بعد انقشاع غبار معركة «ثأر الأحرار» التي خاضتها حركة «الجهاد الإسلامي» بجناحها العسكري «سرايا القدس»، بالتعاون مع الأجنحة المسلحة للفصائل في «غرفة العمليات المشتركة»، إثر اغتيال ثلاثة من قادتها: أمين سر المجلس العسكري جهاد الغنام، عضو المجلس العسكري خليل البهتيني وقائد المنطقة الشمالية، والمتحدث باسم الجهاد الإسلامي بالضفة طارق عز الدين (وهو أسير مبعد إلى غزة ضمن صفقة «وفاء الأحرار» وتوارد أنه ضمن الجهاز العسكري لـ«سرايا القدس»)، ليلتحق من ثم بركب الشهداء ثلاثة آخرون، هم: مسؤول الوحدة الصاروخية في السرايا علي حسن غالي، وعضو المجلس العسكري أحمد محمود أبو دقة، ومسؤول وحدة العمليات في السرايا إياد الحسني.هي أسماء كبيرة ورموز تاريخية في ساحة العمل المقاوم، وهي من الرعيل الأول للحركة، الذي التحقت مبكراً في صفوف الجناح العسكري لـ«الجهاد»، وكان يطلق عليه سابقاً «القوى الإسلامية المجاهدة» (قسم). لكن، بالرغم من هذه التضحية الكبيرة والمؤلمة، إلا أن الصواريخ لم تتوقف عن الانطلاق حتى آخر لحظة من إعلان الاتفاق بعد خمسة أيام من المواجهة، مما يشي بقدرة «سرايا القدس» على التكيف مع مختلف الظروف.
فماذا عن خلفيات المعركة، وماذا عن الإنجازات التي حققتها الحركة، وهل من تحدّيات كشفتها معركة «ثأر الأحرار»؟

الخلفيات
لسنا بحاجة إلى بذل الكثير من الجهود لتحليل الأسباب الظاهرية والشخصية لبنيامين نتنياهو لخوض حرب على غزة في إطار تصدير أزماته؛ من أزمة انشقاق داخلي يعيشها الكيان الإسرائيلي جراء الخلاف على «التعديلات القضائية»، وصولاً إلى حماية الائتلاف الحكومي من السقوط بعد الرد «الباهت»، بحسب الوزيرين في الحكومة بن غفير وسموتريتش، على الصواريخ التي أُطلقت من غزة رداً على استشهاد الأسير الشيخ خضر عدنان، والانسحاب من التصويت في الكنيست، وليس انتهاء بانخفاض شعبية «الليكود» في الشارع الإسرائيلي.
إلا أنها ليست كل الحقيقة، فما كشفه القادة العسكريون والأمنيون للاحتلال، والمحللون العسكريون للصحافة الإسرائيلية، يظهر الأسباب الاستراتيجية والحقيقية التي دفعت لاندلاع هذه الحرب، والتي تعود إلى محاولة كسر مفهوم «وحدة الساحات»، وإنهاء دور المقاومة في غزة عن حالة الاشتباك في الضفة والقدس.
لقد نقلت صحيفة «معاريف»، في عددها الصادر في 10 أيار، تصريحات رئيس جهاز «الشاباك» رونين بار، في مؤتمر صحافي مع نتنياهو، أن جهازه أحبط خلية في جنين ادعى أنها بدأت بتصنيع منصات صواريخ، وصواريخ لإطلاقها تجاه «إسرائيل». وتحدّث بالتحديد عن مسؤولية الشهيد طارق عز الدين عن هذه الخلية. أمّا رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي، فقد أظهر أن الجيش يعدّ العدّة لهذه العملية منذ فترة، وقد اختار التوقيت الأنسب للقيام بها.
أمّا المحللون العسكريون، كرون بن يشاي من موقع «واي نت» (9 نيسان)، ويوآف ليمور من صحيفة «إسرائيل اليوم» (عدد 11 نيسان)، فقد أكّدا ما سبق وتحدّث به القادة العسكريون والأمنيون، أن الهدف الحقيقي للمعركة تتلخّص في ترميم الردع الإسرائيلي، ومنع تنفيذ عمليات في الضفة الغربية، وكسر مفهوم «وحدة الساحات» الذي أرسته «الجهاد» منذ عملية سور القدس عام 2021، وهو ما تتم ترجمته على الأرض من خلال كتائبها في جنين، ونابلس، وطوباس، وغيرها في الضفة الغربية.

