«- هل الصين صديقة أفضل للسعودية أكثر من الولايات المتحدة؟- ليس بالضرورة أن تكون صديقاً أفضل، لكن صديقاً أقلّ تعقيداً»
[من مقابلة للأمير تركي الفيصل، سفير المملكة العربية السعودية الأسبق لدى واشنطن]


في شهر كانون الأول الماضي، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة تاريخية إلى المملكة العربية السعودية، استغرقت ثلاثة أيام، للمشاركة في ثلاثة أحداث إقليمية رئيسة: قمّة مجلس التعاون الخليجي، والقمة الصينية - العربية، والقمة السعودية - الصينية. وخلال الزيارة، رأى كلّ من الرئيس شي والملك سلمان أن هذه القمّة تبشّر بحقبة واعدة من العلاقات الصينية - السعودية.
تتناقض مظاهر الترحيب الفخم بالزعيم الصيني في الرياض - بحسب العديد من المراقبين - بالمقارنة مع الاستقبال المتواضع للرئيس بايدن في زيارته إلى جدّة في تموز الماضي، في مسعى منه لإعادة الزخم إلى العلاقات بين واشنطن والرياض، كما اتّضح ذلك من قرار «أوبك+» بخفض إنتاج النفط الخام لمواجهة تداعيات الحرب في أوكرانيا، وقد عُدّت الموافقة السعودية على القرار ازدراءً بالرئيس بايدن.
وفي موقف لا يخلو من الكثير من الخفّة، رأى وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، أن زيارة الرئيس الصيني شي إلى المملكة وما تعنيه من تقارب صيني - سعودي هي نتيجة مباشرة لما وصفها بـ«سياسة أميركية سيّئة»، منتقداً تعامل إدارة بايدن مع حلفاء الولايات المتحدة. هذا التوصيف للزيارة يبعث على الدهشة لما فيه من التبسيط، وتزداد الغرابة حين نعرف أن هذا التصريح لا يصدر عن وزير لم يشغل فقط إدارة الشؤون الخارجية لبلاده، بل شغل أيضاً من قبل منصب مدير المخابرات المركزية الأميركية (CIA) وهو من دون شك أحد الطامحين للترشح عن الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كيف فات هذا الوزير الإحاطة بمسار العلاقات الصينية - السعودية وتطوّرها على مدى الثلاثين عاماً؟ أمّا إذا كان موقفه غير صادر عن اقتناع منه، بل يندرج في خانة المناكفة السياسية الداخلية وتسجيل المواقف ضدّ إدارة بايدن، فهذا أيضاً لا يعفيه من المسؤولية لما في ذلك من استخفاف بعقول النخبة الأميركية وكل المؤسسات المعنية بالسياسة الخارجية الأميركية.
على أيّ حال، التسرّع والخفّة ليسا بالأمرَين الطارئين على الإدارات الأميركية المتعاقبة، وهناك شواهد كثيرة على قصر النظر وضحالة الإدراك الأميركي في العديد من قضايا السياسة الخارجية؛ فبعد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 وآثاره الكارثية على الهيمنة الغربية في المشرق العربي، نتيجة الضرر البالغ الذي لحق ببريطانيا وفرنسا الشريكتين في العدوان على مصر، وما تلاه من صعود لـ«تسونامي» عبد الناصر في العالم العربي، وتحسباً للفراغ الناشئ في المشرق العربي والذي من المتوقع أن يملأه الاتحاد السوفياتي، أصدر الرئيس الأميركي آيزنهاور في بدايات عام 1957 «مبدأ آيزنهاور» الذي يحمل اسمه، لقطع الطريق على الاتحاد السوفياتي ومنع تمدّد تيار القومية العربية المتحالف معه، وكانت إدارة آيزنهاور بحاجة إلى وكيل إقليمي ليكون ناطقاً باسم مشروعها الجديد، فلم تجد إلا الملك سعود بن عبد العزيز، وكان هذا الخيار بائساً بكل المعايير، ولا يمتّ بأيّ صلة لناحية فهم الديناميات التي كانت تتشكل وتترك تداعياتها الحاسمة على ميزان القوى في المشرق العربي.

