحية دون تمييز. بينما البعض اعتبر أن عملية «طوفان الأقصى» قامت بها حركة إرهابية مدعومة من إيران، وأتت في سياق مُخطط إيراني شرير لتقويض برامج السلام في المنطقة. والبعض الآخر تمادى كثيراً في تملقه للكيان الصهيوني، وتوضيح موقعه، وأصدروا بيانات تشمل إدانة صريحة للمقاومة بسبب قتل واختطاف المدنيين الصهاينة، وإطلاق آلاف الصواريخ على التجمعات السكانية، وعبّرت عن تعازيها لأسر الضحايا، وتمنياتها للمصابين بالشفاء العاجل. وواصلت برامجها كالمعتاد، من دون أن يأبهوا للمجازر التي تعرضها شاشات التلفزة على مدار الساعة.
المُخجل في الأمر أن الدول العربية لديها القدرة، من الناحية النظرية، على قول «لا»


رُبما لا يعرف بعض المسؤولين العرب أن فلسطين هي أرض عربية مُحتلة، احتلتها العصابات الصهيونية منذ عام 1948، وأن الشعب الفلسطيني، المتمسك بأرضه، لا يزال يُقاوم هذا الاحتلال إلى اليوم. لقد جاء وزير الخارجية الأميركي إلى الدول العربية، بكل وقاحة، يُملي أوامره بازدراء، ويمنعهم من إبداء مشاعر التضامن مع أبناء جلدتهم. ويقول لهم إن أميركا ترفض وقف إطلاق النار حتى يتم القضاء على كل أشكال المقاومة. ويُطالبهم بالتفكير في إجراءات ما بعد الحرب. لم يجرؤ أحد على القول إنهم أيضاً عرب، ومسلمون مثل إخوانهم أو جيرانهم الفلسطينيين، تشبهاً به عندما جاء متضامناً مع دولة الاحتلال. لقد مرّ أكثر من شهر كامل حتى تداعى بعض الحُكام إلى عقد مؤتمر قمة عربي وإسلامي للتفكير بما يجري، وما ينبغي القيام به. وكأنهم بذلك، كغُثاء السيل، أعطوا الكيان وداعمه الأميركي أكثر من ثلاثين يوماً كي يُجهزوا على المقاومة في غزة، ويبيدوها. غير أن ظنهم خاب. ظلت المقاومة تقاوم وتفشل مخططات العدوان وتخيّب أمنيات حلفاء المعتدي. ومرت القمة دون قيمة، ومن دون أن يشعر بها أحد. اجتمعوا، واختلفوا، وتفرقوا. ولم يتفقوا على شيء ذي قيمة، سوى بيان إدانة خجول.
لم يجرؤوا على ذكر سلاح النفط لإيقاف حرب الإبادة والتدمير المنهجي للأحياء السكنية، ولم يطالبوا بطرد سفراء الكيان الصهيوني، من أراضهيم، إعراباً عن احتجاجهم على سياسة الأرض المحروقة والمجازر اليومية ضد الأطفال والنساء، ولم يحتجوا، ولو على سبيل ذر الرماد في العيون، على استخدام القواعد العسكرية الأميركية في بلدانهم التي تُزوّد الكيان الصهيوني بالذخائر والمعدات العسكرية، بل بعضهم طالب بصواريخ اعتراضية لمنع المُسيّرات والصواريخ العابرة من أطراف المقاومة.
في عام 1973، وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر بالذات، اتفقت الدول العربية المنتجة للنفط على استخدام تخفيض إنتاج النفط أو قطعه كسلاح ضد الدول التي تساند الكيان الصهيوني، ودعماً لمصر وسوريا خلال الحرب. وقد ترك ذلك القرار أثراً كبيراً على الاقتصاد العالمي، كما على مجريات الأمور السياسية في ما بعد. لكن اليوم، لا يوجد التضامن العربي أو التفاهم المشترك الذي قد يؤدي إلى مثل هذا القرار، كما أن التحالفات القائمة بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني أو الإدارة الأميركية تحول دون ذلك. وفي عام 1967، انعقدت قمة عربية حاسمة في مدينة الخرطوم بالسودان. وبالرغم من مرارة الهزيمة، رفضت تلك القمة التفاهم مع الكيان الصهيوني، أو الصلح معه، أو الاعتراف به، وظلت جميع الدول العربية متمسكة بحق الشعب الفلسطيني في أرضه وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
لقد تحوّل هذا الزمن العربي إلى زمن رديء، غارق في الانحطاط والفرقة. تمزقت الخرطوم، وصارت أشلاؤها في أحضان ممزقيها. وجامعة الدول العربية التي أنشئت عام 1945 بمبادرة بريطانية لجمع الدول العربية ولمّ شملها، صارت مرتعاً للتخاذل، وأداة لمعاقبة الدول العربية الخارجة على طاعة الراعي الأميركي. لقد غاب ذلك الزمن الذي كان فيه قادة يتحمّلون المسؤولية، وشعوب يهدر صوتها في أنحاء المعمورة ضد الاستعمار، فضلاً عن التطوع للقتال في هذا البلد المُحتل أو ذاك. لقد تلاشى ذلك الزمن. وتلاشت معه قيم الشهامة والنخوة والفروسية والمروءة، والبطولة.
غير أن المُخجل في الأمر أن الدول العربية لديها القدرة، من الناحية النظرية، على قول «لا»، والمواجهة السياسية والاقتصادية، على الأقل. وتستطيع فرض رأيها وموقفها إن أرادت. لكن لا يوجد من يقول، ولا من يجرؤ على رفع صوته. لأن الإملاءات هي التي تُقرر. وما حصل خلال السنوات القليلة الماضية، ما دُعي بالربيع العربي، خير شاهد على ذلك. ولا داعي للقول أو التوضيح أن الإدارة الأميركية تعامل حلفاءها العرب بخفة وازدراء، فهي تطلب منهم، مثلاً، قفل الحدود بوجه إخوانهم ومنع قوافل المساعدات، فتنقفل، أو تفتيشها، فتنبش. ويجيء ممثلو الإدارة من مختلف الدرجات الوضيعة إلى هذه البلاد الناطقة بالضاد، يُصرّحون ضد المقاومة، ويُطالبون بإبادة الشعب الأعزل، ولا من يُسكنهم ولو خجلاً، بل يستقبلون العدو النازي قاتل النساء والأطفال في بلادهم وقصورهم. يفرضون تأجيل عقد مؤتمر، فلا ينعقد. وإن عُقد، لا ينبغي الاتفاق. ويُجبرونهم على مواقف مُشينة، ضد مصالحهم القومية، فتصير. وتُحرّضهم ضد بعضهم، فتضيع مدن وتتمزق بلاد. وكأن ما يحدث في غزة لا يعنيهم، ولا يشعرون به. وكأنه يحدث في مكان بعيد، أو في جزر الواق واق. وكأن بعض العرب كان يتمنى أن تنتهي المعركة بسرعة، ويُصبحون على أنباء تُبشّرهم باختفاء غزة، أو أن البحر قد ابتلعها فجأة، كما يحلم الصهاينة. إلا أن مسعاهم خاب، كما خابت أمانيهم. لكن كما قال الشاعر: «وظُلم ذوي القُربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحُسام المُهندِ».

* كاتب فلسطيني