إنجازات الحركة
للمرة الأولى، منذ أن خاضت معاركها «المنفردة» مع الاحتلال، منذ اغتيال قائد السرايا بهاء أبو العطا عام 2019، لم تتصرّف حركة «الجهاد» كما يتوقع الاحتلال، وذلك عبر رد فعل متوقع بإطلاق الصواريخ بعد عملية الاغتيال مباشرة. فلقد انتظرت حوالي 30 ساعة قبل إطلاق الصواريخ، وصمتت، مما أوقع صانع القرار العسكري بحيرة، واستفزاز، تم تظهيره عبر الضرب المستمر للقطاع، محاولاً استفزاز الحركة للرد، في محاولة لتأطير هذه المعركة بعدة ساعات كما يريد أو يتوقع الاحتلال، ثم يضغط كالمعتاد عبر الوسطاء لإنهاء المعركة محققاً «إنجازاً» عبر ضربة سريعة ومباغتة منخفضة التكاليف.
لقد أظهرت المعركة العديد من التحدّيات التي واجهت حركة «الجهاد» والتي تستدعي إجراء تقييم عسكري وسياسي


وبالحديث عن الإنجازات، نرى أبرزها في التالي:
1- الحرص على الموقف المقاوم الفلسطيني الموحد، فقد كان من الواضح استخلاص الدروس والعبر من معارك «الجهاد» في السنوات الأخيرة، حيث تركت وحدها تخوض المعركة، فحرصت على التشاور والتنسيق مع الفصائل، وعلى رأسها حركة «حماس»، لإطلاق شعار «ثأر الأحرار»، مما فوت على الاحتلال فرصة شق صفوف المقاومة، وهو ما أشار إليه الأمين العام لـ«الجهاد» القائد زياد النخالة في خطاب الانتصار: «فوّتنا الفرصة على العدو، أن يفرقنا، وتحمّلنا ما تحمّلنا من أجل أن يبقى الموقف موحداً وقوياً وثابتاً».
2- الاستمرار في القتال عبر إطلاق الصواريخ بالرغم من ارتقاء ستة من أعضاء المجلس العسكري، مما يؤشر على حيوية ومرونة الجهاز العسكري على التكيف مع غياب القادة، ما أظهر كذب ادعاءات نتنياهو حول «توجيه أقوى ضربة للجهاد الإسلامي منذ تأسيسها»، والذي يهدف بدوره أن يؤدي إلى تراجع أداء الحركة في المعركة. فما شاهدناه هو العكس تماماً، لجهة الكم والكيف في إطلاق الصواريخ، وهو ما أكده أبو حمزة، الناطق العسكري باسم السرايا، في خطاب الانتصار: «قدراتنا ما زالت بألف خير، وأن في جعبتنا الكثير الكثير مما سيراه العدو في أي جولة مقبلة».
3- فشل المنظومة العسكرية الإسرائيلية، من «القبة الحديدية» إلى «مقلاع داود»، في التصدي لصواريخ المقاومة، فقد أطلقت السرايا 1500 صاروخ من القطاع، سقط منها 1000 صاروخ، على مدن: تل أبيب، والقدس، وعسقلان، فضلاً عن المستوطنات المحيطة بغزة، («يديعوت أحرونوت»، تقرير عن الحرب، 15 نيسان).
4- إطالة أمد المعركة، وعدم التوقف إلا بعد انتزاع اعتراف إسرائيلي بوقف سياسة الاغتيال بضمانة مصرية، وهذا لم يتحقق إلا بفعل إطلاق الصواريخ المستمر، والحاضنة الشعبية للمقاومة، التي ظهرت صورتها بشكل واضح عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي التظاهرات التي عمّت شوارع غزة والشتات الفلسطيني، بينما في الجانب الإسرائيلي بدأت الانتقادات توجه من قبل القادة العسكريين، والأمنيين، للتوقف، فضلاً عن قدرة «المجتمع الإسرائيلي» للاستمرار في الملاجئ، مما شكل ضغطاً على الحكومة الإسرائيلية للرضوخ لشروط المقاومة، والتي بدورها لم ترضخ لجهود الوسطاء لإيقاف المعركة بتوقيت إسرائيلي قبل تحقق الشروط. والشروط، وإن أتت بصيغة فضفاضة، لكن تحت بند تهديدي «نلتزم ما التزم به الاحتلال».
5- تثبيت الحركة كرقم عسكري صعب في مواجهة «إسرائيل»، لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وهو ما أشار إليه المحلل العسكري طال ليف رام؛ أن «الجهاد» قادر «على توريط إسرائيل في وحل غزة، وينجح المرة تلو الأخرى في جر إسرائيل إلى مواجهة عسكرية، ويقصر المدة الزمنية التي تفصل بين الجولة والأخرى...وعلى الرغم من النجاحات العملانية، فإن التصعيد المقبل يمكن أن يحدث قريباً» («معاريف»، 15 نيسان). ذلك فضلاً عن أنّ ما جرى على مدار خمسة أيام لم يحقق أي إنجاز إسرائيلي سوى اغتيال القادة، وهو ما عبّر عنه رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين في موقع «أن 12» (14 نيسان)، في مقال سمّاه «الأكاذيب التي تبيعكم إيّاها الحكومة في الاغتيالات».