انطلاق العلاقات بصواريخ صينية
مع استعار الحرب الباردة، والذي تزامن مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، لم يكن هناك أيّ علاقات بين بكين والرياض. ويعزى ذلك إلى اعتراف حكومة الرياض بالحكومة الصينية المنفية في تايوان، وكانت العلاقات بين الصين الشعبية والسعودية على طرفَي نقيض؛ فتحتَ قيادة ماو تسي تونغ، كانت الصين الشعبية تنتهج سياسة ثورية معادية للولايات المتحدة الأميركية وكانت حليفاً موثوقاً لموسكو، أقلّه حتى وفاة ستالين في عام 1953، بينما كانت السعودية دولة شديدة المحافظة ترفع رايةً إسلامية ومعارضة بقوة للشيوعية وهي حليف موثوق للولايات المتحدة التي كانت تقيم في الظهران أكبر قاعدة عسكرية لها في الشرق الأوسط.
حملت أواسط الستينيات المزيد من التدهور في العلاقات الصينية - السعودية، فمع اندلاع ثورة ظفار في جنوب عمان ضد النظام الملكي في عام 1965 والتي كانت تتلقّى دعماً من الصين الشعبية، وهذا بالطبع أثار مخاوف السعوديين من انتشار العدوى الثورية في شبه الجزيرة العربية، وخاصةً أنه سبق اندلاع هذه الثورة سقوط نظام الإمامة في صنعاء في عام 1962 وتفجّر الحرب الأهلية في اليمن الشمالي بين الجمهوريّين والملكيّين، وما تلاه ذلك من إرسال الرئيس جمال عبد الناصر قوات مصرية لدعم الجمهوريين، واشتدّت الكوابيس على السعوديين بعد الانسحاب البريطاني من عدن وقيام نظام ماركسي في اليمن الجنوبي يمّم وجهه منذ نشأته شطر موسكو وبكين.
هذه التطورات الملتهبة زادت من تشدّد السعودية ضد الصين الشعبية، فلم تلحق الرياض بركب واشنطن حتى حين ذهبت الأخيرة للاعتراف بالصين الشعبية، وكانت السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي صوّتت ضد قبول جمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة في عام 1971.
بقي هذا الوضع على حاله حتى أواخر السبعينيات، وترافق ذلك مع وصول قيادتَين جديدتين في كلا البلدين، تمثّلت في بكين بزعامة دينغ هسياو بينغ في عام 1978 والذي دشّن ما سمّي بحقبة «الإصلاح والانفتاح»، وفي الرياض وبعد اغتيال الملك فيصل في عام 1975 بدأ حكم الملك خالد، لكن مقاليد الأمور كانت بين يدَي وليّ العهد الرجل القويّ في الأسرة السعودية وهو الأمير فهد الذي صار ملكاً بعد وفاة أخيه الملك خالد في عام 1982.
بدأ هذا الموقف يتغيّر في أوائل الثمانينيات حيث اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية في أيلول 1980 بغزو العراق لإيران. كانت المملكة حليف العراق ومموّله. وكان الرئيس صدام حسين قد استعرض الحرب في اجتماع مع الملك فهد في الطائف في شهر آب، ولم يلبث أن تحوّل مسار الحرب بسرعة ضد العراق، ومع اشتداد أوار الحرب، انهمرت صواريخ سكود السوفياتية على البلدين، وشعر السعوديون بالتهديد من إيران فسعوا للحصول على صواريخ باليستية متوسطة المدى لردع إيران، وكانت وجهتهم الولايات المتحدة الأميركية المورّد الأول للسلاح السعودي، وكانت عينهم على امتلاك صواريخ «بيرشينغ»، لكن المشكلة التي واجهتهم أن هذه الصواريخ يمكن تعديل حمولتها التقليدية واستبدالها برأس حربي نووي، وهذا يشكّل تهديداً غير مقبول ضد «إسرائيل». وعليه، لم تكن هناك فرصة واقعية لواشنطن لإبرام مثل هذه الصفقة. لم يتأخر السعوديون للتحول نحو وجهة أخرى غير واشنطن، ولأول مرة بدت بكين المتخفّفة من حمولتها الإيديولوجية خياراً معقولاً، وأسندت المهمة في ذلك الوقت إلى السفير السعودي لدى واشنطن بندر بن سلطان، ولهذه الغاية تواصل بندر بشكل سري مع نظيره الصيني في واشنطن، هان شو، وسأله عمّا إذا كانت بكين على استعداد لتوفير الصواريخ، وسرعان ما جاء الرد من بكين بالإيجاب، بعدها سافر بندر إلى باكستان حيث التقى سراً بالمسؤولين الصينيين، وفي تموز 1985 قام بندر بأول زيارة من ثلاث زيارات سرّية لبكين للعمل على تفاصيل إنجاز صفقة الصواريخ وتم الانتهاء من الصفقة في كانون الأول 1986: زوّدت بموجبها الصين السعودية بخمسين صاروخاً باليستياً متوسط المدى من طراز Dong Feng-3/ CSS-2، تحمل الاسم الرمزي «رياح شرقية» (East Wind)، وتبلغ قيمتها 5,3 مليارات دولار. لم يُبلّغ المسؤولون الأميركيون بالصفقة، ولم يعرفوا عنها حتى عام 1988.
