تتردّد مقولة «لا غالب ولا مغلوب» في رواق السياسة اللبنانية بين فينة وأخرى، غالباً ما يتمّ توظيفها بما يوحي أنّ لبنان لا يتغيّر ولا يخضع لتحولات الاجتماع الإنساني، هو كيان جامد في توازناته ومعطياته منذ نشأته الأولى، ليس لأي جهة أو تجربة أو خطاب أن يتقدّم فيه. كأنّه يُراد تكريس الشخصية اللبنانية التي لا تعترف بالخسارة ولا الفشل أو تثبيت أفضلية سبقت لبعض على آخر. بينما يقدّم فريق آخر تفسيراً مختلفاً، فتصحّ المقولة لو كنا نتحدث عن انتصار بمعنى التغلّب والقهر والإقصاء، كما ويصح فيما لو كان جميع من في الساحة اللبنانية يحملون خطاباً ارتكاسياً يسير بخلاف وجهة قافلة الإنسانية ومسارها الحضاري منه. تكرارها بسطحية من البعض اليوم يهدف لاصطناع أوهام وخلق تخندقات وأسوار نفسية وفكرية بدل أن تتّجه المقولات لمطالبة النخبة والرأي العام بنقد القوى السياسية ومحاسبتها وفرض التغيير عليها من خلال دينامية متماسكة تصعد من الشعب وحلقاته الوسيطة ونخبه. إنّ أعظم تجربة أنتجها لبنان الحديث، المقاومة، تفيد بأنّ هندسة المجتمع تختلف عن المادة وهندستها، وأنّ التفاعل والخطاب ونقد الذات بعقلانية يمكن أن تؤدي إلى مجتمع وقيم جديدة، يمكن للمجتمع أن ينتقل من ضعف الثقة بالذات إلى الثقة، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الإدراكات السلبية إلى الإيجابية، ومن التوجّس إلى الانفتاح، ومن الضعف إلى القدرة، ومن التهميش إلى المشاركة، ومن الهامش إلى الفاعل المحوري، ولبنان هو أيضاً يمكنه أن يسير وينتقل من حالة الشعوب المتعايشة بقلق إلى حالة الشعب الذي يبني للمستقبل ويؤسس هويته وقضاياه وفق عقلانية معينة. وليس أي انتصار لخطاب على آخر يجب أن يدفع للتوجّس، إنّ التوجّس الدائم ليس إلا عقدة نفسية وماضوية لا تناسب سياقات هذا الزمن ووقائعه.
بالنسبة إلى المقاومة، اليوم وغداً، التحدي يكمن في أي الخطابات هو الأقدر على لمّ الشمل والنهوض وتحرير القرار السياسي، وبالتبع الاقتصادي، وإخراج البلد من مخاطر محدقة به إلى فرص تلوح في الأفق أو يقوم لبنان بإنتاجها. أي خطاب يتقدّم وأيّه عفا عليه الزمن، وأيّه ينفتح على أفق وطني وحضاري وإنساني، وأي خطاب فقد رصيده ومصداقيته ونجاعته في حل المشكلات، هي تفصل بين الخطاب وأهله، فقد يسقط خطاب لكن يجب أن يحفظ أهله ليحفظ الوطن.
من يراقب العقدين الأخيرين منذ ما بعد تحرير 2000، ورغم خطير الأزمات التي مر بها لبنان، فإنّه سيلاحظ بوضوح تقدّم مفردات وقيم وتراجع لأخرى، واليوم ومع حماوة معركة الرئاسة تعود مقولة الغالب والمغلوب والفرض والتغلب لتظهر بقوّة.
أنبأنا تاريخ لبنان الحديث عن محاولات تغلّب كانت نتيجتها خسارة لحقت بالجميع، حينها صعُب لدى البعض الفصل بين الفكرة الخاطئة وأهلها، فاندفع الطرفان للتخلّص من الآخر فيزيائياً وليس تغيير نظرة الآخر إلى الأشياء فحسب، حين ذاك تداخل الإيديولوجي بين القطبين بالمحلّي وشره السلطة فكان تناقض ليس فيه مكان للآخر. كل حاول أن يشدّ البلد باتجاه الشرق أو الغرب، ويكاد المرء يعجز عندما يراجع دفاتر الماضي عن إيجاد دعوة محلية الصنع والمنطلق بل يجد دوماً تشريقاً وتغريباً وفئوية قاتلة. قُدّر للبنان أن يكون بلداً قاصراً لا يقدر على القيام بالأعباء برؤية مستقلة مستندة إلى قواه الذاتية، علماً أنّ الشرق والغرب كانا حينها يتبادلان منافع استقرار الهيمنة الثنائية وقسمة العالم والدول والمجتمع بدعوى الصراع.
