قبل سنوات، عرفتُ، في مجتمع العمل، شخصاً عنصرياً ضد غير المصريين المقيمين في البلد. لأنه كِيميتيّ غيور (كان أول ظهور الموضة وقتها)، يخاف على الوطن من اللاجئين وموجات النزوح. وتطبيق ذلك عنده كان تحديداً على السوريين والسودانيين. فشلَت كل محاولاتي لمعرفة لماذا، وكيف، يزعجه هؤلاء بالذات أكثر من غيرهم، أو نوع الضرائب التي يسدّدها فتذهب لمصلحتهم مثلاً، وخاصة أن مصر لا تعطيهم سوى الإقامة؛ أي أن أحدهم، كأغلب المصريين، إمّا أن يعمل، أو ينفق عليه من يعمل أو يتاجر من الأهل أو الأصدقاء، فضلاً عن امتصاص السوق المصرية لما يتلقّونه من إعانات مالية خارجية، والدور الإيجابي بشكل لم يتوقّعه أحد لرؤوس الأموال السورية التي عرفتها السوق المصرية قبل الحرب بالأساس.
اللافت أنه، لسبب عملي تماماً، سكن بولاق الدكرور (حزام عشوائي يحيط بأحياء راقية في جحيم الجيزة نطاق القاهرة الكبرى)، حيث يتكوّم البشر والتوك توك والسيارات ومقالب القمامة ومستنقعات المجاري في شوارع رثّة عرضها متر واحد، مع بنايات خانقة لا تعرف الآدمية، وكباري منخفضة طائرة تلاصق خط المترو وتخترق كل هؤلاء، وما أزعجه كان فقط السكان من السوريين، ومن السودانيين وهم الأكثر عدداً. وقد ماتت، منذ عقود، البنية التحتية العامة والخدمية للمنطقة، غير المخططة بالأساس، وكفّت قدرتها عن مواكبة تعداد السكان المصريين الكثيف، منذ عقد على الأقل، أي قبل تصاعد حضور المقيمين.
استرجعت وقتها فترة إقامتي بمنطقة لها طابع مشابه (فيصل)، لكن أقل سوءاً وعشوائية، عالي الكثافة السكانية أيضاً، حيث يبدو السودانيون وحدهم خُمس السكان تقريباً. وقد ترى أحد ركّاب ميكروباص فولكسفاغن القديم، بحجم علبة السردين، يخلقُ من العدم لأحدهم مكاناً جواره للجلوس صائحاً: «خُش آزوول». وآخر يساعد الزول الآخر في رفع أطفاله وأغراضه إلى حافلة نقل عام بشكل اعتيادي تماماً، بينما يشارك زول شاب أصدقاءه، مصريين وسودانيين، التدخينَ في أحد الأزقّة في صفاءٍ لا تقطعه سوى ضحكاتهم، وبعضها هستيري، فضلاً عن الصلوات في المساجد التي يتجاور فيها أفراد الشرائح العمرية الأكبر.
تجمع هؤلاء الناس عوامل مشتركة أكثر من أن تُحصى، أكثرها بداهةً: المصير، بالمعنى السياسي التاريخي، وأقواها: الجغرافيا والتاريخ والثقافة - ما يحفظ أصالة تلك المَشاهد في مقابل ما تعبّر عنه أفكار أخرى من اغتراب، لا عن الأهل والأشقاء الشبيهين بنا وحسب، بل عن هويتنا ذاتها.
شكّلت الدائرة الحضارية لمصر هويتها وهوية أبنائها بقدر ما فعلت مفردات واقعها التاريخي وخصائصه


وقد شكّلت الدائرة الحضارية لمصر هويتها وهوية أبنائها بقدر ما فعلت مفردات واقعها التاريخي وخصائصه. وما جعل مصر (بصفتها كياناً حضارياً) القطبَ الذي نعرف، لم يكن فقط ما حفظنا عن الموقع وتنوّع جغرافيتها (دلتا نهرية بأرض خضراء وأكثر من صحراء واحدة وسواحل طويلة) وأشياء أخرى، بل كذلك المزيج البشري، الذي مثّلت تلك المفردات حاضنته المثالية، ومثّل هو إحداها، وشكّل هذا كلُّه المصريين الحاليين والقدامى، من دون التعارض مع «الخصوصية» التي يحبّها الكيميتيون، والاستعلائيون طبقياً، حبّاً جارفاً.
تأمّل موقف هؤلاء من مدير داكن البشرة في شركة عابرة للقارّات، غالباً يرونه قصة نجاح تعكس الإصرار وتستحق التقدير، حتى لأفريقيا ومجهودات بعض دولها واقتصاداتها، وموقفهم من اللاجئ من جنوب السودان الذي ينظّف حمامات مقرّ الشركة نفسها، ولا يهاجمونه مباشرة، كي لا تنبذهم قواعد النظام العالمي، مكتفين بإعلانه طفيلياً رغم عمله بدنياً بدوام كامل.
