على مدى شهر كامل، ما بين نهاية أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر 1934، التقى ديفيد بن غوريون وزئيف جابوتنسكي 16 مرة في محاولة لحل الخلافات العميقة والحادّة التي عصفت بجناحَي الحركة الصهيونية. وفيما تُوّجت اللقاءات بينهما بما عُرف لاحقاً بـ«اتفاقية لندن» في 26 تشرين الأول/ أكتوبر، إلا أن رفض «الهستدروت» («الاتحاد العام للعمّال» الصهاينة) المصادقة على الاتفاقية لاحقاً دفع بالخلاف للاستمرار بين التيارين لسنين لاحقة، ليرثه مناحيم بيغن عن جابوتنسكي، بعد عام 1940، ويصل في بعض الأحيان إلى حدّ الصدام المسلح. آخر هذه الاشتباكات كان ما يعرف بحادثة السفينة «آلتالينا» في حزيران 1948– أصدر بن غوريون حينها الأمر لإسحاق رابين ويغال ألون، قادة البلماح («قوات النخبة» في عصابة «الهاغانا») بإطلاق النار (وقذائف المورتر) على سفينة الأسلحة التي استقدمها بيغن ومناصروه من عصابة «الأرغون» من فرنسا، وتحصّنوا داخلها في رفض لقرار بن غوريون بتسليمها، ما قاد إلى اشتباك قُتل فيه ما يقرب من العشرين مستوطناً من الطرفين، وصفه شموئيل كاتس، كاتب سيرة جابوتنسكي ومستشار بيغن لاحقاً، بأنه كان يهدف أساساً إلى تصفية بيغن.

كان الخلاف عميقاً منذ البداية لدرجة أن بن غوريون وصف جابوتنسكي مراراً وفي مناسبات علنية بـ«فلاديمير هتلر»، مستدعياً اسمه الروسي، وسيصف بيغن لاحقاً أيضاً بأنه «من النوع الهتلري»، في رسالة شهيرة إلى الشاعر حاييم غوري في 15 أيار 1963، وعمل جاداً على استثنائه من التوقيع على ما يسمى «وثيقة الاستقلال». أمّا جابوتنسكي، الذي رفض بن غوريون كـ«رئيس وزراء» مراراً إحضار بقاياه بعد موته لتُدفن في فلسطين، حتى فعلها ليفي أشكول بعد أكثر من عشرين عاماً، فلقد وصف «مباي» (حزب بن غوريون «الاشتراكي الصهيوني») بـحزب «الصليب الأحمر المعقوف»، في إشارة أيضاً إلى نازيّتهم. وخلال هذا الخلاف الطويل والعميق والدامي أحياناً، كان التحذير من الحرب الأهلية بين المستوطنين في فلسطين، أو حتى توصيف بعض ما جرى بينهم من صراعات بالحرب الأهلية فعلاً أمراً شائعاً (تضمّن الصراع اختطافات، اعتقالات، واشتباكات مسلحة، وخصوصاً أثناء ما سمّته عصابة الأرغون «فصل الصيد» في أعقاب اغتيالهم اللورد موين في القاهرة في نوفمبر 1944). ولأنه يتم أحياناً استدعاء بعض هذا التاريخ بطريقة لا تاريخية وسطحية (وغبية أحياناً) لتفسير حاضر الخلاف الدائر الآن في الكيان الصهيوني، والذي يجري في سياق سياسي واجتماعي مختلف ولحظة تاريخية (إقليمياً ودولياً) مختلفة، من الضروري فهم أو توصيف طبيعة هذا الخلاف؟ والأهم، علاقته بالصراع العربي-الصهيوني، وأين يقع الفلسطينيون والعرب فيه ومنه؟

خلاف داخل الصهيونية، لا عليها
في تموز/ أغسطس 1940، أقامت «الوكالة اليهودية» في مقرها في لندن حفل تأبين لزئيف جابوتنسكي الذي توفي قبلها بأيام في نيويورك. بعض كلمات التأبين التي قيلت يومها كانت كاشفة جداً لطبيعة الخلاف الذي ساد لسنين بين طرفَي الحركة الصهيونية (واستمر لاحقاً مع ورثة جابوتنسكي). فهكذا، مثلاً، رثا بن غوريون أشرس خصومه: «مأساة جابوتنسكي الكبرى، ومأساة الحركة الصهيونية، هي أنه بينما رأى النهاية بوضوح، فقد فشل في رؤية الوسائل لتحقيق هذه الغاية. أظن، وأخشى، أن هذا الفشل قد دمّر إلى حد كبير (ما كان ممكناً أن يكون) مسيرة عظيمة في الصهيونية» (الترجمة بتصرف).
