في ما يتعلق، بدايةً، بالمعطيات الإحصائية، من حسن الحظ أنها تتيح لنا الفرصة لإجراء مقارنة -وإن مع بعض التحفظ على تجانس المعايير الضابطة لتحصيلها- ما بين مرحلتين: أولاهما، بداية سبعينيات القرن الماضي، الممثلة لحقبة ما قبل اندلاع الحروب الداخلية والخارجية المتشابكة (المسماة، اختزالاً للواقع، «الحرب الأهلية») التي اجتاحت لبنان من سنة 1975 إلى سنة 1990، والثانية، مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، الذي يفصله عن بداية المرحلة الأولى زهاء أربعين سنة. أمّا مرد هذه المعطيات بالذات، فهو، في ما يتعلق بأولى المرحلتين، إلى تحقيق إحصائي بالعيِّنة أجرته جمعية تنظيم الأسرة في لبنان، في حزيران 1971، حول الأسرة في لبنان؛ وذلك استناداً إلى عينة عشوائية من 2754 أسرة. وأمّا في ما يتعلق بالمرحلة الثانية، فهو إلى تحقيق حول الزيجات المختلطة دينياً ومذهبياً في البلد أجرته «الدولية للمعلومات»، سنة 2013، بالاستناد إلى جردة شاملة للوائح الشطب الرسمية للناخبين والناخبات، المتأتية من دوائر النفوس سنة 2011. وقد نُشِرَت نتائج هذا التحقيق تباعاً في أعداد حزيران إلى كانون الأول، باستثناء آب، سنة 2013، من الدورية الإلكترونية الشهرية التي تصدرها المؤسسة صاحبة التحقيق تحت اسم «الشهرية».

انقر على الجدول لتكبيره


انقر على الجدول لتكبيره

في حزيران 1971، كان اللبنانيون موزعين بشكل رئيس، كما يظهره تحقيق جمعية تنظيم الأسرة المذكور، إلى ثلاث دوائر زواجية شبه مقفلة ومدموغة بدمغة الانتماء، كلاً، إلى أحد الأديان الثلاثة الحاضرة في الميدان: المسيحية والإسلام والتوحيد الدرزي (أنظر الجدول1 على الموقع). وقد وصلت نسبة «الزواج الداخلي» في الدائرة المحيطة من هنا بالمسيحيين إلى ما يساوي 99.73% من مجموع زيجات المسيحيين التي ضمّتها العينة، ووصلت في الدائرة الإسلامية إلى ما يعادل 98.05% من مجموع الزيجات الإسلامية، كما بلغت في الدائرة الدرزية، أخيراً، ما نسبته 97.47% من مجموع الزيجات الدرزية - في حين تدنت، وللبداهة، النسبة الإجمالية لتزاوج المسلمين والمسيحيين ما بينهم إلى حدود 0,91% من المجموع الإجمالي للزيجات المعقودة عند الطرفين بالنظر إليهما ككل (أنظر الجدول 2 على الموقع).
ولكن على صعيد ثانوي، فيما بقيت الدائرة الدرزية واحدة، بالطبع، لكون الدروز غير منقسمين مذهبياً، كان المسلمون، من جهتهم -بعيداً عن أي اندماج في المجال الزواجي إياه قد كان ليهدم الحواجز المذهبية الفاصلة ما بينهم- منقسمين داخل الدائرة الرئيسة الآنفة إلى دائرتين ثانويتين، إحداهما سنية والأخرى شيعية. وكانتا أقل انغلاقاً على المصاهرة ما بينهما، ولكن ليس بكثير. وقد بلغت نسبة التزاوج ما بين الدائرتين فقط 3.8% من مجموع الزيجات الإسلامية الداخلة في تكوين العينة (أنظر الجدول 3 على الموقع).
أمّا في الجهة المسيحية، فالحق أن الزيجات المندرجة في إطارها توزعت، هي أيضاً، إلى دائرتين ثانويتين، «كاثوليكية» و«غير كاثوليكية»، ولكن مع اختلاف ملحوظ في حجم التزاوج ما بين الجهتين بالمقارنة مع ما يوازيه في الجهة الإسلامية، بين السنة والشيعة. فما بين المجموعتين المسيحيتين، كان حجم التزاوج الحاصل أكبر بـ 3.5 مرات من حجمه المسجل بين السنة والشيعة، وقد بلغ ما نسبته 13.6% من مجموع الزيجات المسيحية في العينة (أنظر الجدول 3 على الموقع).
أمّا في ما يتعلق بمعطيات المرحلة الأقرب إلينا، الصادرة عن «الدولية للمعلومات»، فقبل تحديدها بالأرقام، لا بد من التسليم بأن المقاربة التي اعتمدت للاستحصال عليها كانت من حيث المبدأ أضمن قدرة على توصيف الواقع كما هو، من تلك التي كان إليها الاستناد لتكوين معطيات المرحلة السابقة. ذلك أن سنادها الأساسي كان جردة شاملة للسجلات الرسمية التي يفترض احتواؤها على المعلومات الدقيقة ذات الصلة، في حين أن السناد المقابل لمقاربة المرحلة السابقة اقتصر على استقراء لمكوِّنات عيِّنة سكانية. ومعروف كم تبقى بوجه العموم قابلةً للنقاش مسألة نظرية كمسألة مطابقة العينة -أية عينة- عموماً، في سماتها التكوينية، لسمات المجموعة السكانية الأم التي يُفتَرَض أنها تمثلها.

