باستثناء الأمم المتحدة، وهي منظمة غير ذات كفاءة عالية في ممارسة السيطرة والتحكم بسبب وجود بلدان معارضة لمشيئة الولايات المتحدة وتمتلك حق النقض، يعدّ «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» من أبرز مؤسسات «الاستعمار الجديد» التي أُسّست ما بعد الحرب العالمية الثانية بزعامة الولايات المتحدة. ما ينجزه نظام التبادل التجاري الدولي، من فرض حدود تبادل غير عادلة على دول الأطراف (دول الجنوب) يُغرقها في عجز مزمن في ميزان المدفوعات، تكمله هاتان المؤسستان من خلال إغراق تلك البلدان في مستنقع الديون والتبعية.لقد كان صعود الاتحاد السوفياتي ملاذاً آمناً للبلدان التي تريد التفلّت من ذلك المصير. إلا أنه، بعد الانهيار وعودة هيمنة الولايات المتحدة في ظل نظام يسوده قطب واحد، لم يعد لدول «الجنوب» إلا أن تغرق أكثر فأكثر في بحر التبعية والمديونية أو أن تقاوم. ومع ذلك، بقي باستطاعة بعض البلدان التفلّت جزئياً من شبكة العلاقات الإمبريالية، من خلال اتفاقيات جانبية بعيدة عن الاتفاقيات الدولية، مثل التبادل التجاري بالعملات المحلية. إلا أن هذا الشكل من أشكال التعامل لا يأخذ بعين الاعتبار الفوارق الاقتصادية ما بين الأطراف المتعاملة من حيث حجم إجمالي الناتج المحلي، ولا يأخذ في الحسبان نسب البطالة بين البلدان والقيمة الشرائية للعملة... إلخ. وبالتالي لا يمكن تأطيره وتعميمه ليصبح نظاماً بديلاً متاحاً.
شهدنا ما بعد الحرب الباردة عدة أشكال لتحالفات دول «الجنوب» من خلال إنشاء تكتلات، أو منظمات دولية، ولأسباب متعددة (سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو عسكرية):
- «مجموعة شنغهاي الخماسية» (1996): صارت «منظمة شنغهاي للتعاون» (2001). كان لها طابع أمني وعسكري ملحوق بالشقّين الاقتصادي والسياسي، ووصل الأمر إلى نقاشات 2006 التي أسّست، تحت شعار «كسر الاحتكار (الغربي – الأميركي) للاقتصاد العالمي»، لمجموعة «البريكس» في 2009.
- استطاعت مجموعة «البريكس» (2009) أن تنشئ نواة تكتل مالي يعمل بعيداً من هيمنة الدولار من خلال ابتكار منظومة دفع تغني الأطراف المتعاملة في دول المجموعة عن اللجوء إلى منظومة الدفع الغربية (سويفت).
- «بنك التنمية الجديد»: أسست «البريكس» «بنك التنمية الجديد» في 2014 والذي يعدّ منافساً لصندوق النقد الدولي وللبنك الدولي، حيث، على عكس الأخيرين، لا يفرض أي أجندات سياسية في خدمات الإقراض التي يقدمها ولا يتزعمه أي بلد من البلدان المشاركة فيه.
ما تجب ملاحظته في هذه المجموعات أن البلدان الأقوى هي روسيا والصين. كما أنها تعدّ نوادي مفتوحة لبلدان الأطراف. وتوسّع هذه التحالفات لا يزال يزداد بشكل مطّرد ليشمل أكبر كمّ ممكن من دول الجنوب. فطلبات الانضمام التي قُدّمت، ولا تزال قيد الدراسة، تؤكّد هذا التوسع. وتشمل الطلبات دولاً مثل: الجزائر والأرجنتين والبحرين وبنغلاديش وبيلاروسيا ومصر وإندونيسيا وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان والمملكة العربية السعودية والسودان وسوريا وتونس وتركيا والإمارات العربية المتحدة وفنزويلا وزيمبابوي.
وإذا ما استثنينا بعض البلدان «المختلطة» (كتركيا، عضو «الناتو»)، فيمكننا القول إن هذا التوسع في المشاركة يبدي ميلاً عند بلدان «الجنوب» للتحالف. ويبدو هذا الميل طبيعياً على اعتبار أن نوادي الإمبريالية مغلقة (مجموعة الدول الصناعية السبع كمثال).
بالرغم من هذا الإقبال على هذه التحالفات، فإنها لا تزال بحاجة إلى مواجهة الكثير من المشاكل. ولنقدّم مثالاً راهناً شهدته مجموعة «البريكس»: بعد الحرب الروسية – الأوكرانية والعقوبات على روسيا، اضطر «بنك التنمية الجديد» إلى تجميد العلاقات رسمياً مع روسيا ومنعها من الاقتراض مع أنها عضو مؤسس ومالك فيه! المشكلة هنا لا تزال تتعلق بقوة الولايات المتحدة المالية وبقية دول المراكز وخضوع «بنك التنمية الجديد» لمنظومة «بريتون وودز». فالدولار لا يزال هو وسيلة التبادل العالمية الأكثر رواجاً. وعليه، فإن هذه التحالفات الحالية، وما تقدّمه من مؤسسات بديلة، ستبقى خاضعة للاقتصاد المدولر ولهيمنة دول المراكز بقيادة الولايات المتحدة طالما أنها تعمل بهذا الشكل. فمن المهم طرح نظام علاقات دولية بديل ومؤسسات بديلة للعلاقات وللمؤسسات المالية الإمبريالية الغربية، ولكن الأهم هو أن تكون هذه البدائل ثورية قادرة على مواجهة هيمنة تلك المؤسسات عندما يلزم الأمر والقضاء على التبادل غير المتكافئ مع البلدان المتقدمة صناعياً.
ميل دول الجنوب إلى التحالف واصطفافها لـ«حصار دول المركز» يبقى هو الدرب الوحيد حالياً للخلاص، ولكنه «ذلك الدرب الطويل والمفعم بالعذاب» كما يصفه ماركس.