يدور جدلٌ بين المثقفين الفلسطينيين حول الهدف الذي يجب تبنّيه كحلٍّ للقضية الفلسطينية. لكن قبل الحديث عن الأهداف المطروحة، لا بد من التنويه بأن هذه الظاهرة، بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على النكبة، ما هي إلّا تعبيرٌ عن أزمة حركة التحرّر الفلسطينية، التي تفاقمت بعد أوسلو، وهي اليوم في وضعٍ حرجٍ جدّاً. إلّا أنه من ناحية ثانية، يمكن اعتبار الاهتمام بالأهداف وبمراجعتها ظاهرةً صحيّة إذا تمَّ ذلك في الاتجاه الصحيح؛ فوضوح الهدف ودقّته والإجماع عليه تشكّل شروطاً للنجاح في تحقيقه. والأهداف الاستراتيجية تستجيبُ لطبيعة الصراع وجوهره، وتُبنى على أساس الحقوق المشروعة للشعوب، وبالذات الأصلية منها، وكذلك القِيَم والمبادئ، لتكون حلاً دائماً له.
التحرير والعودة
كانت بداية الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، مثلها مثل أيّ ظاهرة اجتماعية ناشئة، عبارة عن رد فعلٍ غير ناضجٍ، وغير مكتملٍ، على نتائج النكبة، فلم تحمل معها جميع المواصفات البرنامجية الضرورية. فمن جهة، وجد الفلسطينيون أنفسهم لاجئين في المنافي، بعدما طردهم الصهاينة من بيوتهم، وسلبوهم وطنهم وأسّسوا مكانه كياناً غربيّاً حظي باعتراف الأمم المتحدة، في الوقت الذي غاب فيه اسم فلسطين عن خريطة العالم. ومن جهة أخرى، طال الأمر ولم يجد الفلسطينيون أي مبادرة عربية جدية لإعادة الوضع إلى نصابه. فكان لا بد من أن يبادروا بالقيام بعمل ما، وكان من الطبيعي أن يضع روّاد الحركة الوطنية الفلسطينية نصب أعينهم تحرير أرضهم من الاحتلال لضمان العودة إليها. لم يفكّروا بطبيعة الدولة التي يريدون بناءها بعد التحرير، لأن الهم الأساسي كان موجّهاً نحو استعادة الحق المسلوب، ولأن حماسة الشباب كانت تدفعهم إلى القيام بعمل ما، بعدما تخلّفت النخبة السياسية القديمة عن ذلك. وإذا كان الكمالُ لا يُطلب من المجرّبين والخبراء، فالأحرى أن لا يُطلب من الشباب. كما أن حركات التحرّر لا تولد مكتملة، وهي تنضج مع الزمن، بما في ذلك الأهداف التي كلّما تطوّرت بناءً على فهمٍ دقيق لجوهر الصراع، ولكيفية حلّه، كان النجاح من نصيب هذه الحركات، حتميّاً.
جاء في المادة التاسعة من الميثاق الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير: «يؤكد الشعب العربي الفلسطيني تصميمه المطلق وعزمه الثابت على متابعة الكفاح المسلح، والسير قدماً نحو الثورة الشعبية المسلحة، لتحرير وطنه والعودة إليه، وعن حقه في الحياة الطبيعية فيه وممارسة حق تقرير مصيره فيه والسيادة عليه». وكان الشيء ذاته لدى المنظمات والمجموعات الفلسطينية، مثل «فتح» و«أبطال العودة» و«شباب الثأر»...، التي تشكّلت، قبل المنظمة وبعدها، إذ إن التحرير والعودة كانا أهم الأهداف المتداولة.

الدولة الفلسطينية الديموقراطية
استغرقت حركة «فتح» أكثر من عقدٍ من الزمن بعد تأسيسها لتتبنّى، عقب مؤتمرها الثاني الذي عقد في عام 1968، هدف الدولة الفلسطينية الديموقراطية، وهو يختلف عن هدف الدولة الواحدة المُتَداوَل اليوم، وينص على: «تحرير فلسطين تحريراً كاملاً وتصفية دولة الاحتلال الصهيوني اقتصاديّاً وسياسياً وعسكرياً وثقافيّاً... وإقامة دولة فلسطينية ديموقراطية مستقلة تحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة دون تمييز في الدين والعقيدة». نلاحظ هنا أن الدولة الديموقراطية تأتي تتويجاً للتحرير الكامل، وانسجاماً مع أولوية التحرير لدى جميع المنظمات في ذلك الوقت. وإذا كانت منظمة التحرير قد اعتبرت في المادة السادسة من ميثاقها أن «اليهود، الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني، فلسطينيين»، فإن «فتح» تركت الباب موارباً أمام من يرغب من اليهود ليكونوا مواطنين فلسطينيّين بعد التحرير وتصفية الكيان الصهيوني.
قامت العنصرية في جنوب أفريقيا كنظام حكمٍ لاستغلال السكان الأصليين وثروات بلادهم، أمّا المشروع الصهيوني فقد قام بالأساس على إنكار وجود السكان الأصليين


الدولتان
تبنّت منظمة التحرير البرنامج المرحلي في سنة 1974، لكن سرعان ما تحوّل هدف إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى هدفٍ نهائيٍّ لها، وبات بنظر الفصائل الفلسطينية «برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني». ولقد أدّى هذا البرنامج بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية المطاف إلى توقيع إعلان المبادئ في مفاوضات أوسلو وما تبعه من اتفاقات لحلّ ما سُمّيَ بـ«الصراع الفلسطيني الإسرائيلي» على أساس حكم ذاتي كان يُفترَض أن يؤدّي إلى حل الدولتين. وكان الإقرار الرسمي بهذا الحل، من قبل القيادة الفلسطينية، سابقاً لأسلو، وبالذات عندما أعلن الاستقلال في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في عام 1988 استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين. بعد توقيع إعلان أوسلو، قدّمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كل التنازلات التي في جعبتها، للكيان الصهيوني، للحصول على مُسمّى دولة، لكنها فشلت في ذلك. واليوم، وبعد مرور ثلاثين سنة على أوسلو، وجدت القيادة نفسها بلا أيّ دولة، وبلا أيّ سُلطات.