كانت النتيجة المباشرة لصفقة الصواريخ ارتفاع درجة الحرارة في العلاقات بين بكين والرياض، وفي تموز 1990 أُرسِل الأمير بندر بن سلطان إلى بكين للتفاوض بشأن الاعتراف الدبلوماسي الكامل. بالنسبة إلى بكين، كانت العقبة الوحيدة تتمثّل في استمرار اعتراف السعودية بتايوان، لذا عمدت المملكة بدلاً من ذلك إلى تخفيض مستوى التمثيل من سفارة إلى مكتب تمثيلي، بعدها طار وزير الخارجية الصيني تشيان كيتشن إلى الرياض في 21 تموز 1990 للتوقيع على بيان إعلان إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

مأسسة العلاقات
يبدو أن صفقة الصواريخ فرضت إيقاعها المتسارع على مجمل العلاقات الصينية - السعودية، فأصبحت الصين بسرعة مستهلكاً رئيسياً لصادرات النفط السعودية، ومع نمو التجارة، تعزز الاهتمام لدى النخبتَين الصينية والسعودية بتطوير حوار رفيع المستوى في أعلى الهرم بهدف مأسسة العلاقات عبر مجموعة من القضايا الاقتصادية والسياسية، وقد حُقّق ذلك من خلال الزيارات المتكررة بشكل متزايد من القادة السياسيين، هذه الرحلات التي تنطوي على مقدار من الإشارات السياسية والتي كان لها الدور الفعّال في تشكيل مسار العلاقات الثنائية.
في السياق هذا، جاءت زيارة رئيس مجلس الدولة الصيني رئيس الوزراء لي بينغ إلى المملكة العربية السعودية في الفترة من 9 إلى 11 تموز 1991 في أوّل زيارة لمسؤول صيني رفيع بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، كان الهدف منها توسيع العلاقات الثنائية السياسية والاقتصادية، ووصفت الزيارة بـ«الناجحة» و«المثمرة».
بدوره، قام وليّ العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز بزيارة إلى الصين في الفترة الممتدة من 14 إلى 21 تشرين الأول في عام 1998 حيث التقى الرئيس الصيني جيانغ زيمين وتناولت المباحثات مختلف القضايا الثنائية والإقليمية والدولية، واعتبرت زيارة ولي العهد عبد الله الزيارة الأرفع على الإطلاق لمسؤول سعودي لجمهورية الصين الشعبية. بعدها، في نيسان من العام التالي 1999، قام حاكم الرياض في حينها سلمان بن عبد العزيز بزيارة إلى بكين التقى خلالها كبار القادة الصينيين.
ومن الجانب الصيني، سجّلت أول زيارة لرئيس صيني إلى الرياض تلك التي قام بها الرئيس جيانغ زيمين في تشرين الأوّل من عام 1999 أسفرت عن عقد اتفاقية تعاون نفطي استراتيجية بين البلدين، وأدّى ذلك إلى إطلاق دينامية هائلة في مجال الطاقة، ما سمح للشركات الصينية بالاستثمار في سوق النفط المحلي في المملكة العربية السعودية، وفي المقابل فتحت الصين الأبواب لمشاركة شركات سعودية في عملية التكرير الصينية، ونجم عن هذا الاتفاق زيادات ضخمة وبسرعة في مبيعات الطاقة، ففي حين كانت قيمة صادرات الوقود الأحفوري السعودي إلى الصين في عام 2000 تبلغ 1.5 مليار دولار، نمت هذه الصادرات لتصل إلى أكثر من 25 مليار دولار في عام 2010.
