بديهيٌّ أن التحول في بنية الاقتصاد العالمي يؤثر بشكل مباشر على الأفراد، فأثر التوجه المتسارع نحو الجيل الرابع من الصناعة يبدو اليوم أكثر وضوحاً. اليوم، لم يعد هناك، في مطعمٍ تودّ أن تأكل منه، أيُ قوائم للأطباق والأسعار، بل يمكنك النقر على إحدى الشاشات الكبيرة في صالة المطعم... انقر... اختر طعامك وانتظره يأتيك. أمّا غداً، فلن يُصنِّع شُبّان صينيون هاجروا من الريف إلى الحضر هاتفك المحمول لقاء أجورٍ زهيدة، بل سيصنعه روبوت آليٌّ ما في إحدى مصانع ميونيخ بألمانيا. يتلخص تاريخ الرأسمالية في السعي نحو خفض تكلفة الإنتاج مع الحفاظ على ربحية تجعل النظام قابلاً للحياة. هذه النزعة متأصِّلة في مجتمعاتنا الرأسمالية، المركزية والطرفية على حدٍ سواء. علينا النظر بعينٍ ناقدة للأمر. فكما يمثل كل تطورٍ لقوى الإنتاج إمكانيات لمأسسة علاقاتٍ أنضج، فإنه يمثل في الوقت نفسه سيفاً على رقبة تلك القوى. هذا تناقضٌ لا فكاك منه في الرأسمالية. والمهم هنا أن عمليات الأتمتة والرقمَنَة أصبحت تأخذ، في عصر (واقتصاد) تكنولوجيا المعلومات، شكل النزعة المتسارعة والميل الطبيعي. وهذا الميل نحو خفض تكلفة الإنتاج والحفاظ على ربحية تجعل الرأسمالية قابلة للحياة لا يفرض قيوداً جديدة على كل الاقتصادات وحسب (وخاصة في ما يتعلق بقانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض. أي تضاعف نسبة رأس المال الثابت في التكوين العضوي لرأس المال مع زيادة أقل في نسبة رأس المال المتغيّر: الأمر الذي يحفِّز من الابتكار التكنولوجي وإلقاء العمال في الشوارع أو تخفيض مهاراتهم، الأمر الذي ينعكس بدوره في أزماتٍ – اقتصادية واجتماعية – دورية للرأسمالية)، بل يفرض أيضاً، باستمرار وبشكل متسارع، أنواعاً جديدة من الاغتراب على جميع الأفراد.

سؤال الطبقة
يمكن فهم العلاقات الطبقية في المجتمع الرأسمالي من خلال الانقسام المركزي بين الطبقة البورجوازية (أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج)، والطبقة العاملة أو البروليتاريا (الذين لا يملكون أي شيء سوى قوة العمل، وينتجون «فائض القيمة» من خلال بيعها مقابل أجر). ويعتمد النظام الرأسمالي على استغلال البورجوازيين لقوة العمل المأجورة وامتصاص فائض القيمة. وينقسم «وقت العمل الاجتماعي» إلى قسمين؛ الأول وقت العمل «الضروري» الذي يؤديه العامل كي يولّد الأجر الذي يتلقاه، والثاني وقت العمل «الفائض» الذي يؤديه العامل ليولّد فائض القيمة الذي يصب في جيب البورجوازي ويساهم في تراكم رأسماله. هذا ويسيطر رأس المال على الاستثمارات، وعملية التراكم، ووسائل الإنتاج المادية، وقوة عمل الآخرين. وعادة ما يكون لدى العمّال سيطرة ضئيلة أو معدومة على أي من هذه العوامل. ويتمتع المُديرون والتكنوقراطيون والمشرفون، في الوقت نفسه، بدرجات مختلفة من السيطرة على مختلف جوانب هذه العمليات بما في ذلك أشكال الملكية القانونية والسيطرة على قرارات الاستثمار.
هناك أيضاً شرائح طبقية عديدة، وقد تطورت الطبقات الاجتماعية وتفرّعت منها شرائح متنوعة نتيجة التطورات في التكنولوجيا وما صاحبها من التطورات في نظم الإنتاج والإدارة، ومع ذلك تظل العلاقة بين رأس المال والعمل هي العلاقة الطبقية الأساسية في النظام الرأسمالي.