انقر على الجدول لتكبيره


انقر على الجدول لتكبيره

ومع ذلك، فقد بقيت مطابقة هذه المعطيات المستمدة من «الدولية للمعلومات» للواقع القائم غير تامة، ولكن، في المحصلة النهائية، على نحو محدود لا يعدّل على الأرجح في صورة هذا الواقع. وبالتالي، ضمن هذه الحدود في دقة المعلومات المبنيِّ عليها، ما الذي كشفه من الوقائع، تحقيق «الدولية للمعلومات»؟
بالامتناع، مرة جديدة هنا، عن الاسترسال في التفاصيل، ومن ثم الاكتفاء برسم الصورة في خطوطها العريضة، يمكن القول أنه بنتيجة الفرز الشامل لمعطيات لوائح الشطب وتحليلها، ثم إعادة تبويبها في الخانات ذات الدلالة، يتبين أن المجموع العام لحالات الزواج في «لبنان الناخب»، التي كانت مسجلة في سجلات النفوس سنة 2011، بلغ 1.159.220 حالة (أنظر الجدول 4 على الموقع).
ويتبيّن أيضاً أن هذا المجموع بقي في توزعه الإجمالي إلى حد بعيد، وإن مع تعديلات طفيفة في النسب المئوية لا تحدث أي فارق يذكر في ملامح الصورة العامة، شبيهاً بالتوزع الذي كان قائماً سنة 1971، أي قبل أربعة عقود.
فإذا به ينقسم، بصورة رئيسة، إلى دائرتين دينيتين، واحدة مسيحية وأخرى إسلامية، وقد اقتصر عدد حالات التزاوج ما بين الدائرتين على 10.797 حالة، أي ما نسبته 0.93% منه (في مقابل 0.91 سنة 1971). وإذا بالدائرتين الدينيتين هاتين، بدورهما، تنقسمان، كلاً، إلى عدد من الدوائر الثانوية، المذهبية التصنيف، يقتصر مجموع حالات التزاوج ما بينها في الجهة الإسلامية، على 32.231 حالة، أي ما نسبته 2.78% من المجموع العام للزيجات المسجلة في هذه الجهة (بمقابل 3.8%، سنة 1971)، وفي الجهة المسيحية، على 118.250 حالة، أي ما نسبته 10.20% من المجموع العام الموازي (بمقابل 13.6%، سنة 1971).
فبالنظر، والحال هذه، إلى هكذا معطيات، بقيت على ثبات كاد أن يكون تاماً عبر أربعة عقود من الزمن، على رغم كل ما شهده لبنان خلالها من تطورات وأحداث جسام على كل صعيد، نجدنا، وللبداهة، أمام بنية للمجتمع اللبناني -كدنا نقول- عصيّة على التبدل، يحتل واجهتها، بعيداً من هواجس الاندماج المواطني المتوخى، نزوع إلى تجزئته، بل بالأصح إلى فرزه على مستويين:
- فرزه على مستوى أولي، عند خطوط الفصل ما بين الأديان الثلاثة، إلى ثلاث كتل، مسيحية وإسلامية ودرزية، يسيّجها في المجال الأسري ما يبدو، بحسب تعبير موفق لناصيف نصار في كتابه «نحو مجتمع جديد»، كأنه «أسوار» -وأضيف من عندي: «شاهقة»- تحول دون التزاوج ما بينها إلا نادراً.