التحدّيات
لقد أظهرت معركة «ثأر الأحرار» العديد من التحدّيات، التي واجهت حركة «الجهاد»، والتي تستدعي إجراء تقييم عسكري، وسياسي، من أبرزها:
1- عدم مشاركة «حماس»، وبالتالي «كتائب القسام»، في المعركة لحسابات غير واضحة المعالم إلى الآن، وليست «الجهاد» مسؤولة عنه، لكنه تحدٍ مستمر لـ«الجهاد»، حيث اكتفت «حماس» بالغطاء السياسي عبر «الغرفة المشتركة»، وهذا، بدوره، يطرح تساؤلات كثيرة عن مستقبل هذه العلاقة على مستوى خوض المعارك المقبلة مع الاحتلال، والذي كان بدوره محط نظر لدى الصحافة الإسرائيلية التي رأت في هذا الموقف نجاحاً، عبر دفع «حماس» إلى ما اعتبرته «تأمين الحياة الطبيعية» في القطاع عبر ما سمّته سياسة «الجزرات الاقتصادية» في أيام الهدوء، مما يؤدي إلى المحافظة على الوضع القائم.
2- اغتيال العديد من القادة الكبار في المجلس العسكري، وهو مما اعتبر بنظر العديد من الخبراء العسكريين فجوة أمنية يجب ترميمها، وإن كان الشعب الفلسطيني ولاداً للمقاومين والقادة، إلا أنه يجب دائماً وبقدر الاستطاعة تفويت الفرصة على الاحتلال لتحقيق أي إنجاز إعلامي أو معنوي، أمني أو عسكري، عبر استهداف القادة الفلسطينيين.
3- عدم التحرك الكافي لبقية ساحات الوطن للاشتباك مع العدو، ومشاغلته، بالرغم من حدوث بعض المواجهات في بعض مناطق الضفة، والقدس، والسير بتظاهرات في رام الله، فضلاً عن غياب اللاجئين في الشتات. كذلك كان من الملاحظ غياب الشارع العربي والإسلامي عن التظاهرات، وهذا، بدوره، يطرح تساؤلاً عن غياب دور تثوير الجماهير، المنوط بالأحزاب القومية والعربية والإسلامية، والأطر المناهضة للتطبيع، فضلاً عن العلماء.
4- القدرة على الاستمرار في الصراع بمفهوم «وحدة الساحات» الذي تبنته حركة «الجهاد» في معركة «صيحة الفجر» عام 2019، ورسّخته في معادلة معركة «سيف القدس» عام 2021، وحافظت عليه في معركة «وحدة الساحات» عام 2022، واستمرت به في معركة «ثأر الأحرار»، والأكلاف السياسية، والبنيوية، لدى التنظيم، مما يطرح بدوره تساؤلات عن وجوب إجراء نقاش معمق مع بقية الفصائل، وعن مستقبل ودور المقاومة في الصراع من غزة، والتأثر والتأثير في ساحات الوطن.
في المحصلة، هي معركة مستمرة مع الاحتلال، ليس لها سوى مسار واحد ووحيد، هو المقاومة، مهما بلغت التحدّيات، وهي سنّة التاريخ في التخلّص من المستعمرين والمحتلين.

* إعلامي فلسطيني