ومع تزايد المصالح الاقتصادية بين الصين والعرب، أنشأت الصين منتدى التعاون الصيني - العربي (CASCF) في عام 2004، لمأسسة العلاقات مع الدول العربية وضمناً مجموعة الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، وليكون هذا المنتدى «بمنزلة منصة لتبادل وجهات النظر بين الصين والدول العربية، وتعزيز التعاون في السياسة والاقتصاد والتجارة والثقافة والتكنولوجيا والشؤون الدولية أثناء العمل على تقدم السلام والتنمية». ومنذ ذلك الحين، عمل المنتدى كآلية مهمة لتسهيل التجارة والتعاون بين الجانبين. (وقد شارك كاتب هذه السطور في مؤتمر عقده مركز الدراسات الصيني - العربي التابع للمنتدى الصيني - العربي في نيسان 2019).
إذا كان انطلاق العلاقات الصينية - السعودية مديناً للصواريخ الصينية، فإن ما أعطى لهذه العلاقات قوة الدفع والديمومة والاستمرار على مدى السنوات الثلاثين الماضية هو النفط


وفي خطوة تحمل الكثير من الدلالات وتعكس أهمية الصين بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، كانت بكين المحطة الأولى في أول رحلة خارجية قام بها الملك عبد الله بعد تتويجه ملكاً في عام 2005. كانت الرسالة شديدة الوضوح: الرياض تتطلّع إلى الشرق، وليس إلى الغرب. وقّع عبد الله خلال هذه الزيارة، في كانون الثاني 2006، العديد من الاتفاقيات الرئيسية حول التعاون في مجال الطاقة. بدوره، ردّ الرئيس الصيني هو جينتاو على زيارة الملك عبد الله بزيارة مماثلة إلى الرياض في نيسان 2006، أعقبتها زيارة ثانية إلى المملكة في شباط 2009، وبعد قرابة ثلاث سنوات، قام رئيس مجلس الدولة، رئيس الوزراء، ون جياباو بزيارة إلى الرياض في كانون الثاني 2012 حيث كانت مشاريع الطاقة على رأس جدول أعماله، والشروع في هذا المجال في مشاريع مشتركة بين البلدين، وأبرزها بناء مصفاة بقدرة 400 ألف برميل في اليوم في ميناء ينبع على البحر الأحمر، وهو علامة مبكرة على محاولة تعميق علاقة استندت في السابق إلى معادلة بسيطة هي إنتاج السعودية للنفط لكي تستهلكه الصين.
هذا التطور في مأسسة العلاقات بين البلدين توّج من خلال زيارة دولة هي الأهم على الإطلاق، والتي قام بها إلى الرياض الرئيس شي جين بينغ في كانون الثاني 2016 ضمن جولة إلى المنطقة شملت مصر وإيران، وكان من الواضح تركيز الصين تحت قيادة الرئيس شي بشكل أكبر على المنطقة عامةً وعلى الخليج خاصةً، تأكيد يتجاوز المصالح الاقتصادية البحتة، وهذا ما ظهر بشكل جلي من خلال إصدار الحكومة الصينية عشية زيارة الرئيس شي «ورقة السياسة العربية» التي تؤكد فيها أنه، بجانب التجارة والاستثمار، تدعو الحاجة إلى تعزيز الجوانب السياسية والثقافية والأمنية بين الصين والدول العربية.
وأحدثت زيارة الرئيس شي إلى الرياض نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين، من خلال التوقيع على اتفاقية «شراكة استراتيجية شاملة» وهي أعلى مستوى في التسلسل الهرمي في العلاقات الدبلوماسية الصينية، وهذا يعني ارتفاعاً في مكانة المملكة لدى الصين باعتبارها من بين أهم شركائها في الشرق الأوسط، حيث تطورت العلاقات السياسية بينهما بشكل مطّرد ونمت من علاقة ذات أهمية هامشية في الماضي القريب إلى «شراكة استراتيجية شاملة» في الوقت الحاضر. وقد عبّر البيان المشترك في ختام زيارة الرئيس شي إلى الرياض عن التزام البلدين بتعزيز «التعاون القوي في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية والإنسانية والعسكرية والأمنية والطاقة».
وعلى هامش قمة العشرين التي انعقدت في الصين في آب 2016، وشارك فيها نائب وليّ العهد حينها محمد بن سلمان، أنشأت الدولتان آليّة ثنائية، وهي اللجنة المشتركة بين الصين والسعودية رفيعة المستوى (HLJC) لتفعيل اتفاقية الشراكة الشاملة، وكانت اللجنة برأسين: عن الجانب الصيني نائب رئيس الوزراء تشانغ غاولي، وعن الجانب السعودي وليّ العهد محمد بن سلمان، واجتمعت هذه اللجنة لاحقاً وكان من ثمرتها التوقيع على سلسلة بلغت 15 اتفاقية ومذكرة تفاهم شملت الطاقة والتعدين وتطوير الإسكان والتعاون الثقافي.