بالعودة إلى واقعنا الحالي ويومنا، باعتبار أنّ إدراكنا لها أفضل فنحن نعيش فيها ونصنع خطابها ونشارك في نظم معادلاتها وتفاعلاتها الداخلية منها والإقليمية، نستطيع أن ندّعي أنّ الحالة الخلافية الحادة الجارية في لبنان حالياً، والتي تبلورت في العقدين الأخيرين بشكل أكثر جلاء، ليست صراعاً وجودياً بين مكوّنات أو إلغائياً وفقاً لمنظور وخطاب المقاومة في لبنان. ولا تقوم على ذلك لا في الممارسة ولا الخلفية كما تُثبت الوقائع، إنّما هي مسعى لتقديم بديل ينجح في السياسة والاستراتيجيا والعسكر والحرب الوطنية على «كورونا» ويؤسس لإنقاذ اقتصادي من بوابة الترسيم، مسعى يُثبت فاعليته بعد أن استنفدت بقية الأطراف خطابها وبرز ضعفها وعجزها وانفعالية غالبها.
المقاومة لا تنظر إلى خلافها مع خصومها بكونه عداء مستحكماً يعالج بالمصارعة الحرة على الطريقة الأميركية الخالية من القيم النبيلة والمتفلّتة من كل الضوابط الأخلاقية والمجتمعية. رغم احتدام خلافها معهم لا تراها صنّفتهم في خانة العدو بل أصرّت على اعتبارهم خصوماً يمكن العمل لتغيير آرائهم أو إضعاف مباني خطابهم وفق أدوات اللعبة الديموقراطية وخصائص الساحة اللبنانية، كابحة قوّتها بصرامة بالمبادئ الأخلاقية والوطنية الثلاثة: أولاً بكونه جمهورية، وثانياً ديموقراطية، وثالثاً توافقية. ولإنجاح مقاربتها اعتمدت المقاومةُ البناءَ بالعلم بدل الانطباعات والعصبية، والبناء بالدفع قدماً لتجاوز المشكلات بدل الغرق فيها، وببعد النظر وشموله بدل التلهي في تنافسات داخلية قاتلة، وبتجنّب حيازة المواقع بدل التنافس الأعمى عليها، والبناء بالتفاعل بدل الانغلاق والانطوائية، وبالانبساط في الشخصية والشفافية بدل العُقد.
الصراع القائم في لبنان اليوم ليس صراعاً لإلغاء أحد، ولا صراعاً على الانتماء إلى الكيان اللبناني من عدمه كما كنّا في القرن المنصرم، ولا على حق طرف في اعتقاد سياسي، ولا على قبول أو رفض العيش مع مكوّن. إنّ الذين يتحدّثون بالفدراليات والتقسيم هم قلة واهمة لا تشكّل إرادة شعبية. الصراع في لبنان اليوم انتقل إلى مستوى ثان؛ إلى الصراع على تفسير ومعايير عناصر الانتماء ومضامينه وأدوار وحيازات المساهمين فيه، ومنهج بناء لبنان والخطوات الصحيحة المحقّقة لذلك في عالم متحوّل وسيال يتطلب الحكمة. هذا لا يتم بالتغلّب ولا بالفرض والإكراه إنّما ببناء النموذج والخطاب المقنع وتعميمه. هذا يتطلب النفس الطويل وبعد النظر والشمول والتقاط الفرص بل وصناعتها، فلبنان بلد معقّد، عدّوه «إسرائيل». التعجّل وقصر النظر، وبالقدر نفسه يحوي لآلئ نادرة. هو على عكس الولادات الطبيعية للدول التي تأسست بالعرش ثم النقش، ظروفه فرضت أن يسير من النقش إلى العرش وهذا تحدّيه الأكبر الذي يجب خوضه حتّى لو تأخّر كثيراً لأسباب ليس آخرها نظرة الأطراف الداخلية التقليدية إلى بعضها بعقلية التوجّس والتغلّب والخوف من الاقتراب لمشروع موحّد وافتقار أيّ منها إلى نموذج ناجح.