كانت الفجوة التاريخية بين العمل ورأس المال، من وجهة نظر ماركسية، غير واضحة بسبب زيادة مكانة وقوة العمّال المهنيين والإداريين والخبراء وغيرهم، ومع ذلك ظل أصحاب الياقات البيضاء (أو المشتغلين بالعمل الذهني)، بالنسبة إلى بعض النقاد الماركسيين، جزءاً من الطبقة العاملة لأنهم ما زالوا يبيعون عملهم مقابل أجر ويفتقرون في الوقت نفسه إلى السيطرة الحقيقية على عملية العمل. أمّا بالنسبة إلى آخرين، مثل نيكوس بولانتزاس، فقد شكلت هذه الشرائح الطبقية جزءاً من البورجوازية الصغيرة الجديدة التي تختلف عن نظيرتها القديمة (المكونة من أصحاب المشاريع الصغيرة) في أن أعضاءها يكسبون الراتب بدلاً من أن يعملوا لحسابهم الخاص، ومع ذلك فالطبقتان لهما مواقف سياسية وإيديولوجية مماثلة. تميل طبقة «العمل الذهني» هذه إلى تبنّي أيديولوجيات الفردانية والتطلُّع إلى المكانة البورجوازية، لقد تولى أعضاؤها مهام الإشراف والمراقبة في ما يتعلق بالطبقة العاملة، وكان اهتمام هذه الطبقة يتمحور حول تداول السلع لا إنتاجها.
في حين أن الأوضاع الطبقية داخل مجتمعات «ما بعد الصناعة» قد تبدو معقدة للغاية، فإن الاستيلاء على القيمة وتشكيل المصالح الطبقية المعادية يمكن أن يبدو أكثر وضوحاً عند النظر إليه عبر الحدود الوطنية. إحدى المناقشات الحاسمة في هذا الموضوع هي الأطروحة القائلة بتشكُّل «طبقة رأسمالية عابرة للحدود الوطنية» (Ttransnational Capitalist Class). يرى ليزلي سكلير أنه يجب فَهم العولمة على أنها تأثير ممارسات عابرة للحدود الوطنية محددة تماماً بما يشمل الممارسات المادية للوكلاء في إعدادات مؤسسية محددة والعمل من خلال شبكات اجتماعية محددة. ويرى سكلير أن الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية تمتاز بأن الملكية وحدها ليست أساس الاندماج فيها وأنها ببساطة ليست طبقة من المالكين الرأسماليين. يشير سكلير إلى أنه يمكن تحليل الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية من حيث المواقف الاقتصادية البنيوية وأنماط التحديد الاجتماعي. يتجاوز تشكيل هذه الهُويَّة الطبقية الانتماءات أو الأقاليم الوطنية، والواقع أن أعضاء الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية غالباً ما يستغلون الترتيبات الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية ضد مصالح رأس المال الوطني، ولا تُحدَّد المصائر الطبقية لهؤلاء الأعضاء الفاعلين من خلال العمليات الاقتصادية المحلية. يقسِّم سكلير الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية إلى أربعة أقسام:
1- يتكون قسم الشركات من أولئك الذين يمتلكون ويشتركون في الشركات العابرة للحدود الوطنية والشركات التابعة لها مثل البنوك والمؤسسات المالية الكبرى. هذه هي الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية في مظهرها الاقتصادي.
2- يتكون قسم الدولة من بيروقراطيين وسياسيين معولَمين يعملون من خلال المؤسسات الدولية وشبكات الدولة العابرة للحدود الوطنية.
3- يتكون القسم التقني من مهنيين معولَمين، بمن فيهم المحامون النخبويون والأكاديميون والاقتصاديون ومراكز البحوث. ويوفر هؤلاء الخبراء والمهنيون والمثقفون غطاءً إيديولوجياً للمصالح الاقتصادية الدولية، فضلاً عن الحلول التقنية لعمليات التنظيم والتبادل عبر الحدود الوطنية.
4- يتكون القسم الاستهلاكي أو التجاري من التجار والموزعين العالميين، وكذلك الوكلاء المشاركين في وسائل الإعلام والإعلان الدولية.
