«إن أحسن طريقة لسرقة بنك هي امتلاكه» [وليم بلاك]
الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان تشكّل فرصة تاريخية لإعادة النظر في العديد من المسلّمات التي حكمت سياسات الحكومات اللبنانية منذ الاستقلال حتى اللحظة. فالسياسات النيوليبرالية المتبعة، ولا سيما بعد حقبة الطائف، أدّت إلى اقتصاد ريعي على حساب الاقتصاد المنتج والمتوازن نسبياً الذي كان سائداً قبل الحرب الأهلية. والعمود الفقري للاقتصاد اللبناني في حقبة الطائف تمثّل في القطاعين المصرفي والعقاري، اللذين تحوّلا إلى قطاعين ريعيين بامتياز. إعادة النظر بتلك السياسات تتطلّب مراجعة في القطاع الاقتصادي الذي اعتمدته تلك السياسات.
ضخامة الأزمة التي يمرّ بها لبنان تتطلّب مراجعة عميقة لبنية القطاع المصرفي، وللسياسات التي يتبنّاها أو ينفّذها بتوجيه حاكمية مصرف لبنان. الهدف الأول للمراجعة، هو إعادة بناء الثقة بين المواطن والقطاع المصرفي، إذ إن سلوك الحاكمية وجمعية المصارف أفقد القطاع أي صدقية، عبر إساءة إدارة الأموال التي ائتُمنت عليها المصارف، وخصوصاً أموال المودعين الذين وضعوا مدّخرات العمر بين أيديها. قيمة وقوّة أي مصرف لا ترتكز على رأس المال المدفوع، ولا على حجم الودائع، ولا على قوّة محفظة استثماراته وسِعتها، بل على عامل الثقة. فقد تصرّفت المصارف وفق مفهوم القرصنة المطلقة، والمرتكز على حماية سياسية من الطبقة الحاكمة الداعمة لحاكمية مصرف لبنان بسبب الخدمات المتبادلة بينها. بالمناسبة، في 2013 صدر كتاب في الولايات المتحدة لوليام بلاك يشرح عملية السطو على مصارف الادخار والقروض (Savings and Loans Banks) في الثمانينيات من القرن الماضي، ولا تزال الحالة مستمرة في المصارف الكبرى كويلز فارغو.
جاء في أحد تصريحات حاكم مصرف لبنان بالوكالة، وسيم منصوري، أنه لا بدّ من إعادة هيكلة القطاع المصرفي في لبنان. نوافق على هذا الطرح كمدخل لتغيير البنية الاقتصادية والنقدية والمالية في لبنان، وما سينتج منها على البنية الاجتماعية والبيئية في لبنان، فضلاً عن البنية الثقافية. فالمقصود ليس الإصلاح للعودة إلى مرحلة ما قبل انفجار الأزمة المالية والمصرفية في 2019، بل نحو إعادة النظر بشكل كلّي بهذه البنية. وفي مقاربة «المنتدى الاقتصادي والاجتماعي» هناك إقرار بضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي تلازماً مع إعادة هيكلة الدين العام للترابط العضوي بينهما. السؤال الأساسي: على أيّ قاعدة يجب أن تحصل إعادة الهيكلة؟ لا نريد العودة إلى نظام مصرفي قائم منذ الاستقلال وتفاقم في سلوكه الطفيلي الذي أدّى إلى تدمير البنية الاقتصادية اللبنانية في أموَلَة كاملة للاقتصاد. نقصد بالأموَلَة (financialization)، تحويل الطاقات الإنتاجية إلى أصول مالية لا تنتج إلّا الريع عبر البنية الاحتكارية التي أوجدها النظام النيوليبرالي بوسائل عدّة. فقد تحوّل النظام الاقتصادي اللبناني، تحت وطأة سيطرة القطاع المصرفي على الاقتصاد اللبناني، إلى اقتصاد ريعي مالي دمّر كل مقوّمات الحياة الاقتصادية في لبنان.
لن أقارب إعادة هيكلة القطاع المصرفي من باب إعادة تأهيل القطاع عبر توزيع المسؤوليات بين الأطراف المعنية، أي القطاع المصرفي بشقَّيه العام والخاص، والدولة، والمودعين. فهذه هي فحوى الهندسة المالية التقليدية لإعادة تأهيل المؤسّسات المتعثّرة، بينما يحتاج القطاع المصرفي في لبنان إلى أكثر من هندسة مالية، وهو بحاجة إلى مراجعة دوره الوظيفي وفقاً لرؤية اقتصادية جديدة، بعدما فشل في إداء مهمته في الاقتصاد، وفي إدارة أموال المودعين. لذا، لا بدّ من قطاع جديد، وطابع القطاع المصرفي يجب أن يكون مختلفاً عما كان عليه في فلسفة العمل، في دوره في الاقتصاد، في حجمه كعدد المصارف وكرأس مال موظف فيه، وفي ملكية القطاع. الهدف الأساسي لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، كسر هيمنته على الاقتصاد الوطني. حتى الماضي القريب، كان الاقطاع يهيمن على مقدّرات البلاد. وفي القرن الحادي والعشرين، القطاع المصرفي، وخاصة ما يمكن وصفه بالأوليغارشية المالية، هو الإقطاع الجديد. لذلك يجب القضاء على ذلك الإقطاع المالي.

