«وعلى مستوى ما، فإن [عبد الباسط] الساروت أفضل منهم جميعاً، وأكثر صدقاً؛ هو على الأقل عاد من تركيا وقاتل، وكم منهم قد أقفل راجعاً، بعد أن وصل إلى أوروبا أو قطر، ليكون في سورية؟ هذا قد يرجع إلى أصله الريفي والفقير، واختلاف منبته الطبقي عن أكثر «النخب الثورية» التي تنعاه» [عامر محسن]

سأبدأ المقال بالنقد الذاتي، وهنا أقصد النقد الذاتي بأنقى معانيه، يعني أن ينتقد الكاتب ذاته الحاضرة والماضية، لا أن ينتقد الآخر تحت مسمى نقد الذات كما كان يفعل كتاب ما بعد النكسة. أنا بصراحة آخر من عليه أن يتحدّث عن الجذريّة. قبل عقد من الزمان انتشرت صورة الشهيد خضر عدنان محرراً في ذاك الوقت مع ابنتيه، أعدت نشرها مع تعليق بالإنكليزية، كنت وقتها ساذجاً تافهاً وغير ناضج، ظاناً أن أيام ضرب الحجارة مع أبناء القرية انتهت، وأيام الناشطية السياسية مع الناشط الأجنبي بدأت.
الهدف من هذا المقال هو تبيان الأسئلة الصعبة المتعلقة بمفهوم الجذرية في العالم العربي. هنا توجد قواعد هامة: أولاً، معرفة الجذريّة لا تساوي ممارستها. لا أدّعي أنني أصحبت جذريّاً بالفعل وأنني أفضل من الآخرين بمجرد أنني تمكنت من التعرف إلى بعض ملامح الجذرية، أنا فقط أفضل بقليل مما كنت فيه من سطحية وتفاهة قبل عقد. ثانياً، الأسوأ من عدم ممارسة الجذريّة، هو تبني سرديّة تجعلنا نتظاهر بممارستها.
الفكرة هنا، أنّ جذريّة الطبقة الوسطى تعاقبك لأنك توقفت قليلاً لتفكر. هذه الجذرية تتهمك أنك تخليت عن جذريتك لأنك لم تدعم الثورة في لبنان والسودان وسوريا، لقد نزل الناس إلى الشارع لهذا أدعمهم على وسائل التواصل الاجتماعي وأصمت. تخيّل لو أنك قلت لإدوارد سعيد صاحب مقولة «لا تضامن من غير نقد»: ادعم واصمت. ما بعد عام 2011، صعدت الجذريّة التقاطعية بناء على مثالية برجوازية وتوجس، لدى الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، بأنه علينا أن نعلن تضامننا مع الجميع وألا نترك أحداً. على الكل التحرّر في الوقت ذاته والدرجة نفسها.
هذه الجذريّة تعاني من عدة إشكاليات:
أولاً، من منظور الواقعية السياسية، هي عالقة في عالم الأفكار وبعيدة عن عالم الواقع والقوة والميدان.
ثانياً، إذا كان مشروعك قائماً على التضامن مع الجميع، الفلسطيني والسوري والكردي والأشوري والنوبي في مصر والتبو في ليبيا والإسلامي والإخواني والملحد والكويري، أليس هذا الاتساع دليلاً على أنه ليس لديك معالم مشروع من أصله؟ وأن مشروعك هو عبارة عن منصة تمثيل «representation»، رمزية وشرفية؟
ثالثاً، هذه الجذريّة هي مدخل لتدفق سياحة الناشطية في الحيزين التراثي والشعبي. هنا يصبح من السهل الخلط ما بين الطبقات المدقعة «Underclass» من جهة، وما بين الحياة الليلية ما بعد الساعة التاسعة «Underground» من جهة أخرى، وهنا يصبح من السهل على منصة «درج» نشر مقال عن الفلافل والحمص، وعلى منصة «رصيف 22» نشر مقال عن جمال الحياة في الأحياء الشعبية وسط البلد. لا، إذا كانت الجذريّة «مريحة» تساعدك على النوم ليلاً، وتثبت لك أن أسلوب حياتك الشيق والمتمرد هو أسلوب الحياة الصحيح، فهي ليست بجذريّة من الأساس.
ما بعد عام 2011، صعدت الجذريّة التقاطعية بناء على مثالية برجوازية وتوجس، لدى الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، بأنه علينا أن نعلن تضامننا مع الجميع وألا نترك أحداً