وفقاً لسكلير، فإن الشركات العابرة للحدود الوطنية تسيطر تماماً على الدوائر الرأسمالية العالمية، فهناك طبقة سياسية عابرة للحدود الوطنية معنية بتوزيع السلطة السياسية، ويشارك القسم الاستهلاكي من تلك الطبقة في تداول المعاني الثقافية الموجهة في المقام الأول نحو إعادة إنتاج إيديولوجية الاستهلاك. يطرح سكلير أولاً أن هذه الأقسام الفاعلة تشترك في مجموعة من المصالح الاقتصادية الموجّهة نحو إعادة إنتاج وتوسيع العمليات العابرة للحدود الوطنية. وثانياً، إنها تُقسِّم في ما بينها وظائف الرقابة الأساسية في النظام العالمي وذلك في ما يتعلق بالتنظيم الاقتصادي، والسياسات المحلية والدولية، والإيديولوجيا الثقافية للنزعة الاستهلاكية العالمية. وثالثاً، يميل أعضاء الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية إلى افتراض وجهات نظر عالمية بدلاً من وجهات نظر محلية في مجالات نشاطهم. وبالتالي، رابعاً، تتبنى هذه الطبقة الفاعلة موقفاً عالمياً أكثر عمومية حيث ترى نفسها أممية بنفس القدر الذي يرون به أنفسهم كرعايا وطنيين. وأخيراً، تشترك هذه الشرائح الفاعلة في أنماط حياة مماثلة استناداً إلى درجات عالية من الترقّي وأنماط الاستهلاك النخبويَّة.
يمكننا اليوم أن نلاحظ التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في شكل جديد كعداءٍ بين القوى المنتجة الرقمية الشبكية والعلاقات الطبقية


بالنظر إلى الطريقة التي أعادت بها التدفقات الإلكترونية هيكلة التبادلات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية، فإن مانويل كاستيلز يرى في تحليله لـ«المجتمع الشبكي» (Network Society) أن قوة الشبكة تتشكل حول نُخَبٍ متنوعة عابرة للحدود الوطنية بدلاً من طبقات متمايزة، ومع ذلك فهو يرى أن الأنماط القديمة للملكية والسيطرة البورجوازية ما زالت تؤدي دوراً مهماً. يرى كاستيلز أن العمل ورأس المال لا يُشَكِّلان معاً علاقة اجتماعية بنيوية يمكن من خلالها القول إنّ طبقة واحدة تنتج قيمةً، فيما تستحوذ الأخرى عليها، وهكذا فهو يرى أن طبقة المنتجين نفسها منقسمة ومشتتة وتراتبيَّة بشكلٍ كبير. يتساءل كاستيلز ويُجيب: «من هم الرأسماليون؟ إنهم بالطبع ليسوا المُلَّاك القانونيين لوسائل الإنتاج الذين يتراوحون بين صناديق المعاشات التقاعدية الخاصة بك وبي، وأحد المارة على جهاز صرّافٍ آليّ في سنغافورة والذي يقرر فجأة شراء أسهم في سوق بوينس آيرس الناشئة». ويتساءل ويجيب مرةً أخرى: «من الذي يساهم في خلق القيمة في صناعة الإلكترونيات؟ مصمم رقائق وادي السيليكون أم الشابة العاملة على خط التجميع في مصنعٍ بجنوب شرق آسيا؟ بالتأكيد كلاهما وإن كان ذلك بنسبٍ مختلفةٍ إلى حدٍ كبير. وبالتالي، هل يشكلان معاً طبقة عاملة جديدة؟». يمكن لمجموعة متنوعة من المصرفيين التقليديين، والمضاربين الأثرياء الجدد، والعباقرة الذين تحولوا إلى رجال أعمال، والأباطرة العالميين، والمديرين متعددي الجنسيات، وآخرين من مثلهم، أن يعتبروا اللاعبين الرأسماليين، لكن كاستيلز يطرح هنا أنه ليس من المنطقي التحدّث عن هؤلاء كطبقة رأسمالية عالمية متماسكة، فتنظيم السلطة الاقتصادية والسياسية لا يتم وفقاً لتصرفات الطبقة المهيمنة، بل من خلال شبكة متكاملة من رأس المال العالمي. تربط هذه الشبكة بين المصالح الرأسمالية المتنوعة، ولكنها توزِّعها أيضاً عبر العمليات الاقتصادية والفضاء الجغرافي. وبالتالي فإن مختلف الفاعلين الرأسماليين لا يشكلون معاً طبقة اقتصادية أو اجتماعية متماسكة، فهم لا يشتركون في مواقع اقتصادية بنيوية، ولا يعملون بشكلٍ متناغمٍ لتحقيق المصالح الطبقية المشتركة. يشير كاستيلز إلى «المنطق المركزي لرأس المال» في اقتصاد الشبكة العالمية: إعادة إنتاج نفسه في شكلٍ مجرَّد، ففي حين أنه قد يكون نتاج عملٍ بشري، فهو يستطيع إخفاء نفسه بأن يفلت أخيراً من السيطرة البشرية. هذا، على حد تعبير كاستيلز، هو «أمّ كل عمليات التراكم: توليد القيمة من القيم، وكَسبُ المال من المال». يوضح لنا كاستيلز أولاً أن طبقة العمال لم تختف نتيجة التطورات التكنولوجية السريعة وما يصاحبها من عمليات أتمتة ورقمَنَة ضخمة تقتحم ساحة العمل والأسواق، وأن التحوّل إلى اقتصاد المعلومات لم يسفر عن بطالة جماعية، بل عن تزايد مستمر لعدد الوظائف والعمال في الاقتصاد المعاصر. ويوضح لنا ثانياً أن الانقلاب الذي أحدثه منطق الشبكات هو أن «رأس المال الإلكتروني» مجهول الهويَّة يُنسَّق ويُدمَج عبر «الفضاء»، في حين أن العمل البشري الحقيقي مجزَّأ ويزداد اتسامه بالفردانيَّة بشكل كبير. ويوضِّح لنا ثالثاً أن تفتيت الملكية يُصعِّب علينا تعريف طبقةٍ رأسماليةٍ عالميةٍ كشريحة طبقيَّة مميَّزة من المالكين، كما لا يمكن تعريف تلك الطبقة من خلال هياكل الرقابة الإدارية، فمديرو الشركات يسيطرون على موارد تنظيمية معينة ويوجهون عمليات اقتصادية محددة، ومع ذلك فليس لديهم سيطرة كبيرة على التدفقات السريعة لرأس المال المالي أو تبادل المعلومات من خلال الشبكات الإلكترونية.
في الواقع، ليس للأفراد أي سلطة على ديناميكيات الرأسمالية، فاختيارات الأفراد ليست مهمة، وحتى تلك القابعة في عقول الرأسماليين وملاك الأراضي... إلخ، ليست مهمة أيضاً، لأنه بمجرد أن تتأصّل قوانين حركة رأس المال فسوف تهيمن على الأفراد. في الحقيقة، عند نقطة معينة في كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، سوف تأسف حقاً لحال الرأسماليين كونهم لا يملكون هم أيضاً حرية الاختيار. ولتجنب سوء الفهم، يقول ماركس: «أنا لا أُقدِّم أبداً الرأسماليين وملاك الأراضي بصورة ورديّة، ما زلت أتعامل مع الأفراد، في هذا الإطار وحتى هذه النقطة، بصفتهم تمثُّلات لفئات اقتصادية، أي حاملين لعلاقات مصالح طبقية محددة. لكن موقفي (الذي يشمل أيضاً أن تطوّر وتغير الشكل الاقتصادي للمجتمع مسألة تاريخية طبيعية) لا يجعل من الفرد مسؤولاً عن العلاقات التي شكّلته ككائن اجتماعي، ويقرّ أنه – بالقدر ذاته – قد يستطيع نسبياً وشخصياً أن يعلو بنفسه فوق هذه العلاقات».