1- طابع المنفعة العامة
القطاع المصرفي المطلوب له مواصفات واضحة. هو قطاع خدماتي يحمل طابع المنفعة العامة (public utility) لا الخاصة، كقطاع الطاقة أو المياه أو المرافق الاستراتيجية كالمرافئ والمطار... لذلك لا يمكن أن يكون مصدر إنتاج ثروة مالية ريعية، بل دوره ينحصر في تأمين خدمات مالية للقطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة والبناء، والتكنولوجيا وغيرها. هذا يعني أن القطاع المصرفي يخضع لسياسات نقدية متماهية مع متطلّبات السياسة الاقتصادية التنموية والإنمائية ومع السياسات المالية. ورقة المنتدى للتغيير الاقتصادي شدّدت على ضرورة تخطيط الاقتصاد الوطني، ما يجعل القطاع المصرفي خاضعاً للخطة.
أمّا دور المصارف التجارية العادية، فلن يكون دورها أكثر من متمّم لدور القطاع المصرفي الأساسي المهتم بالتنمية، وليس بعقد الصفقات المالية أو العقارية التي لا تجني إلّا الريع. التسليف للاستهلاك يجب أن يكون ملتزماً بأهداف الخطة التنموية وليس لخلق مناخ من الرفاهية الوهمية. فالقروض لعمليات التجميل أو لتمويل الرحلات إلى الخارج أو لشراء الكماليات تصبح منفّذة لسياسة عليا خاضعة وتابعة لمتطلّبات التنمية.

2- طابع التخصّص القطاعي
التحوّل إلى قطاع ذي منفعة عامة يعني إيجاد التخصّص في المصارف. في خطّة التغيير للمنتدى دعوة إلى تحويل الطابع الريعي للاقتصاد اللبناني إلى طابع إنتاجي. هذا يعني ضرورة إيجاد بنية مصرفية تقوم بهذا العمل. لذلك لا بد من إيجاد مصرف لكل قطاع منتج كمصرف للصناعة ومصرف للزراعة ومصرف للسياحة ومصرف للبناء ومصرف للبنى التحتية وربما مصرف للمشاريع الاستثمارية. التخطيط المركزي يحدّد القطاعات التي يجب تطويرها وتنميتها، وبالتالي يسهم في تحديد عدد المصارف وحجمها. لسنا من دعاة إنشاء مصرف واحد يشمل كل هذه القطاعات لأن كل قطاع يتطلّب كفاءات تقنية مختلفة كالمهندسين الذين يدرسون النواحي التقنية للمشاريع، إضافة إلى جدواها الاقتصادية والمالية.