رابعاً، هذه الجذريّة تنبت في سياق فوز فكر اليمين البرجوازي المديني المطل على سواحل المتوسط في الحرب الأهلية اللبنانية وتصديره لدى برجوازيات الإقليم. على هذا الأساس يصبح التظاهر بممارسة الجذريّة محض عودة إلى سردية أننا برجوازية متنورة مطلة على البحر المتوسط تحارب ظلاماً آتياً من الشرق. سأواجه هذه السرديّة التي تدّعي أن هنالك داعشياً صغيراً مختبئاً في داخلنا، بالقول إن هنالك بالأحرى فينيقياً-يمينياً صغيراً مختبئاً في داخلنا، حتى في داخل الفلسطيني الذي يبحث في أصوله الكنعانية لا لمواجهة سردية الاحتلال بل لممايزة نفسه عن الآخر العربي.
هنا يصبح حب فقراء طائفتك مدخلاً للشعبوية (وذم «الأونوروا» في لبنان والسوري في الأردن) وهنا يصبح حب فقراء الآخرين مدخل للنخبوية والسياحة الخيرية. لنأخذ على سبيل المثال، صحيفتي العزيزة، «عرب 48»، والتي أكتب فيها المقال والقصة بشكل شبه شهري. من وقت لآخر، ينشر الملحق الثقافي في الصحيفة مقالاً ينوه أنه علينا نحن الفلسطينيين التخلّص من «الأبوي» الذي بداخلنا كشرط أساسي للتحرّر من الاستعمار. أليست هذه دعوة استشراقية للتخلص من «الداعشي» الصغير الذي في داخلنا؟
أين ملامح الجذريّة إذا كانت التقاطعية سطحية؟ هي موجودة خارج الفقاعة الفكرية، في عالم الواقع المادي، في عالم علاقات القوة، وهي موجودة ما بين تفاصيل علاقتنا الاجتماعية المادية في الحياة اليومية. سأذكر هنا مثال صديقي وصديقتي المتزوجين. كلاهما يساريّان «جذريّان» يعارضان السلطة في الضفة من ناحية سياسية والفصائل في غزة من ناحية اجتماعية. يضعان صور غسان كنفاني وناجي العلي على خلفية الشاشة في هواتفهما ويحبان الاستماع في وقت الصباح إلى كوميديا علاء أبو دياب وينهمكان في وقت المساء في كتابة المنشورات السياسية اللاذعة الناقدة والمعارضة. وهما متحرران اجتماعياً، علمانيان مخضرمان يؤمنان أن السنة لهم أميركا والشيعة لهم روسيا، ولا يؤمنان بجنة المسلمين والمسيحيين وإنما يؤمنان بأن الجنة الوحيدة الحقيقية هي «حتمية العودة إلى حيفا ويافا»، كما وأنهما يتعاطفان مع الحركات الجندرية ويؤكدان لي أنهما سيحبان ابنهما مهما كانت «خياراته» في الحياة.
في إحدى جلساتي معهما قبل بضعة أعوام أخبرتهما أنني سألت صديقاً محاسباً عن تكاليف الزواج في رام الله، وأنه أجابني بأن المبلغ هو عشرون ألف دولار في أقل تقدير. ابتسم صديقي وضحكت صديقتي وقالا لي «يا دوب يكفوا غرفة السفرة».
قبلها بعقد ونصف كنت طفلاً في الانتفاضة الثانية. نسبة الفاصوليا البيضاء إلى نسبة الماء في كل طبخة أخذت تقل يوماً بعد يوم حتى توقفنا عن الطبخ واعتشنا على الزيت والزعتر. عندما وصلت إلينا أكياس شعيرية الإندومي ضمن المساعدات الدولية، تعاملنا معها وكأنها طبق منسف. هذا الجوع وهذه الاجتياحات والإغلاقات وقصف حوامات الأباتشي ودبابات الميركافا على طرقنا لم تكن من قصص الشتات أو من قصص حروب غزة المعاصرة أو من قصص التهجير في مناطق ج، بل هي قصة كل فلسطيني في أنحاء المناطق المحتلة مهما كانت أصوله وطبقته الاجتماعية.
هنا بالضبط يكمن سؤال الجذريّة. هي ليست موقفاً بشأن ثورة أو بشأن توجه سياسي أو بشأن هوية جنسانية أو بشأن عنف الشرطة في الولايات المتحدة، وهي ليست موقفاً يبنى بعد الحصول على منحة للعلوم الاجتماعية بالخارج، ولا هي قصة رئيس الوزراء الأوروبي على الدراجة الهوائية وقصة النظام والقانون التي يرويها المهاجر الذي أصبح مهندساً لدى «غوغل». الجذريّة، حتى لا نقول إنها محصورة في رباعية الشهادة والأسر واللجوء والجرح، هي، بمعناها الواسع، الاستعداد للمخاطرة للتخلي عن كل شيء مادي نملكه، للقطع الكامل مع كل ما عرفناه من نظام اقتصادي-اجتماعي منذ نصف قرن، هي ألا يبقى لدينا أي شيء إلا بعضنا البعض، هي القرار الواعي بالخروج من كابوس الطبقة الوسطى والرجوع حرفياً إلى الزيت والزعتر.
بناء على هذا الأساس، يا أعزائي من بنات وأبناء الطبقة الوسطى، ليس أنتم من يحدد من هو الجذري، هو ليس من تظنون، هو ليس صديقكم ذا المقولات الملهمة، الذي انتقل من القرية إلى المدينة وأصبح نسوياً وأنجز روايتين ونزل معكم إلى التظاهرات وساعدكم في أوقاتكم الصعبة لأن -كما يقول عامر محسن- مشكلاتكم ليست مالية بل عائلية وشخصية فتظنونها مع غضبكم وأوهامكم برنامجاً سياسياً.
الجذري في الحقيقة قد يحرّر بلداً ويبني فيها اشتراكية وقد يدافع عنها من غزو، وقد يظهر، بالمقابل، ليملأ الفراغ الذي تركه اليسار ويبدأ حرباً أهلية ويحمل مشروعاً رجعياً وإبادياً حتى. المهم أنه بعكسكم، له أثر في مسار التاريخ. الجذري قد يكون نقيضكم وأسوأ كوابيسكم، مثل ذاك الشاب الملتحي الذي حمل الكلاشينكوف قبل عدة أعوام وأنهى، ولو بشكل مؤقت، خريطة سايكس-بيكو، أو مثل ذاك الشاب الذي أخرج الأميركان من أفغانستان.

* كاتب وباحث فلسطيني