سؤال المعرفة
يقدّم ماركس في «الغروندريسة» مفهوم «المعرفة العامة» (General Intellect) الذي توقّع من خلاله ظهور «اقتصاد المعلومات» كنتيجة لتطور القوى المنتجة. يشير تطور رأس المال الثابت (الذي يشمل كل مصروفات عملية العمل إلا حصة أجور الأيدي العاملة التي تشكّل بدورها ووحدها رأس المال المتغير)، وفقاً لماركس، إلى الدرجة التي أصبحت عندها «المعرفة الاجتماعية العامة» قوىً مُنتِجَة مباشرة، وإلى أيّ درجة، إذاً، أصبحت ظروف عملية الحياة الاجتماعية نفسها تحت سيطرة المعرفة العامة وتم تحويلها وفقاً لها. ويتزامن توظيف الفاعلين الطبيعيين – دمجهم إذا جاز التعبير في رأس المال – مع تطور المعرفة العلمية كعامل مستقل في عملية الإنتاج، بالطريقة نفسها التي تصبح بها عملية الإنتاج تطبيقاً للمعرفة العلمية، ويصبح بها العلم عملاً –وظيفةً إذا جاز التعبير – لعملية الإنتاج.
لا يسيطر رأس المال على عمليات العمل الحيّ بشكلٍ عامٍ وحسب، بل يسيطر أيضاً على العمل الفعلي والمختزن كما يجده متاحاً في التكنولوجيا الحالية، وفي الشكل الذي تطورت إليه تلك التكنولوجيا في سياق أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية، وبالتحديد في دَمج أو تضمين أو استيعاب عمليات العمل هذه في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي. وبكلمات أخرى، أتاحت سيطرة رأس المال على العلوم والتكنولوجيا أن يسيطر رأس المال بشكلٍ مطلق على كل عمليات العمل. علينا أن نفكر نقدياً وجدلياً في الأمر، فالأهمية المتزايدة للمعرفة وجميع أشكال العمل هي نتيجة للتطور الرأسمالي للقوى المنتجة.
يمكننا اليوم أن نلاحظ التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في شكل جديد كعداءٍ بين القوى المنتجة الرقمية الشبكية والعلاقات الطبقية. ومثال على ذلك أن الرقمَنَة يمكن أن تحوِّل المعرفة إلى هدية يتم توزيعها عبر الإنترنت. لكن في المجتمع الرأسمالي، يعتمد الناس على الأجور من أجل البقاء على قيد الحياة، ولا يؤدي اقتصاد الهدايا عبر الإنترنت – في ظل العلاقات الطبقية الرأسمالية – إلى شيوعية ديموقراطية، بل يطرح مجرد إمكانات بديلة: إنه يفرض عدم استقرار العمل الرقمي والثقافي في الرأسمالية.
هناك بالطبع إمكانات لتحويل المعرفة إلى مشاعات رقمية، ولكن من المهم أيضاً في الرأسمالية أن يتمكن المنتجون الثقافيون من البقاء على قيد الحياة على أساس الأجر، ما يطرح أفكاراً جديدة، منها على سبيل المثال: الحاجة إلى إقرار دخل أساسي شامل أو رسوم إعلامية تشاركية (يتم تمويلها من ضرائب الشركات) تسمح للمواطنين، من خلال الميزانية التشاركية، بالتبرع لشركات الإعلام غير التجارية. وبطبيعة الحال لا تُنتَج المشاعات المعرفية من قبل أفراد فرديين، بل لها طابع اجتماعي وتاريخي وتعاوني، حيث تُنتَج بواسطة العمل العالمي. العمل العالمي هو بكلمات ماركس: «كل العمل العلمي، كل الاكتشافات والاختراعات. إنه ناتج من تعاون البشر الذين يعيشون الآن، وبالمثل أيضاً ناتجٌ من البناء على العمل السابق... فالمعلومات لها طابعٌ تاريخيّ... وقد أصبحت المعلومات قوىً منتِجةً مهمة تُفضِّل أشكالاً جديدة من تراكم رأس المال».