المسألة أنّ «المركزية المصرية» - وهي كما تُطرح ليست أكثر من استعلاء أجوف - تغذّت منذ عقود على أفكار دعمتها الإدارة السياسية، استعلاء على باقي العرب، ولاحقاً السودانيين والأفارقة، وجاءت، منذ ارتفاع صوتها، منقطعة الصلة بالواقع السياسي - الدولي في المراحل السابقة، والداخلي المباشر حالياً. وعكْس انطباع البعض، لا حضور واقعياً لها، رغم وجود عنصرية بوجه شعبوي يتعرّض لها أفارقة في الشارع ولا يسمح عددُها بوضعها في الاعتبار عند الحديث عن المصريين كلّيةً، وتأتي عادةً من شرائح لم تقدّم لها الدولةُ أكثر مما قدّمت نظيرتها السودانية لمهمّشي السودان وأهل أطرافه.
قدّمت مصر لآلاف الليبيين الخدمة الطبّية بأسعار السوق، ولم يكره وجودَهم أحد، ومثلهم يعيش بكثافة نسبيّة شرقي الإسكندرية، أو يرتادون المدينة تاريخياً، وبتصاعد مع الانفتاح الاقتصادي، وقد صاهروا المصريين، مثلما صاهر أبناء عمومتهم (حرفياً) مصريو الجنسية السكان الأصليين لأقصى غرب المدينة، أهل الصعيد هناك، على بعد المسافة من الصعيد كما بين بيروت ودير الزور تقريباً. ويتجاور المصريون النوبيون والسودانيون في عابدين بوسط القاهرة مثل تجاورهم جنوباً، حيث لا معنى حقيقي لـ«المعبر» لأن الناس نفسها على الجانبين؛ شعب وادي النيل الذي جمع مهاجري أقصى جنوب غرب آسيا إلى مصر بالأفارقة، منذ قرون، ولم يستوقف هجراتهم التي بلغت تونس. كذلك، مثلاً، لم يكن الحضور اليمني غريباً في الدُقّي قلب مدينة الجيزة (وحولها مدن ومراكز المحافظة) وإحدى أهم مناطق القاهرة الكبرى، وسكنها سابقاً عراقيون وفلسطينيون، وتُعرف الآن بكثرة المطاعم والمحال اليمنية التي يمثّل المصريون والسائحون أكثر زبائنها بطبيعة الحال.
تفخر تلك «المركزية» ونزعتها، الخفيّة في جانب من الخطاب الرسمي المصري، والمعلنة عند دوائر من المصريين، بالدولة القومية المركزية الأطول عمراً، والجيش الموحّد الأقوى، والنسيج الاجتماعي الأكثر تماسكاً... مقولات كلها صحيح وتفضي إلى عكس مآلات أفكارهم بالضبط: لم يكن لهذا القطب إلا أن يمتد كيانه وأوصال شعبه شرقاً وغرباً وجنوباً، ويثرى من «الأعراق» المحيطة وتتنوّع هويته وثقافته وشعبه أنثروبولوجياً، وكأنه، بدرجة ما، حالة اندماج إقليمي بحد ذاته.
هذا كله نقيض ما يطرحه الانعزاليون والمتعالون، والأفضل أن يعترفوا بإيمانهم بنظرية نقاء عرقي؛ الذين يطرحون مصر بصفتها مجموعة عوامل ذاتية محضة، ويتصوّرونها عصباً فرعونياً رفيعاً تحيط به زوائد عالقة أو عوامل حضارية دخيلة شاذّة، وكأن مصر فقاعة، وليست تجربة حضارية واجتماعية جمعت بالفعل الهويات القبطية والعربية والأفريقية، بحكم الجغرافيا والديموغرافيا وحركة التاريخ، ولم تنتج في النهاية مسخاً حضارياً مثل إسرائيل (التي يدعو أغلبهم إلى التطبيع معها ويقدّسون تقدّمها الذي صنعه ويستخدمه الغرب الجمعي الذي يدينون تآمره على مصر بدعمه أصوات «المركزية الأفريقية»!). ولا يدرك هؤلاء أن معركة الألوان هذه ليست حفظاً للوطنية المصرية وهوية البلد مقابل بؤس أفكار المركزية الأفريقية، قدر ما تعكس بؤس شوقهم أن يكونوا إنساناً أبيض متحضّراً بكتلة قومية واحدة ذات رسالة (إمبراطورية) خالدة!

* كاتب مصري