لم يختلف بن غوريون مع جابوتنسكي في الهدف، إذاً، بل اتفق معه تماماً، فهو (أي جابوتنسكي) «رأى النهاية بوضوح»، كما قال. الخلاف كان على الوسائل لتحقيق الهدف. كلاهما كان صهيونياً وعقائدياً، والخلاف لم يكن على الصهيونية أو حتى عابراً لها، بل خلافاً داخل الصهيونية، وحول متطلبات وإدراك طبيعة اللحظة السياسية والتاريخية وحال المنطقة والعالم وتأثير كل ذلك في إدارة تلك المرحلة من مشروع استيطان فلسطين وتشريد شعبها.
هذا يتضح أكثر في كلمة حاييم وايزمن، رفيق جابوتنسكي منذ عام 1916. فهذا الصهيوني الذي «احترق بنار مقدّسة»، بحسب وصف وايزمن، «لطالما كان دافعه فكرة واحدة عظيمة، وهي إيجاد حل للمشكلة اليهودية في أسرع وقت ممكن. (لكن) السرعة التي أراد بها تحقيق مثل هذا الحل هي التي ميّزت جابوتنسكي عن غيره، وسيحكم التاريخ إذا ما كان جابوتنسكي أم المنظمة الصهيونية على صواب. ففي رأيه، لدينا وقت محدود فقط يمكن خلاله تنفيذ برنامجنا. قد يكون هذا صحيحاً أو قد لا يكون كذلك. لكن، أجبرتنا عوامل وأحداث مستقلة عن رغبات الشعب اليهودي على اتباع طريق قد يكون صعباً وقبل كل شيء بطيئاً» (1).
أن يكون الصراع داخل الصهيونية، لا عليها أو حتى عبرها شيئاً، وأن تكون النتيجة واحدة في كل الأحوال، برغم من ينتصر منهم، شيئاً آخر. لم تكن النكبة حتمية، ولم يكن تحقق المشروع الصهيوني في استيطان فلسطين حتميّاً. وما قصده وايزمن بادعائه أن «التاريخ هو الذي سيحكم» تشارك فيه مع بن غوريون في إدراك أولوية اللحظة السياسية على كل ما عداها – كان وايزمن وبن غوريون يدركان جيداً أن تحقيق تلك المرحلة من المشروع (استيطان فلسطين وتشريد شعبها)، ولاحقاً استمرار المشروع ذاته، غير ممكن، بل ومستحيلاً، بالقدرات الذاتية الصهيونية، وأنه بدون اندماجهم واندماج المشروع الصهيوني كلياً في السياسة الإمبريالية والمنظومة الإمبريالية الغربية (كما يفيد وعد بلفور) فإن الفكرة الصهيونية ستظل مجرد خرافة خرقاء غير ممكنة التحقق، كما هي في الحقيقة لو كانت مجرد مشروع يهودي وليس مشروعاً إمبريالياً غربياً. لكن هذا لا يهم الآن كثيراً، إلا للمؤرخين ربما، فنحن نعرف النتيجة ونحن ضحيتها. المهم هو كيف (وماذا يعني أن) يكون تيار جابوتنسكي وبيغن في خلاف مع تيار بن غوريون ووايزمن في لحظة تاريخية وسياسية واجتماعية محددة يختلف ويتشابه مع الخلاف الراهن بين بعض أطراف صهيونية يصعب توصيفها بدقة كورثة الطرفين، أنتجتها تحولات 75 عاماً من الاستيطان. هذه التحولات يَفترِض إدراكها بعمق متابعة دقيقة لتحولات الاجتماع الصهيوني وتبعاتها السياسية المحتملة (ولا يكفي من أجل ذلك أن تعرف العبرية أو تركيبة وطريقة عمل الكنيست، حتى لو كنت يوماً ما عضو كنيست)، لأن المسألة ليست تقنية أو قانونية أو بيروقراطية (وهو ما سيكون موضوع الجزء الثاني لهذه المحاولة)، وليس فقط إدراك طبيعة الحالة الإقليمية والدولية على أهميتهما القصوى.