في هذا السياق، علينا أن نفكّر جدلياً في المعرفة وماهيتها. يمكننا إذاً القول إن المعرفة العامة هي كل المعارف التي حصّلتها البشرية في مضمار تطورها، وهذه المعرفة مُضمّنة بطبيعة الحال في التكنولوجيا كما في طريقة العيش الحديثة للبشر. علينا أن نتساءل: إلى أيّ مدى تشارك المعرفة العامة التي خلقناها نحن البشر في تكبيلنا بقيود الاستغلال والاستقطاب على الصعيد المحلي والوطني والعالمي؟ وإن كان تطور القوى المنتجة يطرح في الوقت نفسه آفاقاً للتحرر والانعتاق فعلينا أن نتساءل: كيف يمكننا أن نستخدم التكنولوجيا والمعرفة العامة في سبيل إقامة مجتمعٍ شيوعيّ؟

إنّ تعرّض الأجيال الحالية للكمّ الضخم ممّا هو جديد ولم تتعرّض له الأجيال السابقة، يفرض بدوره أيضاً أنواعاً جديدة من الاغتراب


سؤال الاغتراب
يُعبِّر تقسيم العمل عند ماركس عن العلاقات الطبقية التي تحتاج إلى أن تُخضَع سياسياً من خلال الصراع الطبقي. وقد أدى الاستخدام الرأسمالي للآلات إلى تحوّل جذري في عملية الإنتاج مع ظهور الصناعة الكبرى، ونتيجةً للاستخدام المكثَّف للآلات وتعقُّد تقسيم العمل، فَقَدَ عمل البروليتاريا كل طابع فرديّ، وأصبح العامل ملحقاً بالآلة. لاحظ، مثلاً، أن الآلة تفرض على العامل ظروفاً جديدة، وصعوباتٍ جديدة، فالعامل كان يعرف الكثير عن عمله، كان خبيراً في مجاله ويملك من المعرفة ما يحتاج إلى الكثير من الوقت لتحصيله، ومع دخول الآلات صار هذا العامل في حاجة أقل إلى تلك المعرفة. ومع تسارع الأتمتة والرقمَنَة، صار هذا العامل ليس في حاجة إلى ما هو أكثر من معرفة بسيطة بعدّة مفاتيح في الآلة أو في حاسوبها، ليتحول العامل إلى «آلة» تتحكم فيها «الآلة الذكية» التي صنعتها أيادٍ بشرية، فيما تفرض الآلة على العامل «لغة تواصل» تُضاعِف من اغترابه وتشيُّؤ علاقتهما التي تؤدي بدورها إلى الخفض المستمر لسعر العمل الإنساني.
ومن جهة أخرى، تخيَّل نفسك، مثلاً، تجري محادثة مع أحد الروبوتات الفائقة الذكاء، هل ستستطيع مجاراة كمّ العمليات المعقّدة والحساب الذي يجريه هذا الروبوت في أقل من الثانية؟ وهل تستطيع أن تجري معه محادثة ذات معنىً؟ ألا يفرض ذلك أيضاً أنواعاً جديدة من الاغتراب؟
وعلاوة على ذلك، فإن تعرض الأجيال الحالية للكمّ الضخم مما هو جديد ولم تتعرّض له الأجيال السابقة، يفرض بدوره أيضاً أنواعاً جديدة من الاغتراب. مواقع التواصل الاجتماعي، كمثالٍ، ليست فضاءً للتواصل بقدر ما هي إيديولوجيا، النقيض تماماً، فضاءٌ للاستغلال والاغتراب والتشيُّؤ: فقد استطاع وقت العمل، بفضل الشبكة والإنترنت، أن يقتحم حيِّز وقت الفراغ، فعند استخدامك لـ«فايسبوك» أو «يوتيوب»، مثلاً، تقضي وقت فراغك في عملٍ رقمي لا تنال من عوائده أيّ حصّة، بل تنال الإدمان، ونشاطك الاجتماعي على تلك المواقع هو نافذتك للعالم وورشة العمل الكونية التي استطاعت أن تجعل العمل مُسلّياً، ومُتخفّياً، وأقل تكلفةً، وأكثر ربحيَّة، وفي أغلب الأحيان بدون أي مقابل.

سؤال العلاقات الشخصية والحميمية والذات
يؤكد علم النفس أن الناس يعانون ضرراً طويل المدى إذا كانت طفولتهم تفتقر إلى واحدة أو أكثر من علاقات الحب التي توفر الاتصال الجسدي والرعاية المصحوبة بالاهتمام. ولا تزال العلاقات المباشرة والمستمرة والمشحونة عاطفياً مع العائلة والأصدقاء الذين يعيشون معاً – الذين يشكلون الفئة الأبرز من الأشخاص المهمين في حياة المرء ويسهمون في بلورة الإحساس بالذات – الحيِّزَ الأساسي من علاقات المرء، ولا سيما في مرحلة الطفولة، أمّا بقية الأشخاص فيحظون بدرجة أقل من الأهمية. والواقع أن من السابق لأوانه الإقدام على فك الارتباط نظرياً بين تشكُّل الذات والعلاقات الشخصية المباشرة، على الرغم من التجديد المطلوب لفهم تطور الذات والحفاظ عليها في «العوالم الرقمية» للتخاطب غير المجسَّد والعلاقات المحكومة بالوسائط.