السلطة
لقد فشلَ مشروع الدولتين، وهذا ما يعرفه القاصي والداني، بمن فيهم القيادة الفلسطينية. وبدل إقرار القيادة وأركان السلطة وأتباعهم بذلك، وإعلان ذلك على الملأ، واتخاذ إجراءات من مثل إلغاء الاتفاقات، التنحّي، أو غير ذلك بما يتناسب مع هذا الواقع، نشهد لديها تحوّلاً نحو الاكتفاء بالمحافظة على سلطتها كهدفٍ محوريٍ لها.

الدولة الواحدة
برز، على إثر فشل حل الدولتين، طرحٌ يدعو إلى الدولة الواحدة، ويتّخذ من جنوب أفريقيا مثالاً لحل الصراع العربي الصهيوني في فلسطين. فهل منظور «الفصل العنصري» صالحٌ لتشخيص الصراع العربي الصهيوني في فلسطين تشخيصاً شاملاً وصحيحاً؟ وما هي صلاحيته للوصول إلى حلٍّ عادلٍ ودائمٍ؟ يحتاج الأمر إلى دراسة معمّقة لإعطاء الجواب الصحيح.
لذلك، سوف أطرح، في هذه المقالة، بعض الملاحظات الأولية التي لا تشجّع على اتخاذ نموذج جنوب أفريقيا مقياساً للحل، رغم فوائده الكثيرة.
- قامت العنصرية في جنوب أفريقيا كنظام حكمٍ لاستغلال السكان الأصليين وثروات بلادهم، أمّا المشروع الصهيوني فقد قام بالأساس على إنكار وجود السكان الأصليين، وعلى أن فلسطين ما هي إلّا أرض دولة اليهود، وعلى تهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين إلى المنافي. لذلك، نجد الصراع على مدى قرنٍ من الزمن، وبعد 75 سنة من نشوء الكيان ونكبة الشعب الفلسطيني، لم يَحِدْ عن كونه صراعاً وجودياً بين الطرفين على الرغم من كل الاتفاقيات والجهود السلمية. كما لم يؤدِّ تنازل ممثّلي الشعب الفلسطيني عن حقوقٍ وطنية أساسية إلى تخلّي إسرائيل عن مشروعها الإلغائي الاستيطاني الإجلائي المتنامي مع مرور الزمن.
- إنّ هوية الدولة ستكون من أهم العوائق أمام نجاح هذا المقترح. فلمّا كان اسم «جنوب أفريقيا» يدل على هوية السكان الأصليين، ولمّا كان عدد البيض أقل من 10% من عدد السكان ولا يشكلون خطراً على هذه الهوية في دولة ديموقراطية لكلّ مواطنيها، ولمّا كان مشروع البيض مبنيّاً على المصالح الاقتصادية بالأساس، ولمّا كان الحل يضمن لهم المحافظة على معظم مصالحهم هذه، فقد تم حل إشكالية الهوية في جنوب أفريقيا بقبول البيض بهوية السكان الأصليين هويةً للدولة، وقبول السكان الأصليّين بعدم تهديد أملاكهم ومشاريعهم الاقتصادية القائمة.
- يتجاهل مشروع الدولة الواحدة أن كلّاً من طرفَي الصراع يعتبر أن هذه الأرض حقٌّ مقدّسٌ وتاريخيٌّ له. هل سوف تُقام دولة جميع المواطنين الديموقراطية تحت اسم فلسطين أم إسرائيل؟ (أم «إسراطين» كما اقترح القذافي مرةً؟) وهل ستكون، من ناحية الهويّة، جزءاً من المحيط العربي أم خارجه؟ ما يعقّد هذا النوع من الحلول وجود توازن سكّاني عدديّاً، والمساحة الجغرافية الصغيرة جدّاً غير قابلة للتقسيم وإقامة شراكة مبنية على هويّتين، ومقترح الهوية الواحدة لا يجد ما يدعمه على أرض الواقع، والمراهنة على تفكيك المؤسسات الصهيونية بالإقناع وحسن النوايا يفتقر إلى أي سندٍ له في المستقبل المنظور.
من حقّنا أن نحلم. لكن الحلم لا يتحقّق إلّا إذا بُنِيَ على مؤشّرات واقعية. لذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن واقع اليوم معاكسٌ لذلك. فالتطورات في المجتمع الإسرائيلي تُظهر أنه يذهب إلى مزيد من التطرُّف بكل ما يخص الفلسطينيين، والأصوات الخارجة عن هذا السياق، على الرغم من أهميتها، قليلة جداً، وغير مؤثّرة على المنحى العام، ولا يمكن البناء عليها. نتمنى أن نستفيق غداً وقد تحرّر اليهود الإسرائيليّون من الصهيونية وتغلّب فيهم الإنسان المواطن المتساوي مع الآخر على الإنسان «المختار». لكن إلى أن تتهيّأ الظروف لهذه اللحظة، فإنّ الصراع سيستمر بكل أشكاله.

*كاتب وباحث فلسطيني