نتيجة هذا الصراع حُسمت في المحصلة لصالح البنغوريونيّة التي لم تبنِ المستعمرة الصهيونية على شاكلتها فقط، بل وأعادت تشكيل خصمها الأساسي على صورتها لاحقاً، وربما يكون قد حسم نجاحها (حتى الآن) أربعة أسباب أساسية. أولاً: أنها تمكنت من التأسيس لهيمنة سياسية في ما يسمى «الييشوف»، هيمنة كانت ممكنة بفعل البنية الاجتماعية للمستوطنة (ديموغرافياً، ثقافياً، عرقياً، دينياً، الخ)، ومشروطة كلياً بالنجاح في العوامل الأخرى. ثانياً: الاندماج الكلي والعضوي في المشروع الإمبريالي الغربي والسياسة الغربية، أو باختصار الاندماج في المنظومة الغربية التي كانوا يراهنون على هيمنتها الدولية والإقليمية مستقبلاً. ثالثاً: العمل على، والنجاح في، دمج الجاليات اليهودية ونخبها في الغرب في السياسة الخارجية الغربية (وخصوصاً الأميركية)، حتى ولو كانت على حساب بعض الجماعات اليهودية ذاتها – كان على النخبة اليهودية الصهيونية الأميركية، مثلاً، في سياق اندماجها في النخبة الأميركية والسياسة الخارجية الأميركية أن تُسَوِّق لمن نجا من الهولوكوست ولعائلات الضحايا (وحتى تفرض عليهم) أهمية تبني العداء للشيوعية والاتحاد السوفياتي (الذي حررهم من المعسكرات النازية) حتى على حساب التوقف عن متابعة سياسة اجتثاث النازية في ألمانيا، التي قرر الغرب التوقف عنها. رابعاً، هذا الاندماج الصهيوني في المنظومة الإمبريالية الغربية، بغضّ النظر عن موقع الكيان السائل والمتغير فيه عبر السنين بحسب أدائه الوظيفي، تضمن أيضاً إدراك ترابط المصلحة الإمبريالية الغربية ووجود الكيان من جهة والتنظيم الاستراتيجي للمنطقة العربية وجوارها من جهة أخرى (بما يتوافق والمصلحة الإمبريالية والصهيونية). فليس فقط أن المنطقة مهمة جداً للمصالح والاستراتيجية الإمبريالية في العالم وأن للكيان المندمج فيها دوراً مهماً في ضمانها، بل إن حتى وجود الكيان ممكن، وبقاءه مشروط، فقط وفق ترتيب إقليمي جوهره تقسيم وإضعاف المنطقة العربية لصالح المشروع الإمبريالي. هذا كان ممكناً عبر التقاء، وحتى اندماج، المصالح الهائلة لبعض الشرائح العربية التي استولدتها التجزئة، وأصبح وجودها ومصالحها مشروطين أيضاً ليس فقط بالتنظيم الاستراتيجي الإقليمي ذاته، بل وحتى بوجود وبقاء الكيان وضمان المصالح الإمبريالية الغربية.
وبرغم أهمية العاملين المحلي والدولي، إلا أن العامل العربي (والإقليمي) كان مهماً جداً ولا يزال. فالوطن العربي، (مساحته 13.487.819 كلم2، تعادل 1.4 مرة مساحة الولايات المتحدة، بناتج محلي إجمالي بقياس يعادل القوة الشرائية 5.818 تريليون دولار (عام 2020) أو 16 ضعف الكيان الصهيوني برغم نهب الأول ودعم الثاني، وعدد سكان 430 مليون إنسان، 61 ضعف عدد المستوطنين اليهود في فلسطين) يمكن أن يخيف المنظومة الغربية مجتمعة، وليس الكيان فقط – ثم يأتيك من يخيفه بن غفير التافه. هذا الارتباط البنيوي بين الحالة العربية والقضية الفلسطينية هو ما يجعلها عربية أساساً وأولاً وأخيراً، ولهذا فإن استعمار فلسطين مشروط بخراب وفشل الوطن العربي.
غير ذلك، لم تكن المستعمرة التي أسّسها بن غوريون ومعسكره ممكنة. هذا ما أدركه بن غوريون ووايزمن مبكراً وساهم في انتصارهما على عصابة جابوتنسكي. قد يبدو تيار جابوتنسكي وعصابته أكثر وحشية على مستوى الخطاب (كما قد يبدو بن غفير وسموتريتش صاحب مشروع محو العرب هذه الأيام)، لكن السياق العالمي (النظام العالمي والهيمنة الغربية ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية) والإقليمي (تقسيم الوطن العربي)، وأيضاً المحلي (الاجتماع الصهيوني) لم يؤدّ فقط إلى غلبة الأول، بل إلى كشف مدى وحشيته وكيف يمكن أن يكون أكثر فتكاً حين شكّل رأس حربة مشروع الإبادة الشامل الذي واجهه الفلسطينيون.

المشهد من الخندق الفلسطيني: الإبادة الشاملة
.... جاء في «القدس: مدينة بلا أسوار»:
في يوم الأربعاء، 7 حزيران/ يونيو 1967، أثناء عبور قوة من المظليين الإسرائيليين في الأزقة الضيقة للمدينة القديمة في القدس، اقترب إتيان بن موشيه (ضابط هندسة في القيادة المركزية)، من (شلومو) لاحات (المرشح لمنصب الحاكم العسكري للقدس حينها)، واقترح عليه إزالة (ما سمّاه) «المرافق» القريبة من «حائط المبكى». ثم أشار بن موشيه (لـِ لاحات) إلى أن موشيه ديان («وزير الدفاع» حينها) كان قد طلب من لاحات، قبل قدوم الأخير إلى القدس، بأن يقوم بفتح ممرات إلى «حائط المبكى» حتى يتمكن 200 ألف يهودي من زيارته خلال عيد «شبوعوت» القادم. كانت «المرافق» التي أشار إليها بن موشيه جزءاً من حي المغاربة الذي كان يسكن فيه 135 عائلة (عربية). لقي اقتراح بن موشيه ترحيباً (من لاحات).