3- حجم القطاع المصرفي
يجب أن يتناسب حجم القطاع المصرفي مع حجم الاقتصاد اللبناني. قبل الأزمة، كانت قيمة الودائع في لبنان (180-200 مليار دولار) تفوق بين 3 و4 أضعاف حجم الناتج الداخلي الذي لم يتجاوز 55-60 مليار دولار إذا صحّت التقديرات.
السؤال الأول: ما هو حجم الودائع التي يمكن أن يستقبلها النظام المصرفي في لبنان؟ الصين، وهي أكبر دولة صناعية في العالم وصاحبة الاقتصاد الأول في العالم من ناحية القوّة الشرائية، فيها ودائع للمصارف المملوكة من قبل الدولة بقيمة 119 تريليون يوان، أي ما يوازي الناتج الداخلي تقريباً والمقدّر بـ 121 تريليون يوان لسنة 2022، مع تقدّم للناتج الداخلي على إجمالي الودائع. هنا يظهر الفرق بوضوح. كذلك يظهر عند مقارنة إجمالي الودائع في بلاد الحرمين الذي بلغ 638 مليار دولار حتى أيار 2023، بينما الناتج الداخلي حتى آخر أيار 2023 بلغ 1.12 تريليون دولار، أي ضعف الودائع. إذاً، ماذا كان دور الودائع في لبنان إن لم تساهم في زيادة الناتج الداخلي، إلّا لتبييض الأموال؟ وهذا ما يفسّر العدد الكبير للمصارف في لبنان وغير المتناسب مع حجم الاقتصاد اللبناني.
السؤال الثاني: ما هو عدد المصارف المطلوبة في لبنان؟ في بلاد الحرمين، صاحبة أكبر ناتج داخلي عربي، يبلغ عدد المصارف فيها 31، منها 13 محلّية و18 فروع لمصارف أجنبية، وعدد السكّان 35 مليوناً. في لبنان، هناك أكثر من 60 مصرفاً في اقتصاد لا يتجاوز 10% من اقتصاد بلاد الحرمين، لكنْ لديه ضعف عدد المصارف، وعدد السكان لا يتجاوز 5 ملايين. فهل هذا يستقيم؟
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 10 ملايين نسمة وناتجها المحلي السنوي أكثر من 433 مليار دولار، فإن عدد المصارف العاملة فيها يبلغ 49 مصرفاً. وفي مصر، يبلغ عدد السكان أكثر من 100 مليون نسمة وناتجها المحلي السنوي يقدّر بأكثر من 250 مليار دولار، بينما عدد مصارفها يبلغ 37 مصرفاً. أمّا في فرنسا، فيبلغ عدد سكانها أكثر من 66 مليون نسمة وناتجها المحلي السنوي يقدّر بأكثر من 2795 مليار دولار، بينما عدد مصارفها يبلغ 28 مصرفاً. وفي بريطانيا يزيد عدد السكان عن 67 مليون نسمة وناتجها المحلي السنوي يقدّر بأكثر من 2809 مليارات دولار، بينما عدد مصارفها يبلغ 10 مصارف.
في تونس: يبلغ عدد سكانها أكثر من 12 مليون نسمة وناتجها المحلي السنوي يقدّر بأكثر من 42 مليار دولار، وعدد مصارفها يبلغ 19 مصرفاً. وفي سويسرا: يبلغ عدد سكانها نحو 9 ملايين نسمة وناتجها المحلي السنوي يقدّر بأكثر من 710 مليارات دولار، بينما عدد مصارفها يبلغ 13 مصرفاً. وفي تركيا: يبلغ عدد سكانها أكثر من 82 مليون نسمة وناتجها المحلي السنوي يقدّر بأكثر من 713 مليار دولار، وعدد مصارفها يبلغ 13 مصرفاً.
عدد المصارف المطلوب في لبنان، هو عدد المصارف القطاعية الذي قد يكون 4، 5، أو 6، مضافاً إليه مصارف تجارية لا يتجاوز عددها عدد المصارف القطاعية.