في القرن الماضي ربّما أخذ اللبنانيون التحديث من الغرب بدل الحداثة - رغم نقدنا الكبير والمبدئي لها - لم يجاروا خطاب الثورة الفرنسية التي ادّعوا الانتساب إلى ثقافتها وقيمها: على ماذا يدّل هذا، ربّما أنّ المشكلة في جزء كبير منها لبنانية (العقلية والتفكير)، لقد آثروا حكم السلالات والأعراق والطائفة على منطق المساواة والحقوق وتحرير الإرادة للشعب في مواجهة قوى وصنوف الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي طغت حينها. أرادوه نموذج ما قبل الثورة الفرنسية رغم تغنيهم بها فأهملوا المساواة والعدالة وقبول التنوّع ووقعوا في إيديولوجيا الحداثة باسم رفض الإيديولوجيا.
بين الخطابات المتناقضة سياسياً وقيمياً ومرجعياً في عالمنا هناك من يربح ويراكم وهناك من يخسر وينحدر. وفي منطقتنا يجري المنطق نفسه، وأيضاً في لبنان على وجه التحديد البلد الذي يشكّل نموذجاً مصغّراً للإقليم والعالم، إنّها فلسفة التاريخ وحركته. ليس هذا أمراً معيباً أو تعدّياً على خصوصيات إنّما هذه حقيقة عالم الدنيا وديناميكياتها وتحولاتها وجوهر الصراع والتفاعل، دوماً هناك رابح وخاسر في اكتساب الشرعية والمشروعية الفكرية، في التجربة العملية، في مطابقة الوقائع على المدّعى، في الربط بين القوة المادية والمعنوية، في معرفة ساحة الاشتباك وقواعدها وما هو المنهج الأصح والأقوم للتعاطي معها وتحديد أدواتها وقبل ذلك النفس الطويل والأولويات.
الآن، وبينما نحن على أبواب الانتخابات الرئاسية، يبدو أنّ المقولتين اللتين حفّزهما أو غرس غرسَهما التفاهم مهددتان بالفعل. فالطرفان يقرآن اللحظة بعقليتين مختلفتين تنمّان عن إدراكين متباعدين


لذلك، لا مانع أن يخسر طرف أي خطابه ويربح آخر إذا ربح الوطن ككل ووحدته وقدرته ومكانته وسيادته الحقّة، فالربح والخسارة مرتبطان ليس فقط بكيف نراهما، بل أيضاً بأهدافنا وتصوراتنا ومنطقيتها، لذلك الربح والخسارة يحتاجان إلى المعيار الوطني والحضاري والفاعلي أولاً.
في العقدين الأخيرين دخل لبنان جدياً بحث العرش على ضوء جملة التطورات والمستجدات الوازنة التي أصابت الواقع اللبناني برمّته وبعد أن أصبح مضطراً لمواجهة مستقبله بنفسه.