«في اليوم التالي (8 حزيران) وصل ديفيد بن غوريون (رئيس وزراء الكيان السابق)، برفقة تيدي كوليك (رئيس بلدية «القطاع اليهودي» من القدس)، جاكوب يناي (مدير سلطة الحدائق الوطنية) وعدد من الحُراس، لزيارة «حائط المبكى». أمر بن غوريون أحد الحراس بإزالة اللافتة الأردنية عن الحائط التي وصفته بـ»البراق». ثم تحول بن غوريون فجأة إلى يناي قائلاً: «ألا تشعر بالإذلال من وجود هذه المرافق بالقرب من السور؟ «نحن هنا منذ الأمس فقط»، قال يناي. فردّ بن غوريون: «حتى ولو كان ذلك صحيحاً، هذا لا يُطاق». (على الرغم من وضعه كرئيس وزراء سابق، لم يكن لدى بن غوريون أي سلطة تؤهله للأمر بتغيير الوضع الراهن وبشكل تعسفي في مكان مقدس)» (الترجمة بتصرف) (2).
بعدها بيومين (مساء 10 حزيران) كان ضباط من الجيش الصهيوني ينتقلون من منزل إلى آخر في حي المغاربة و«يأمرون» سكانه بإخلائه، وحين رفض السكان ذلك، (وحتى دفعهم حبهم لبيوتهم إلى البكاء)، كرّر الضباط الأمر بالإخلاء مع إعطائهم مهلة زمنية محددة وقصيرة هذه المرة (3 ساعات). بعدها بقليل قامت وحدة من «جنود الاحتياط» بطرد معظم السكان بالقوة، ثم أمر بن موشيه سائق الجرافة الاقتراب من المنازل التي ما زال سكانها يرفضون الخروج منها لترهيبهم. وعندما بدأت الجرافة في تحطيم الجدران على رؤوس سكانها، خرجت عائلتان مفزوعتان. لكن ربّ أسرة ثالثة أعلن أنه لن يغادر منزله، فقام بن موشيه بتهديده بالجرافة وبدأ بتدمير منزله وهو في داخله، فخرج الرجل باكياً – سنعرف لاحقاً أن الجنود لم يستطيعوا إخراج البعض بالقوة لتشبثهم بشبابيك بيوتهم بقوة لأن جثثهم وُجدت لاحقاً بين الأنقاض على هذا الحال.
التحوّلات التي طرأت على العامل المحلي (الاجتماعي – ديموغرافياً، ثقافياً، دينياً، عرقياً، الخ) خلال 75 عاماً لا تبشّر أيضاً بأفق ومستقبل مماثل لما كان عليه الحال خلال الصراع الأول


كان بن موشيه، وكوليك، وباقي الطاقم الذي أشرف وخطّط ونفّذ العملية، التي بدأت باقتراح لإزالة جزء من الحي في السابع من حزيران وتطورت في اليوم التالي لإزالة الحي كله، يعرفون جيداً أن «عملهم لم يكن مدفوعاً بأي اعتبارات أمنية أو تخطيط/ هندسة المدن»، هذا عدا أنه لم يكن لديهم أصلاً السلطة أو الاختصاص، ولا حتى القرار الواضح، لتدمير وإزالة حي كامل تعادل مساحته 116 ألف متر مربع ويشكل أكثر من ٥% من مساحة القدس. فحتى الحاكم العسكري للمنطقة حينها، أوزي ناركيس، كان يعرف أنهم يرتكبون جريمة حرب مكتملة الأوصاف ولهذا تعمّد عدم سؤال مسؤوليه المباشرين الذين كان يعلم بموافقتهم، حتى «لا يحرجهم» أو يورطهم في المسؤولية. وحين طلب منه شلومو لاحات، «الحاكم العسكري الصهيوني للقدس» وأحد مرؤوسيه، إقرار خطة الهدم، أشار على الخطة بملاحظة: «استمر ولا تسأل أي أسئلة». أمّا تيدي كوليك، الذي كان يَعرف أنه يشرف على عملية تطهير عرقي لحي كامل عمره يقرب من الألف عام وتتشابك فيه طبقات متعددة من التاريخ والحضارات والثقافات والعمران تعود إلى القرن الثامن (سبقت حتى بناء الأيوبيين للحي في القرن الثالث عشر)، فكان قد اتصل بمكتب وزير العدل لسؤاله وإبلاغه بالخطة. لم يكن الوزير «متوفراً» كما ادعى مكتبه (على الأغلب حاول التهرب من تحمل المسؤولية عن جريمة من هذا النوع)، لكن مدير مكتب الوزير، جيكوب شمشون شابيرا، أجاب بأنه «غير متأكد من الموقف القانوني (للعملية)»، ولكن «قوموا بما يجب عليكم القيام به بسرعة، وليكن ربّ إسرائيل معكم».