يشير نيكولاس روز إلى أن الخطاب المحكوم بالوسائط، وليس العلاقات بين الأشخاص، هو الذي يقوم بالتصدي بقوة لتشكيل الذوات، ولهذا فهو ليس في حاجة إلى الفصل بين تلك الدائرة الداخلية من الأشخاص المقرّبين الذين يُعرفون بالأشخاص المهمين وبين الأشخاص الأقل أهمية. من جهته، أشار كاستيلز إلى «الفرديَّة» بوصفها مشاريع وعلاقات ذاتية التوجيه (وليست موجّهة من خلال التقاليد)، تجد في الإنترنت التكنولوجيا الملائمة لها للتعبير والتنظيم. فقد حدث تحوّل تاريخي في التأكيد الذي انتقل من الولاءات طويلة المدى بين العائلة والأصدقاء والمجتمعات القائمة على المكان إلى الشبكات الاجتماعية الأكثر انتشاراً وتغيُّراً، وساعدت شبكة الإنترنت على تحويل تركيز النمو الفردي والاجتماعي بعيداً عن الروابط القوية وتوجيهه نحو الروابط الضعيفة.
يشير أنتوني غيدنز إلى «العلاقة النقيَّة» التي توجد في الحديث عن العلاقات بنحوٍ أقوى مما يوجد في العلاقات الاعتيادية. ففي العلاقات الاعتيادية لا يُعتبر الإفصاح المتبادل الطريقةَ الوحيدة لتثبيت الحميمية، وقد لا يكون دائماً طريقة كافية للحفاظ على علاقة حميمة. فالوجود المشترك يُعتبر، بالنسبة إلى بعض الطرق التي يولِّد بها الأشخاص الحميمية، جانباً أكثر أهمية من الإفصاح عن الحميمية، فإعطاء الأولوية للوقت الذي تقضيه مع أحدهم للاستمتاع بالبهجة، وتفضيله على بقية الأوقات، والسعي إلى جعله «أجمل الأوقات» هي جميعها طرق للتعبير عن الحميمية، وغالباً ما يشير القرب واللمس الجسدي إلى مظاهر أخرى من الحميمية ويكملانها (العناق مثالاً). إن عمق التعاطف والحب الذي يصل إليه بعض الأزواج من خلال الوجود الجسدي المشترك، على الرغم من قلة الكلام المتبادل في ما بينهم، يبدو مستبعداً أن يُستَنسَخ بـ«صمتٍ» آخر في ظل وجود مشترك افتراضي وغير مجسَّد يعتمد على مخزون الإيماءات والهدايا الإلكترونية مثل «النكزة» وغيرها ومختلف خيارات «الإرسال» التي تقدمها مواقع شبكات التواصل الاجتماعي وألعاب المحاكاة المرتبطة بها.
من الممكن نظرياً ممارسة الإفصاح عن الذات عبر الإنترنت، بواسطة التكنولوجيا الرقمية، إمّا من خلال توليد شعور عابر بالحميمية بين الغرباء، وإمّا من خلال تطوير الحميمية في علاقة قائمة بالفعل وكانت قد بدأت بالوجود المشترك. وعندما تستمر العلاقات عبر الإنترنت بين من كانوا غرباء في البداية فتراتٍ طويلة، فإنها في الأغلب تبدأ في اتخاذ شكل الصداقة التي تتطور خارج الإنترنت.