وأعقب ذلك قيام الملك سلمان بن عبدالعزيز بزيارة دولة إلى الصين في آذار من العام التالي 2017، وقّع خلالها على ما لا يقلّ عن 21 اتفاقية في مجالات مختلفة.
واستكمالاً للتقدم المطّرد في مسيرة العلاقات الصينية - السعودية، قام وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بزيارة إلى بكين في شباط 2019 في إطار جولة آسيوية. كانت هذه أول رحلة خارجية كبيرة لوليّ العهد منذ مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في تركيا في تشرين الأول 2018 وما جلبته حادثة الاغتيال من أجواء عزلة على وليّ العهد السعودي في الأوساط الغربية، لم يثر أحد من المسؤولين الصينيين الذين التقاهم محمد بن سلمان خلال الزيارة قضية خاشقجي أبداً، ووصف كلا الجانبين العلاقة بأنها خالية من المشاكل، ووقّعت اتفاقية لبناء مجمع للتكرير والبتروكيماويات في محافظة لياونينغ في شمال شرق الصين، كمشروع سعودي صيني مشترك، وكذلك العديد من الصفقات الأخرى.
والأهم من كل ذلك، تشديد ولي العهد علناً على أن «للصين الحق في اتخاذ تدابير لمكافحة الإرهاب والتطرف لحماية الأمن القومي»، في إشارة واضحة إلى الأحداث في إقليم شينغيانغ وهو منطقة حكم ذاتي في شمال غرب الصين تعيش فيه أقلية الأيغور المسلمة، وتشهر الدوائر الغربية، وخاصةً الأميركية، دائماً ورقة مظالم الأيغور بوجه الصين. صدور هذا الموقف عن ولي العهد السعودي له أهميته بالنسبة إلى الصين كون الملك السعودي يحمل أيضاً لقب خادم الحرمين الشريفين.
وعلى هامش الزيارة، ورغبةً من الطرفين الصيني والسعودي بتفعيل الروابط بين الشعبين لتتعدّى الأجهزة والدوائر الحكومية، أعلن ولي العهد محمد بن سلمان عن مبادرة لإدراج اللغة الصينية وتدريسها في مناهج التعليم العام في المدارس والجامعات في المملكة، وتبعاً لذلك افتتح معهد كونفوشيوس في جامعة الملك سعود في الرياض في حزيران 2019، وسيوفر المعهد دورات اللغة الصينية بالإضافة إلى تعزيز الثقافة والتواصل بين شعبَي البلدين.
هذه الزيارة بالذات لولي العهد إلى بكين والملابسات التي أحاطت بها بعد اغتيال الصحافي خاشقجي، تكشف لنا أن الكيمياء بين القيادتين الصينية والسعودية هي على ما يرام، وبلحاظ التفاوت الكبير في حجم القوة بين طرفَي المعادلة، يمكننا الحديث عن انجذاب وإعجاب سعوديين بـ«النموذج الصيني»: دولة قوية تركز على التنمية الاقتصادية مع السيطرة المشدّدة على الإصلاح السياسي، ناهيك عن ضيق القيادة السعودية ذرعاً بالحملات الأميركية للتبشير بنشر الديموقراطية والمحاضرات التي لا تتوقف عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.

الطاقة والاقتصاد: شراكة بلا حدود
إذا كان انطلاق العلاقات الصينية - السعودية مديناً للصواريخ الصينية، فإن ما أعطى لهذه العلاقات قوة الدفع والديمومة والاستمرار على مدى السنوات الثلاثين الماضية هو النفط، حيث تعمقت العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين البلدين، وبفضل تدفق هذا النفط، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للسعودية في منطقة الشرق الأوسط. إذ يستثمر كلا البلدين بشكل كبير في اقتصاد بعضهما البعض، فعلى سبيل المثال، تعدّ الصين أيضاً الشريك التجاري الأكبر لصناعة الكيماويات في السعودية، حيث تستحوذ على ما يقرب من ربع صادرات المملكة من هذا القطاع. ووفقاً لصحيفة «فايننشال تايمز»، تتصدّر المملكة قائمة الاستثمارات الصينية المعلنة في دول الخليج العربي، حيث فاقت قيمتها 100 مليار دولار على مدى السنوات العشرين الماضية.