بسبب ذلك، واستباقاً لاحتمال إثارة أسئلة أو حتى استفسارات عن ارتكابهم لجريمة حرب واضحة وموصوفة في اليوم التالي، ليس فقط في القدس، ولكن بالذات على أعتاب المسجد الأقصى، وبالضبط إلى حيث أُسْرِيَ بالنبي العربي محمد ومن حيث عَرَجَ قبلها بألف وأربعمئة عام، قرروا استكمال تنفيذ العملية في تلك الليلة وعدم الانتظار. وفي مساء العاشر من حزيران، بدأت الجرافات الإسرائيلية (كما يروي «الإسرائيليون» أنفسهم) بـ«جرف البيوت العربية في حي المغاربة صفاً بعد آخر إلى أن لم يبق أي مبنى قائماً في مكانه». هذا حصل في قلب القدس في اليوم الأول لاحتلالها.
في ذلك المساء أيضاً، وبينما كانت جدران أحد البيوت تتساقط أمام الجرافات، تكشف أحد البيوت المهدمة عن امرأة عربية في منتصف العمر. كانت السيدة فاقدة الوعي، فتم نقلها ووضعها كما هي على سريرها في العراء تماماً، وسط الركام وَسُحُب الغبار التي كانت تثيرها الجرافات التي كانت لا تزال تدمر البيت تلو الآخر. بحلول منتصف تلك الليلة، كانت الحاجّة رسمية علي الطباخي، التي تشبثت ببيتها المقدسي للنفس الأخير، قد فارقت الحياة.

اختراع «إسرائيل» محو فلسطين
في القرن العشرين، كان المشروع الغربي والصهيوني يهدف إلى «إعادة بناء»، أو «إعادة تشكيل»، أو «إعادة تأسيس» فلسطين كدولة «إسرائيل». لكن ذلك لم يتطلب ويفترض محواً منهجياً وإلغاءً تاماً لفلسطين الحقيقية فحسب (كما حصل في حي المغاربة، الذي يشكل نموذجاً لما حدث منذ النكبة وما بعدها كما سنرى)، بل تطلب وافترض أيضاً محو وإلغاء فكرة فلسطين ذاتها ومحو تاريخها الطويل. إلا أن المعضلة التي واجهتها الحركة الصهيونية ورعاتها الغربيون في فلسطين كانت نابعة من العبثية المطلقة للادعاء الصهيوني بأن «تاريخ فلسطين هو فقط تاريخ اليهود في فلسطين». فلا يمكن لأي مؤرخ أو عالم آثار جاد وجدي يحترم نفسه وعقله، ويعرف قليلاً فقط مما يتوفر من جبال من الأدلة، أن ينكر، حتى لا نقول لا بد أن يكون مقتنعاً تماماً، ليس فقط أن التاريخ اليهودي في فلسطين هو مجرد لحظة وجيزة للغاية في تاريخ أطول بكثير لفلسطين (ستون عاماً قبل ألفي عام، سبقتها أربعة آلاف عام أخرى من التاريخ الطويل والغني). ولكن أيضاً، أنه حتى مثل هذا التاريخ، قصير جداً كما كان، لم يكن مطلقاً حدثاً فريداً في تاريخ فلسطين الطويل. على العكس من ذلك، كان هذا التاريخ الوجيز في فلسطين مجرد تكرار لنمط اجتماعي اقتصادي حدث مراراً وتكراراً في تاريخ طويل جداً ونتج منه حضارات وثقافات وتقاليد عديدة ومتعددة ربما يكون التاريخ اليهودي أقلها أهمية وأقلها استدامة– على مدار أكثر من ستة آلاف عام من التاريخ بالحد الأدنى. هذا عدا أن الصراع الراهن هو صراع حديث بين العرب، أصحاب الأرض الأصليين، وحركة استعمارية استيطانية أوروبية حديثة (كغيرها من الحركات الاستعمارية الأوروبية)، والتاريخ القديم الذي يستخدم كأداة لتبرير الإبادة الثقافية والسياسية للعرب في فلسطين، هو أداة في صراع حديث.
لكن، من أجل نجاح الادعاء الصهيوني والسردية الصهيونية كان يتوجب أن يُستثنى كل تاريخ سبق العصر البرونزي المتأخر، أي إلغاء ومحو أكثر من أربعة آلاف عام من الحضارات الإنسانية والتاريخ الثقافي الذي سبق القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ثم يقفز من نهاية العصر الروماني إلى الصهيونية الحديثة، التي ولدت في أوروبا، وليس في فلسطين، فيلغي ويمحو ألفي سنة أخرى من التاريخ. وعليه، ليس لفلسطين تاريخ نطوفي، عموري، كنعاني، يبوسي، حثي، بيزنطي، عربي إسلامي (راشدي، أموي وعباسي)، أيوبي، فاطمي، مملوكي، عثماني (ومصري وأردني لاحقاً)، على الرغم من أن كل واحد منها قد استمر لفترة أطول بكثير، وفي البعض الآخر، أطول بعشرات المرات.