إنّ تمضية الوقت معاً باستخدام الوسائط الرقمية قد يضاهي إلى حدٍ ما بناء علاقة من خلال تمضية الوقت معاً عبر الوجود المشترك، ولكن من غير المحتمل أن يؤدي ذلك إلى الشعور بالحميمية من دون الإفصاح عبر وسائل التفاعل التي تتضمن الحديث مثل غرف الدردشة والبريد الإلكتروني والمهاتفة عبر الإنترنت ولقاءات الفيديو. وللعلاقات التي تنشأ عن بُعد إمكانات محدودة لتقديم الرعاية العملية مباشرةً. ففي الحالات التي يأمل فيها الناس الحصول على مساعدة عملية أو يرتقبون مثل تلك المساعدة، فإن العجز عن الحضور لتقديمها قد يؤدي إلى تقويض الحميمية التي لا تزال الممارسات الأخرى تنجح في الحفاظ عليها. إن عمليات التعرُّف على شخص آخر باستخدام الوسائط الرقمية تشوبها عيوبٌ واضحة مقارنة بالعلاقات المباشرة، كما تنطوي الثقة بالآخر غير المرئي على قدرٍ أكبر من المشاكل.
أشار كاستيلز إلى أن تكنولوجيا الإنترنت تتمتع بخاصية تعزز الذات المستقلة التي تعارض الهرميات التقليدية، بما في ذلك العلاقات الشخصية الأبوية. لقد أتاحت التكنولوجيات الرقمية فرصاً جديدة لمغازلة الشركاء الجنسيين المحتملين والتعرُّف عليهم بعيداً عن أنظمة المواعدة الأبوية التي يَختار فيها الرجال، في حين تنتظر النساء أن يُختَرن. بالإضافة إلى ذلك، يتيح الاتصال الإلكتروني لكل الشبان والشابات طرقاً جديدة للبدء في المغازلة بنحوٍ آمن ومراقَب نسبياً مما يسمح بالسيطرة على «نقاط الضعف» و«ضبط اللامبالاة». ومع ذلك، يُتيح الإنترنت، أيضاً، توسُّعاً هائلاً في وسائل إعادة خلق الهرميات التقليدية للجنسانية والنوع الاجتماعي. ويعتبر «الجنس عبر الإنترنت» قريباً من الإباحية في مدى فصله بين الحميمية الجنسية والأشكال الأخرى من الحميمية. وإن كان هناك احتمال أكبر لوجود استثناءات تفسد هذا الفصل. بالنسبة إلى المشاركين في التفاعلات الجنسية النصيَّة أو تلك المقامة عبر الكاميرا، فإن طمس أسمائهم وعدم إظهار وجوههم، وعدم وجود احتمال لأن يُتعَرَّف عليهم، جعل الجنس عبر الإنترنت غير مرئي في بقية حياتهم وكان شرطاً مهماً للمشاركة وعنصراً من عناصر الإثارة في آنٍ معاً مما سمح لهم بالتخلُّص من الكبت وإطلاق العنان لانفعالاتهم الجنسية. بيد أن هذا كان بمنزلة قيدٍ أقرّ به الرجال والنساء، نظراً إلى أنه يحدُّ من الحميمية من خلال تقييد مدة إمكانية معرفة الذات الحقيقية من قِبل الآخرين، فضلاً عن أن المشاركين في الجنس عبر الإنترنت يرون أن الأشخاص الذين يتفاعلون معهم في هذا الإطار هم مجرَّد جسدٍ آخر، ولا وجود لأيّ اعتبار لأشخاصهم. لقد أتاح الجنس عبر الإنترنت تجربة أشياء جديدة وإطلاق العنان لخيالات جنسية مغايرة لما يُفعل في الجنس الحقيقي، كما يُسهِّل الإنترنت أيضاً العلاقات الاستغلالية والأذى الجنسيّ، وقد يشمل الشكل السائد لتخطي الحدود الذكور المقيمين في الدول الغنية الذين يبحثون عن خدمات جنسية من خلال النساء والأولاد المهاجرين من الدول الفقيرة. ومع ذلك، فإن جميع هذه الاستخدامات للإنترنت من أجل الجنس لا تشير أبداً إلى بروز اتجاه نحو تحوّل جذري يحتمل أن يحلّ محلّ الجنس الذي ينطوي على التلامس الجسدي.

* باحث مصري

مراجع:

- Nicos Poulantzas: «Classes in Contemporary Capitalism»
- Leslie Sklair: «The Transnational Capitalist Class»
- Manuel Castells: «The Rise of The Network Society»
- Christian Fuchs: «Rereading Marx in the Age of Digital Capitalism»
- «علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية»
(سلسلة عالم المعرفة)