علاوةً على ذلك، أدّت الاستثمارات الجديدة التي ضخّها البلدان إلى زيادة التبادل التجاري بينهما، وازدادت مشاركة بكين الاقتصادية مع السعودية بشكل أكبر خلال السنوات الماضية. ومع شروع البلدين في مأسسة العلاقات بينهما، كما مرّ معنا من قبل، كانت المبادرات في الغالب تأتي من الجانب الصيني وتقابل بانفتاح سعودي عليها، ولعل أولى هذه المبادرات إنشاء الصين لمنتدى التعاون الصيني العربي (CASCF) في عام 2004، ثم تلاها إطلاق الرئيس الصيني شي، بعد صعوده إلى السلطة، مبادرة «حزام واحد طريق واحد» (OBOR) في عام 2013. وفي خطابه أمام المؤتمر الوزاري السادس للمنتدى الصيني - العربي المنعقد في عام 2014، اقترح الرئيس شي نموذج «1+2+3» للتعاون مع الشرق الأوسط. ونظراً إلى أهمية هذه الوثيقة أعيد إدراجها ضمن «ورقة السياسة العربية» التي نشرت عشية الجولة الشهيرة التي قام بها الرئيس شي إلى الشرق الأوسط في كانون الثاني 2016.
في هذه المعادلة، يمثّل كل رقم وجهاً مختلفاً من التعاون تريد الصين التركيز عليه في انخراطها الاقتصادي في الشرق الأوسط، في هذا يمثّل «1» الطاقة، ويرمز «2» إلى إنشاء البنية التحتية والتجارة والاستثمار، بينما يشير «3» إلى الطاقة النووية والأقمار الصناعية والتكنولوجيا والطاقة المتجددة.
نحن هنا أمام ديناميات جديدة وإرادة سياسية عليا تنطلق من حجم وأرقام التجارة الثنائية بين الصين والسعودية والتي تنطوي على مبالغ ضخمة، وثمة اهتمام كبير لدى كلا البلدين بتطوير الاستثمارات والعلاقات التجارية الأخرى التي تتجاوز التجارة في النفط. وأعربت السعودية عن اهتمامها الكبير بالانضمام إلى مشروع البنية التحتية في الصين ومبادرة «الحزام والطريق». بمعنى آخر، يسعى كل طرف منهما إلى تطوير التعاون الاقتصادي بما يخدم مصالحه المستقبلية. فعلى سبيل المثال، تبيع الصين المعدات والخدمات الصناعية والإنشائية والسلع والمنسوجات والإلكترونيات والمواد الغذائية، بينما تظل قائمة الصادرات السعودية إلى الصين مقتصرة على مواد محدودة جداً، إذ يتكون أكثر من 95 في المئة من واردات الصين من المملكة في عام 2021 من زيوت البترول والبلاستيك والمواد الكيميائية العضوية. باختصار، اعتماد شبه كامل على الوقود الأحفوري، وفي عالم يبدو أكثر من أي وقت مضى يتهيّأ لمستقبل ما بعد الهيدروكربونات، تجد السعودية نفسها في ضعف كبير على المدى الطويل.
لتفادي هذا العطب، طرحت «رؤية 2030»، وهي عبارة عن برنامج تنويع اقتصادي كبير مصمّم لبناء نموذج اقتصادي لمرحلة ما بعد الريع النفطي في المملكة مع توقع ستة ملايين وظيفة جديدة، يستهدف البرنامج ثمانية قطاعات لتطويرها: التعدين والبتروكيماويات والتصنيع والتجزئة والبيع بالجملة والتجارة والسياحة والضيافة والرعاية الصحية والتمويل والبناء.
هل ثمة إمكانية للمواءمة بين «مبادرة الحزام والطريق الصينية» (OBOR) و«رؤية 2030» السعودية؟ هذا ما يؤكده الطرفان بكل قوة، حيث عُزّز التعاون واستحدثت آليات التنسيق الثنائية لخلق هذا التزامن بين «مبادرة الحزام والطريق» و«رؤية 2030» وقد أثمر ذلك تعاوناً مهماً في العديد من المجالات الاقتصادية والاستثمارية.

* أستاذ السياسات الدولية في الجامعة اللبنانية