لذلك، بينما كانت الجرافات والديناميت «الإسرائيلية» تقوم بمحو فلسطين الحقيقية من الوجود وبناء «إسرائيل» مكانها وعلى أنقاضها، بدأ أيضاً ظهور ما يسمى «إسرائيل المبكرة» في الأعمال التاريخية، الأدب، الفن، الأركيولوجيا، الأبحاث الأكاديمية، وحتى الصحافة أيضاً لمحو فلسطين من التاريخ. احتاجت فكرة «إسرائيل»، كما تم اختراعها، إلى محو فكرة فلسطين كما كانت. ورغم أن «إسرائيل» هذه لم تُذكر في القرن السابع عشر سوى في وثيقتين يهوديتين في أوروبا، ورغم أن اهتمام الباحثين اليهود أو باليهود حتى ذاك الوقت كان حال اليهود في أوروبا، ترافق غزو أرض فلسطين بغزو ما يسمى «إسرائيل» المبكرة للتاريخ والأركيولوجيا الفلسطينية. كان هذا، ولا يزال، أمراً خطيراً وجدياً جداً ليس لترافقه مع مشروع إبادة فلسطين الحقيقية، بل لكونه جزءاً أساسياً من عملية الإبادة المنهجية والشاملة التي تعرّضت لها فلسطين وفكرة فلسطين– حتى في أغلب نصوص التاريخ وعلم الآثار والأدب والصحافة والفن، الخ، التي تبدو على وجهها ملتزمة بالحقيقة والتاريخ، وحتى تدّعي أو ترى نفسها «صديقة» للحقيقة ولفلسطين الحقيقية وفلسطين الفكرة، يتم تجاهل هذه الحقيقة. في أفضل السيناريوهات الغربية المتوفرة، لا يتجاوز أفضل الادعاءات أن فلسطين تم أو يتم إسكاتها فقط، لا إلغاؤها ومحوها تماماً كجزء من مشروع إبادة أكبر بكثير حتى من «إسرائيل» ذاتها.
هناك، طبعاً، بعض التوثيق التفصيلي عن الرقابة المفروضة على الصحافة والنشر (حتى النشر الأكاديمي)، حتى لا نقول شيئاً عن الرقابة الذاتية التي يفرضها الإعلاميّون والأكاديميون على أنفسهم حفاظاً على وظائفهم ومستوى معيشتهم وعائلاتهم، وحتى على حياتهم أحياناً (بفعل طبيعة المؤسسات التي يعملون بها، معايير النشر السائدة، وبفعل البيئة العامة المعادية لفلسطين، وبفعل مسلّمات منهجية فرضها الخطاب التوراتي في الأركيولوجيا). هذا التوثيق يشير إلى أن هناك شبه إجماع غربي على ضرورة إلغاء فلسطين ومحوها. في بريطانيا مثلاً، أصبح الجميع الآن على معرفة بما كشفه كريستوفر مايهيو ومايكل آدامز منذ سنين في كتابهما «لا تنشروا: التستر في تغطية الشرق الأوسط»، ولو أردنا عرض بعض ما هو موثّق فقط فلسوف يستغرق الأمر ساعات. لكن سأعطيكم مثلاً واحداً فقط من الولايات المتحدة نبّهنا إليه الراحل إدوارد سعيد لا يكشف الرقابة الصارمة فقط، بل وطبيعتها اللئيمة جداً:
«أي كتاب «إسرائيلي» أو مؤيد لـ»إسرائيل» تتم مراجعته بشكل روتيني في صحيفة نيويورك تايمز إما من قبل «إسرائيلي» أو شخص معروف بتأييده لـ»إسرائيل». لكن، أي كتاب لمؤلف عربي أو حتى لأي شخص ينتقد «إسرائيل» تتم مراجعته أيضاً بشكل روتيني من قبل (باحث) مؤيد للصهيونية. ومنذ عام 1974، حين برزت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، لم تنشر «نيويورك ريفيو اوف بوكس»، حرفياً، أي نص لكاتب فلسطيني. ورغم أن «نيويورك ريفيو اوف بوكس» نشرت خلال عام 1978 مقالات تنتقد «إسرائيل» بشكل أو بآخر وكلها تدعم شكلاً ما من تقرير المصير للفلسطينيين، إلا أن الحاجز الحديدي أمام أن يُمَثِل الفلسطينيون أنفسهم، رغم وجود الكثيرين القادرين منهم على ذلك، ظل باقياً في مكانه» (الترجمة بتصرف) (3).