إنّه لا عمل بلا فكرة سابقة، ولا خطاب بلا قيم حاملة، ولا هدف بلا مشروع مسير، في لبنان اليوم أظنّ أنّ خطاباً يتقدّم وكذلك في الإقليم أنجز ولا يزال أمامه ما ينجزه. ندّعي تقدّم فكرة أنّ لبنان يمكن أن يكون مؤثراً وليس دوماً متأثراً، تقدّمت القناعة بلبنان بلد ذي بسطة في العلم والجسم على لبنان القوي في ضعفه. تقدّمت القناعة في حاجة اللبنانيين إلى منهج بناء الدولة القادرة العادلة بدل تركها رهن هشاشة موروثة ومتعاقبة من زمن الانتداب ورهن اللاعدالة المتجذرة في بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ التأسيس. تقدّمت الثقة بالنفس عند شريحة عريضة من اللبنانيين والعزم على المشاركة الفاعلة في قيام لبنان بعد ردح من التهميش، تقدّمت عند شعبه قيمة المسؤولية بدل الانطوائية، والمصلحة المرتبطة بنظرية الأمن القومي -كما بقية الدول- على الأمنيات وترجّي الخارج، والعمل بالعقل السياسي على العقل الاقتصادي، والمشرقية المسؤولة على الليبرالية المتهالكة التي ضربته إبّان مرحلة ما سمّي بـ«سويسرا الشرق». إذ تبيّن أنّها كانت أشبه بتزييف يخفي حالة خطيرة من اللاعدالة الاقتصادية فيه، واللاعدالة السياسية باقتصاره على خطاب مكونات دون أخرى. وتتقدّم نظرية الخصوصية اللبنانية بحيث لا يشبه بثقافته ولا يمكن أن يشبه إلا ذاته واكتشافها. تقدّم منطق البحث عن ثقافة اقتصادية واقتصاد مختلف على حساب النموذج الاقتصادي القديم وارتهاناته. نعم، تقدّمت قيمة الاعتماد على الذات بدلاً من الاعتماد على الآخرين، تقدّمت الثقة بالذات على التقليد وعقدة الخوف، تقدّمت ثقافة المسؤولية الإنسانية، وشجاعة التقرير وتجنّب تصفية الحسابات الداخلية والاقتتال التي عاشتها قوى اليمين واليسار في تاريخ لبنان الحديث، وتقدّمت حقيقة أنّ الصراع ليس إسلامياً مسيحياً أو مذهبياً إنّما سياسي بامتياز وهو يتمركز حول النظرة إلى الذات الوطنية ومكانة لبنان ومعناه ورسالته.
باختصار، في لبنان تقدّم موقف وخطاب المقاومة على جماعة الغرب وأميركا وانفتح السؤال لأوّل مرّة حول قدرة لبنان إذا ما أخذنا ببعض المقدمات أن يكون قائد قاطرة النهوض العربي.
يبقى هناك قيمتان، أو قيمتان على المحك، كلتاهما تمر اليوم بتحدّ، قيمتان انبثقتا من التفاهم الذي حصل بين حزب الله والتيار الوطني الحر وكانتا بالفعل زرعاً جديداً في الحقل اللبناني، نتج عنهما تلاقي المكوّنات الإسلامية المسيحية في أصعب لحظات منطقتنا. شعر الطرف المسلم بالأمان لجهة شريكه بالوطن والوطنية وسنداً في مواجهة عدو لبنان - إسرائيل - وعلى الصعيد الثاني اطمأنّ المكوّن المسيحي بأنّه غير مهدد وجودياً وأنّ الشراكة يمكن أن تستعاد تدريجياً وهذا فعلاً ما حصل وتحقق للطرفين، فنبتت نبتة رغم تصحر بيئة لبنان السياسية وصعوباتها. أمّا الغرسة الثانية، فكانت في طريقة التفكير عند الطرفين، فالتيار كمكوّن مسيحي سيتقدّم عمّا عانته المارونية السياسية من ضيق الصدر والتوجّسات الزائدة والقلق المتوهّم بغالبيته، سيتقدّم إلى دائرة الاستشراف وشمول المقاربة والنظر بالماكرو إلى لبنان والإقليم والعالم وعدم التعجّل في حركته. وحزب الله يصبح أكثر اهتماماً بالدولة واقتراباً من شؤونها وتحدياتها، وتراني أظن أنّ هذين الأمرين تحققا بنسبة معقولة نسبياً. كثر هم من عوّلوا على هذا التفاهم أن يستمر بثبات ويتطور وعملوا لنمائه رغم مساعي إسقاطه المعلومة. لقد رأوا في هذا التقارب، إلى جانب غيره من التحالفات على قاعدة المقاومة، رصيداً هائلاً يثبت الوحدة الوطنية وينسخ الانقسام التاريخي الذي حكم تاريخ لبنان.