4- طابع الملكية العامة
طابع المنفعة العامة يطرح إشكالية الملكية. نعي أن الموضوع حسّاس للغاية وقد يستقطب انفعالات أكثر مما يستقطب نقاشاً عقلانياً في العمق. نظرياً، يمكن للقطاع الخاص أن يتولّى نشاطاً ذا منفعة عامة إذا التزم بشروط تحدّدها الدولة في هذا السياق وبعد الأخذ بالاعتبار لمصالح المنتفعين من الخدمات. بالمقارنة، فإنه في الولايات المتحدة تجرى بشكل دوري جلسات اجتماع بين مسؤولي الحكومة المحلّية والجمهور العام في حال منح تراخيص لشركات تقوم بهذه الأعمال، أو لإعادة تجديد تلك الرخص. ويحصل ذلك في معظم الأحيان في شركات الطاقة والمياه وإدارة النفايات، وذلك على سبيل المثال، التي تُصنّف شركات مصلحة عامة (public utilities companies/sociétés d’utilité publique).
لكن سلوك المصارف التجارية التابعة للقطاع الخاص في لبنان في حقبة الطائف وخلال الأزمة القائمة، لا يوحي بالثقة، وخاصة أن القطاع المصرفي الخاص كان سبباً مباشراً لتدمير الاقتصاد الوطني ونهب أموال المودعين. لذلك يجب استبعاد رموز هذا النظام لأيّ دور في إعادة هيكلة القطاع كما نستبعد أي دور لهم في مستقبل الاقتصاد الوطني. فلا كفاءة تقنية لديهم ولا أخلاق تردعهم عن استيلاء أموال المودعين، ولماذا التمسّك بهم؟
أمّا في أشكال الملكية العامة، فهناك مروحة من الاحتمالات يمكن درسها. في الحدّ الأقصى، هناك الملكية الحصرية للدولة في القطاع المصرفي. والنسخة المخفّفة هي القبول بقطاع مصرفي خاص، لكن دوره يكون تابعاً لسياسة الدولة.
النموذج الثاني هو الملكية المختلطة، أي بين الدولة وأصحاب رأس المال، تكون إدارة المصارف على قاعدة الكفاءة وليس الولاء لأصحاب رأس المال.
النموذج الثالث هو فتح ملكية المصارف للجمهور اللبناني حيث لا تكون أكثرية في الملكية لتكتّلات تتستّر من خلفها بؤر رأس المال الريعي. وإدارة المصارف تكون لكفاءات علمية وتجريبية، إضافة إلى شواهد في الالتزام بالأخلاق والقانون. من ضمن النماذج لهذه المؤسسات المالية الجديدة، المصارف التعاونية العائدة لمختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والمعروفة بـ Credit Unions، أي مؤسّسات ائتمانية يملكها المودعون وينتخبون بشكل دوري مجالس إدارتها، والنقابات والتعاونيات قد تنشئ مؤسسات مالية تخدم المنتسبين إليها. مؤسّسة الضمان الاجتماعي يمكن أن تملك مؤسّسة مالية وتعيّن إدارتها. بطبيعة الحال، إنّ حجم هذه المؤسسات لن يسمح لها بالسيطرة على الاقتصاد الوطني، بل تكون دائماً في خدمة المودعين والمؤسّسات الاجتماعية التي تتعامل معها. ويمكن مناقشة نماذج المؤسسات إذا وجدت إرادة جدّية لاتّباع نموذج ملكية المصارف للجمهور وليس للتكتلات الرأسمالية.
من ضمن أسباب ضرورة هيمنة الدولة على ملكية القطاع المصرفي، استعادة السيادة لإنشاء الكتلة النقدية. فهذه الكتلة مكوّنة من العملة المطبوعة، وهي محصورة بالدولة وبحجم الودائع القصيرة الأجل. لذلك تملّك الدولة أو الهيمنة عليها يعني أيضاً تملّك الودائع القصيرة الأجل والمساهمة في رقابة الكتلة النقدية وحجمها في مواكبة الاقتصاد الوطني. كما أنها تمثّل استعادة لسيادتها، بينما في قطاع مصرفي خاص، فإنّ سيطرة القطاع الخاص على الودائع القصيرة الأجل يعني مشاركة الدولة في حقّها السيادي.

5- مصير المصارف الحالية
إذا كانت هناك حكومة في لبنان تريد التغيير، فمن ضمن مهامها الأولى ملاحقة طاقم القطاع المصرفي على الصعيد العام والخاص. أولاً، لاسترداد الأموال المنهوبة، وثانياً لمعاقبة المسؤولين عن الضرر الذي لحق بالاقتصاد الوطني وحقوق المواطنين والمودعين. وعلى ما يبدو، إنّ النظام الطائفي العميق القائم لم يتردّد في تقديم قربان للبقاء عبر التضحية بحاكم مصرف لبنان. وإذا كان الحاكم يتحمّل مسؤولية كبيرة في ما حصل تكفي لإدخاله السجن إلى ما تبقّى من حياته، إلا أنه ليس هو المسؤول الوحيد. والسؤال الذي لا نستطيع الإجابة عنه، هو: هل سيلاحق أركان النظام قضائياً وجميع من تورّطوا في تسبّب الانهيار، أم سيكتفون بالتضحية بالحاكم ومعه بعض الشخصيات من الصف الثاني؟
في مطلق الأحوال، إنّ الشريك العملي في نهب أموال المودعين هو المصارف اللبنانية التي قد تكون اليوم في حالة إفلاس افتراضي إذا أسفرت المداولات عن تحميلها الجزء الأكبر من الخسائر. هذا يعني إمّا تصفيتها أو دمجها. لكن يبقى السؤال: من سيملك المصارف المدموجة؟ هل نحن على أبواب تمكين أوليغارشية مصرفية متجدّدة من دون منافس؟