لم تكن الجرافات والديناميت والبارود، إذاً، فقط تعمل على محو فلسطين من الوجود، بل كان ذلك يترافق مع العمل على محو فكرة فلسطين وتاريخها الاستثنائي، مقارنة بأي مكان آخر على وجه الأرض، في أغلب المشاريع الفكرية والأكاديمية منذ البداية.

الإبادة الشاملة مستمرة: الجيل الصهيوني الجديد
وفي يوم أربعاء آخر، في الأول من آذار ٢٠٢٣ هذه المرة، سُئِلَ بتسلئيل سموتريتش، الحاكم العسكري الصهيوني الفعلي للضفة الغربية (رئيس حزب الصهيونية الدينية، وزير المالية، ووزير في وزارة «الدفاع») في برنامج تلفزيوني عن سبب إعجابه بتغريدة تدعو إلى محو قرية حوارة الفلسطينية. أجاب: «لأنني أعتقد أنه يجب محو قرية حوارة. أعتقد أن على «دولة إسرائيل» أن تفعل ذلك».
عبارة سموتريتش الفاشية طبعاً عبارة صهيونية نموذجية بامتياز، وليست حكراً على تيار صهيوني من دون آخر. سيموتريتش لم يخترع مفهوم الإبادة، والصهيونية كانت تمارسها ضد العرب حتى قبل أن يولد جده (يعقوب) في أوكرانيا. لكن تم تقديمها للعالم على أنها لا تمثل «إسرائيل» – فسموتريتش في النهاية، قيل للعالم، يميني متطرف، كما يتم تعريف حزبه، ولا يمثل التيار الرئيسي في الكيان، ولا يستقبله رسميو فرنسا والولايات المتحدة حين يزورهما. حسناً إذاً، كيف نفسّر تركيبة الحكومة الحالية التي هو أحد أهم أعضائها وأكثرهم صلاحية؟ كيف يمكن أن نفسّر تركيبة الكنيست الحالي المنتخب والذي حزبه جزء من الغالبية فيها؟ والأهم، كيف نفسّر النكبة، التي يعمل هذا الفاشي فقط على استكمال بعض ما فعله الجيل الذي سبقه من مستوطني أوروبا ويغرف من خزان مصطلحاته (حتى اسمه الأخير هو اسم القرية التي أتى منها من غرب أوكرانيا)؟ كيف يمكن أن نفسر دور بن غوريون (بولندي المولد) وإسحق رابين (ابن لأوكراني وبيلاروسية) الموثقة جداً في التطهير العرقي والمحو، وهما رئيسا وزراء سابقان لمرات عديدة ويمثلان تعريف التيار الرئيسي الصهيوني كما لا يمثله أحد، ويتم تقديمهما على أنهما يساريان أحياناً.
فـ بن غوريون ورابين لم يتحدثا فقط عن نفس فكرة «الإبادة» التي يتحدث عنها سموتريتش، بل قاما بها بالفعل، ووثق رابين ذلك بنفسه بالتفصيل. هناك مثلاً رسالة بن غوريون الشهيرة إلى ابنه عاموس (بتاريخ ٥ تشرين الأول ١٩٣٩)، التي أرسلها في أعقاب قرار التقسيم الصادر عن لجنة بيل في تموز ١٩٣٩، ويقول فيها بالحرف تعقيباً على القرار: «يجب أن نطرد العرب». لكن بسبب جدل غير مبرر أثير حولها بعد أن كانت لسنين غير قابلة للتشكيك سأستثنيها هنا كدليل (على رغم أن من نشرها أصلاً كان المؤرخ الصهيوني بيني موريس، الذي عتب على بن غوريون عدم استكمال طرد الفلسطينيين، واقتبسها من المصدر الأصلي غيره من المؤرخين كإيلان بابيه). سأستثنيها لأن من يجادل حول ما قصده بن غوريون، وليس إن كان قد كتبها فعلاً، فهذا مؤكد، يتصرف وكأنها الدليل الوحيد لارتكاب بن غوريون هذه الجريمة بحق العرب. في الحقيقة من بين العديد من الأدلة، سأذكر حدثاً واحداً لتوفير الوقت عليكم – حدث لا ولم يستطع أحد حتى التشكيك فيه، والأهم أنه يضرب عصفورين بحجر، بن غوريون ورابين معاً.
في سيرة إسحاق رابين الذاتية اعتراف واضح لرئيس وزراء الكيان، الذي استطاع الجمع بين سياسة تكسير العظام وجائزة نوبل للسلام، حين كان قائد اللواء المسؤول عن احتلال اللد والرملة مع يغال ألتون. ومما جاء في السيرة (الملحق A ص ٣٣٨) ما يلي:
«بينما كان القتال لا يزال مستمراً، كان علينا أن نتعامل مع مشكلة مزعجة، لم نتمكن من الاستفادة من أي تجربة سابقة لحلها: مصير السكان المدنيين في اللد والرملة، الذين يبلغ عددهم حوالي ٥٠ ألفاً... سرنا إلى الخارج (رابين ويغال ألتون مسؤولا الكتائب المكلفة باحتلال اللد والرملة)، وكان بن غوريون يرافقنا. كرر ألتون سؤاله (إلى بن غوريون): «ما العمل مع السكان؟». لوح بن غوريون بيده في إشارة تقول: «أطردوهم»» (4).