الآن، وبينما نحن على أبواب الانتخابات الرئاسية، يبدو أنّ المقولتين اللتين حفّزهما أو غرس غرسَهما التفاهم مهددتان بالفعل. فالطرفان يقرآن اللحظة بعقليتين مختلفتين تنمّان عن إدراكين متباعدين وكأنّ ما يقرب العقدين لم يكن كافياً لفهم مشترك. ففي لحظة ترى المقاومة أنّ الانتصار الاستراتيجي والعسكري الذي تحقّق ينتقل اليوم إلى انتصار سياسي كما تدلّ مسارات الإقليم، وأنّ في ذلك فرصة فعلية لتحلل لبنان من ربق الهيمنة الأميركية وأعبائها ومواجهة مشكلاته الماثلة بشجاعة وآفاق واعدة وجرأة في الإفادة من العالم بأسره بما يخدم سيادة لبنان واستقلاله ونموه. وفي الوقت الذي ترى فيه المقاومة أنّ مشكلة لبنان أولاً سياسية حتى تلك الاقتصادية منها، فهناك في المقابل من يطالب برئيس وسطي ويدعم موقفه بالحديث عن نظرية المراقبة والمحاسبة للرئيس المقبل (كما عبّر رئيس التيار في خطابه الأخير)، كأنّنا في لحظة تجريب ولسنا في مفصل، وكأنّنا في جمهورية أفلاطون الفاضلة.
وفي حين يختار حزب الله أحد حلفائه الموثوقين سياسياً في هذه اللحظة يفترض الآخر أن يبدأ برئيس لا ينتمي إلى حلقة الحلفاء للمقاومة وكأنّنا خسرنا معركة تضطرنا للتنازل بدواً. وإذ يعتبر الحزب أنّ قضايا لبنان وتحدياته الماثلة تحتاج إلى رئيس موثوق ومجرّب ومطمئن وغير مرتهن أو ضعيف الموقف، يرى التيار أنّ المسألة ترتبط برئيس لديه برنامج. أي برنامج، وهل من رئيس يجب أن يكون لديه برنامج، وهل هذا من مسؤولية موقع الرئاسة؟ أسئلة كبيرة كلّها تصب في مكان واحد أنّ مقاربة الوزير باسيل تختلف لجهة الشمول والنظرة البعيدة ومواكبة الحالة اللبنانية والواقعية الضرورية، بدل المثالية أو العصبية التي يحلو لخصومه توصيفه بها. أمّا التشبيك الإسلامي المسيحي الذي تثبّت بإنجازات كبيرة، ليس آخرها قانون الانتخاب على الصعيد الداخلي، فربّما يعود ويعاني ارتكاسة بدل أن يمضي قدماً.
إذا كانت الأوطان والدول تُبنى أولاً بتفاعل الخطاب بين مكوّناتها وتلاقي القيم وتعشّقها بالمعايشة وتقويم التجارب، فيمكن القول إنّ حزبين أساسيين يواجهان تحدّي ما كانا قد زرعاه في مضمار «العقلية اللبنانية والتقارب الطائفي»، بعد أن استفحلت في لبنان عقلية الحسابات الجزئية وضيق الأفق والانشطار الذي قسم لبنان لعقود.
هل سيستدركان ويدخلان في حوار جادّ وعميق لعبور المرحلة وبحث ما يليها؟ فالبلد سيكون الخاسر الوحيد إذا فشلا، ولا تراني أجاري رأي بعض قادة التيار الوطني كلياً أن التفاهمات الإقليمية الجديدة أضعفت من حاجة حزب الله إلى البيئة المسيحية، خصوصاً بعدما اعترفت القمة العربية في جدّة بحقه الأكيد في المقاومة، ما يشي أنّ مسار تطبيع العلاقات سيكمل بزخم أكبر وآثاره ستظهر مع مرور الوقت، لكن في الآن ذاته أوافق أولئك الذين يعتبرون أنّ المقاومة بما تحوزه من اعتبار إقليمي ودولي ومحلي تبقى الأقلّ تضرراً بينما ستكون القوات اللبنانية خصم المقاومة وحليف أميركا الوحيد رابحاً أكيداً، ناهيك أنّ هذا المنعطف سيترك آثاراً نفسية على العلاقة حتى لو بقيت لغة المصالح. نتمنى أن تتقدّم عقلية المقاربة السياسية الشاملة والبعيدة لما فيه مصلحة لبنان على التكتيك والتوهّم بمواجهة الفَرض الذي نسمعه على المنابر، وأن لا نتسرع في استبدال الثقة التي ميّزت العلاقة بالظنّ، واليقينيات بالاحتمالات، وفرص استعادة ذلك لا تزال ممكنة، ساعتئذ سيكون لبنان إزاء تقدّم جديد يضاف إلى التقدّم في المقولات السابقة التي عرضناها، وسيخرج الطرفان ولبنان رابحين.

* كاتب لبناني