6- مصير الودائع
الدولة مسؤولة عن إعادة أموال المودعين الصغار لأنها ساهمت بالتلاعب في سعر الصرف، ما أدّى إلى تبخّر قيمة الودائع بالليرة اللبنانية. أمّا الودائع بالدولار، فيجب فتح ملف كل مودع والنظر إذا كانت ودائعه مشروعة أو آتية من مصادر مشبوهة. وحجم الودائع المستفيدة من هذا الإجراء يخضع لمراجعة دقيقة. الأولوية هي لأصحاب الودائع التي تشكّل جنى العمر أو لمن باع بعض الأصول، وهذا عمل شاق ّلا بدّ من القيام به إنصافاً لأصحاب الودائع. ويجب دفع ودائع الضمان الاجتماعي وصناديق التعاضد التابعة للدولة وللنقابات. كما يجب دفع الودائع العربية وخاصة السورية منها وهذا التصنيف هو على سبيل المثال وليس الحصر.
آلية دفع الودائع تكون عبر إلغاء الدين العام المتراكم، وهناك شرعية قانونية لإلغائه، ثم إصدار سندات خزينة طويلة الأجل بفوائد معقولة تسهم في تعويم أوضاع المتضرّرين. أمّا تمويل المصارف القطاعية من قبل القطاع العام، فإنّ الدولة ستقدّم رأس المال المطلوب، لكن تحديد حجمه مرتبط بحاجات القطاع المعني وفقاً لرؤية الخطة التنموية التي ستقررها الدولة.

7- مصير الأموال المنهوبة
يجب على الحكومة الجديدة أن تعمل على استعادة تلك الأموال مهما كلّف الأمر من وقت ورصيد سياسي ومالي. فهي سيف معلّق على رأس كل المسؤولين الذين تناوبوا على الاستفادة المباشرة من الهدر والسرقات أو قاموا بتسهيلها. مكافحة الفساد مشروع طويل المدى لا يمكن الاستغناء عنه.

8- إعادة هيكلة مصرف لبنان
إعادة هيكلة المصرف المركزي تتطلّب إعادة النظر بقانون النقد والتسليف الذي يحدّد مهام المصرف وصلاحيات الحاكم وسائر المسؤولين. كيف نقارب الصلاحيات شبه المطلقة للحاكم، وكيف نشدّد الرقابة على سلوك الحاكم والطاقم المشرف على المصرف المركزي؟ لا بدّ من تحديد طبيعة العلاقة بين الدولة وخاصة وزارة المالية ومصرف لبنان.
هذه بعض الأسئلة المطروحة التي تتراوح الإجابات عنها وفقاً لمروحة واسعة من التجارب والنماذج الناجحة في العالم. لذلك ندعو إلى دراسة النموذج الصيني والنموذج السنغافوري والنموذج الماليزي على سبيل المثال وليس الحصر. وفي عالم يتغيّر يومياً حول دور المؤسّسات المالية، لا بد للمصرف المركزي اللبناني من أن يكون منسجماً مع التحوّلات. كما أن المصرف المركزي يجب أن يكون في حالة تعاون قصوى مع المصارف المركزية العربية وخاصة في سوريا والعراق والأردن، وغداً مع فلسطين. كما أن أساليب العمل يجب أن تكون على الوتيرة نفسها مع مصارف دول البريكس والكتلة الأوراسية لأن توجّه الاقتصاد اللبناني سيكون شرقاً وليس غرباً، فالغرب لم يعد مصدر الصناعات والتكنولوجيات للقرن الحادي والعشرين. الغرب، وخاصة أوروبا بعد دخولها مرحلة ما بعد الصناعة، سيكون محطة ترفيه وسياحة وليس أكثر.
إنّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي تخضع أولاً لقرار سياسي. وهذا القرار السياسي مرتبط بإعادة النظر في البنية السياسية القائمة. لذا، نكرّر أن لا تغيير اقتصادياً ونقدياً واجتماعياً وثقافياً من دون تغيير سياسي. هذه مهام النخب الطامحة للحكم في بلورة رؤيتها في هذا الموضوع.

*ورقة نقاشية قُدّمت لـ«المنتدى الاقتصادي والاجتماعي» في 15/8/2023

**باحث وكاتب اقتصاد سياسي وعضو الهيئة التأسيسية لـ«المنتدى الاقتصادي والاجتماعي»