ـ وبالتوازي، فرز لكلا الكتلتين المسيحية والإسلامية، من دون الدرزية، إلى وحدات ثانوية، عددها بعدد المذاهب التي تشتمل عليها كل كتلة، وفصل بعضها عن بعض عند خطوط الفصل ما بين المذاهب، بأسوار هي أقل ارتفاعاً بعض الشيء، ولكن ليس بكثير، وإن بتفاوت ما بين البيئتين الدينيتين، لملء وظيفة مماثلة.
وهذا ما، في المحصّلة النهائية، يكون في طليعة دلالاته أن مخرجات الأحوال الشخصية في لبنان على صعيد التزاوج، مع ما ينجم عنه من إنشاء لعائلات جديدة ونسج لعلاقات قرابة، ليست بالنسبة إلى طوائفه إلا عنصراً إضافياً من عناصر تبنينها السابق توصيفه كمتّحدات عضوية. لا بل ربما كان بالأحرى هو ما يشكل القاعدة الديموغرافية التي في غيابها كانت عمليات التبنين المشار إليها لتفقد مرتكزها المادي الأساسي.
فإلامَ من العوامل، والحال هذه، يعود التسبب بهذه الظاهرة الزواجية المزدوجة؟ ترى هل مكمن العلة هو في القوانين المعنية، بحد ذاتها؟ بالتأكيد لا، بدليل ما هو قائم لا بين الدائرتين الإسلامية والمسيحية حيث المنع في القوانين الإسلامية يترافق، كما سبقت الإشارة، مع شبه انعدام للتزاوج الإسلامي المسيحي، بل في داخل كل منهما. ففي الدائرة الإسلامية، لا وجود البتة في أي القانونين السني والشيعي لأي مانع يمنع السنة والشيعة من التزاوج ما بينهم. وفي الدائرة المسيحية، كذلك، القول نفسه يقال عن القوانين المعمول بها عند الكاثوليك وغير الكاثوليك على السواء. ومع ذلك، فتزاوج الشيعة والسنة ما بينهم لم يتجاوز معدله نسبة الـ 2.78% الشديدة التدني من مجموع الزيجات الإسلامية سنة 2011 (في مقابل 3.8%، سنة 1971)، فيما بلغ المعدل الموازي للتزاوج ما بين المسيحيين الكاثوليك وغير الكاثوليك ما نسبته -الأقلّوية هي أيضاً، وإن أعلى بعدة مرات من مثيلتها في الجانب الإسلامي- 10.20% من مجموع الزيجات المسيحية سنة 2011 (في مقابل 13.6%، سنة 1971).
ولئن دل، تالياً، هذا المعطى على شيء، فبالأحرى على وجوب التفتيش عن الأسباب العميقة للظاهرة لا في القوانين المعنية وإن كانت هي سناد شرعيتها، بل في ما يستظل هذه القوانين، على أرض الواقع المعاش لمختلف الطوائف، من «جمعنة» لأعضائها على امتداد مواريث قديمة، وعادات وتقاليد تباعد ما بينها، بالتكامل والتفاعل مع ما تم رصده أعلاه من تجلّيات عامة ومشتركة لتبنينها المتّحدي على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
فما هو، والحال هذه، المقصود بـ«الجمعنة» كمفهوم وكعملية؟ وبمَن مِن الوسائط الاجتماعية عساه يكون منوطاً أمر القيام بها؟ وماذا، من ثم، عن سيروراتها؟ (يتبع)

* باحث وناشط سياسي