بعد سنوات من العمل الفني والأفكار المنحازة للقضية الفلسطينية، ومع انتمائه السياسي المعلَن للقومية العربية، كان الفنان محمد صبحي، يصف، في لقاء تلفزيوني، كفاحه المرير لعرض مسلسل (سيء من وجهة نظري) يتناول كتاباً أسطورياً هو «بروتوكولات حكماء صهيون»، ويستفيض عن الدور الوطني الاستقلالي لصفوت الشريف وعمر سليمان اللذين قرّرا -في تسوية مباركيّة الطابع- عرض المسلسل مع حذف 40 مشهداً فقط بدلاً من 140 طلب الأميركان حذفهم، من دون أن نعرف كيف وصلت إليهم نسخة كاملة، وأُرسلت طائرات رسمية لاستبدال النسخ التي بيعت للقنوات عدا نسخة التلفزيون العراقي الرسمي وقناة «المنار» الناطقة بلسان المقاومة اللبنانية، الفضائية الوحيدة التي عرضت المسلسل شاملاً ما تحفّظ عليه المدير الأميركي. تقريباً في نفس وقت عرض الحلقة الحوارية كان جنود الصهاينة يقتحمون المسجد الأقصى، في رمضان، بموازاة استكمال تعديلات طبوغرافية وتشريعية تبتلع الضفة الغربية منذ سنوات بالفعل، في تجلٍ مباشر لإجابات أسئلة بنت السياق والزمن الحاليين، مثل: من العدو وأي شكل يتّخذ وما برنامجه لنا؟ كيف تعمل وتتمثّل سياساته على الأرض وإلامَ تهدف في الملموس؟علامَ يشجّعه تطبيع دولتين مثل السعودية والإمارات معه؟ مفردات كثيرة للمشهد ليس لأي منها علاقة بتهويمات الماسونية والخطط شديدة السرّية التي لا نعلم كيف عرفها إذاً من يصفها بالتفصيل ولم يصنعها. يقف العدو أمامك بوضوح ويجعلك والأرض سواء وأنت تتأمّل قصص أطفال عن شخصيات شريرة تماماً، مجهولة بالأساس، وتطارد سلسلة من الافتراضات خلاصتها أن لا معنى للصدفة أو الاعتباط في الكون، وأن العدو إلهي القدرات حدّ تخطيطه واقعك الآني منذ عشرات السنين.
ليس الأمر شخصياً، وأهمية محمد صبحي في هذا الصدد ذات علاقة بإسهامه في تشكيل وجدان جيلين تقريباً من المصريين، وبأنه صاحب آراء سياسية مغرقة في القلق من حكّام الكوكب الغامضين وراء الستار، واجتماعية مغرقة في الأخلاقية وشديدة المحافظة، تروق بشكل عام لملايين من الشعب، وتحذّر دوماً من الفوضى والتشرذم والانحدار الأخلاقي. وهنا أيضاً ثمّة وحش غامض (لعلّه نفس الماسونية) يستهدف أخلاقنا وقيمنا دوماً من دون تحديد ملامحه، ولا ما علينا فعله بالضبط لحلّ معضلة أخلاقنا سوى الالتزام بالنظام المدرسي والنموذج الأخلاقي البديهي للطبقة الوسطى المدينية، الذي يتعرّض للتغيّر بدوره بفعل الواقع، ما لا يتطلّب حقيقة هذه الضجة والمؤامرات المركّبة لتقويضه في وقتنا هذا، إذ نواجه اللا إنتاج والتضخّم والديون وتدنّي الدخول الحقيقية وضعف التحكم في السوق المحلّية وغياب علاقة عادلة بالسوق العالمي، وكل ما يقول إننا نحتاج حقيقة إلى تحديد المسؤول لا تغميضه باللغة. بخاصة وأن صبحي أحد أشدّ مؤيدي الحكم الحالي لمصر وزايَد في ذلك تحت عناوين وطنية وقومية مفادها أن استقرار الحكم أولوية وحيدة بالمعنى التامّ، وما على الحكم تحقيقه هو الأخلاق، التي سيكفل تحقيقها هزيمة الاستعمار والصهيونية وتجاوز تفتت العرب.
بصفتي ابناً لأحد هذين الجيلين، أريد أن أقول هذا غير صحيح أبداً. المسؤول عن «ممارسات» إسرائيل وهضم الحق العربي في فلسطين هي إسرائيل تلك، الرابضة على حدودنا مباشرة بقوة الأمر الواقع، وليس الماسونية ولا يهود بعيدين قبيحي الطلعة يتآمرون في أماكن سفلية مظلمة لن نعلمها وإن اجتهدنا. وسؤال من يحكم العالم طفولي فضلاً عن أي إجابة لن تقلّ طفولية بحال، ومضمونه الأدقّ (والأكثر تواضعاً معرفياً): كيف يعمل العالم ولمصلحة من؟ وثمة إجابة قابلة للإدراك تماماً بما يكفي، من دون أبعاد ميتافيزيقية، وذات علاقة بتحالف شبكات مصالح تعكسه الأرقام والوقائع والسياسات والدراسات والأبحاث.
أمّا ضعف وتشرذم العرب، الذي يدفعنا أولاً لنسأل أيّ عرب نقصد؟ والفنان مؤيد للتكامل العربي ومقاومة التبعية والاستعمار، فلا يرجع إلى سايكس بيكو وحدها أو ضياع الأخلاق، لكن -إجمالاً وبمعنى ما- إلى نفس حقائق «الواقعية» التي جعلته يؤيد رفع الدعم، مادحاً مغامرة الرئيس بتقليل شعبيته، لتحميل العجز للغالبية وسدّ الدين لا لإقامة رأسمالية حقيقية أو رشيدة مثلاً، مع موقف صبحي الحاسم من الرأسمالية العالمية، مسخاً شرّيراً بشكل مجرّد، ورغم ناصريته المفترض انحيازها للشرائح الأفقر. والواقعية التي دفعته معتذراً إلى سحب استنكاره هرولة أغلب نجوم الصف الأول المصريين بوقت واحد للسعودية، ما فجّر فقاعة ريادة وأصالة الفن المصري الحالي الخاضع، مثل الاقتصاد، للسوق وحده، وإلى تأييد تسليم جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للمملكة قبل ذلك بسنوات، معلناً في الوقت ذاته خشيته إقامة قواعد عسكرية أميركية هناك! مطالباً الدولة المصرية بأخذ ضمانات عدم حدوث ذلك، ومتّهماً من حاول التظاهر ضد القرار، وكثير منهم تلقّى طفلاً رفض الدور السياسي للنفط العربي وتراجع دور مصر وهيمنة البترودولار من صبحي بالذات، أنهم «لا يعرفون عن تيران وصنافير أي شيء ويجهلون موقعهما الجغرافي».

* كاتب مصري