لم تكن الجرافات والديناميت والبارود، إذاً، فقط تعمل على محو فلسطين من الوجود، بل كان ذلك يترافق مع العمل على محو فكرة فلسطين وتاريخها الاستثنائي


على رغم هذا الاعتراف الواضح وإصرار رابين عليه على رغم رفض الرقابة الصهيونية نشره في الطبعة الأولى، لم يكن لدى رابين أي تعاطف مع الضحايا مطلقاً حتى بعد أربعين عاماً، كما قد يتوقع قارئ السيرة الذاتية من اعتراف مدهش من هذا النوع – أليس لهذا السبب يعترف المجرمون عادة بجرائمهم ويطلبون المغفرة؟ المدهش أكثر، وربما يتجاوز في وقاحته عبارة سموتريتش أعلاه، أن رابين لم يخجل، بعد أربعين عاماً، من إبداء تعاطفه مع المجرمين الذين نفذوا التطهير العرقي لمدينتين عربيتين، في صياغة لئيمة تفترض من القارئ أيضاً أن يتعاطف معهم:
«لحقت معاناة كبيرة بالرجال المشاركين في إجراءات الإخلاء. ضم جنود لواء يفتاح خريجي الحركة الشبابية الذين غُرِسوا في قيم مثل الأخوة الأممية والإنسانية. تجاوز إجراء الإخلاء المفاهيم التي اعتادوا عليها. كان هناك بعض الزملاء الذين رفضوا المشاركة في إجراءات الطرد. (لهذا) كانت هناك حاجة لأنشطة دعائية مطولة بعد الإجراء، لإزالة المرارة لدى بعض مجموعات حركة الشباب هذه، وشرح سبب اضطرارنا للقيام بمثل هذا العمل القاسي» (ص: ٣٨٤).
كان هذا اعتراف رابين حول مدينتين فقط، تخلله أيضاً توجيه وقح للقارئ حول أين ينبغي أن يذهب تعاطفه (ونشرت قبل أن يصافحه عرفات ومحمود عباس في واشنطن بـ ١٤ سنة). أمّا بالنسبة للنكبة، فمصادر الحكومة الصهيونية ذاتها تشير مثلاً إلى أن:
«من بين ٣٧٠ مستوطنة يهودية جديدة أقيمت بين ١٩٤٨ وبداية ١٩٥٣، أقيمت ٣٥٠ (٩٥%) منها على أملاك الغائبين العرب». وفي عام ١٩٥٤، «كان أكثر من ثلث المستوطنين اليهود في «إسرائيل» يعيشون على أملاك العرب الغائبين، وحوالي ثلث المستوطنين الجدد (٢٥٠ ألف مستوطن) استقروا في مناطق حضرية مأخوذة من العرب». وبعد طرد الفلسطينيين، «سيطر «الإسرائيليون» على مدن بأكملها مثل يافا، عكا، اللد، الرملة، بيسان، المجدل، وعسقلان، إضافة الى ٣٨٨ بلدة وقرية كاملة، وأجزاء كبيرة من ٩٤ مدينة وبلدة أخرى، تحتوي إلى حد كبير على ربع جميع المباني فيما أصبح في ما بعد «إسرائيل»، إضافة إلى ١٠ آلاف محل تجاري ومتجر تم الاستيلاء عليها من قبل المستوطنين اليهود».
وفي أحد أوائل النصوص الإسرائيلية التي صدرت في بداية السبعينات، «وثائق من إسرائيل، ١٩٦٧-١٩٧٣: قراءات لنقد الصهيونية»، يذكر إسرائيل شاحاك في الفصل الخاص به، «تقرير عن القرى العربية التي دمرتها إسرائيل»، تقريباً بالحرف ما انتظر المؤرخون الجدد أكثر من عشرة أعوام أخرى ليسردوا فقط ما ورد في بعض الوثائق «الإسرائيلية». فمن بين ٥٠٨ قرى، يذكر الكتاب أن ٤٠٠ تم محوها تماماً. «لقد دُمِّروا (القرى العربية) تماماً بمنازلها، جدران حدائقها، وحتى المقابر وشواهد القبور، حتى لم يبق حجر على حجر. ثم يُقال للزوار بعد ذلك أنها كانت كلها صحراء» (5).

محو القدس: نموذج إبادة فلسطين
لم يكن محو حارة المغاربة إذاً مجرد انحراف في السلوك الصهيوني والطبيعة الصهيونية، بقدر ما كان تصرفاً صهيونياً معيارياً ونموذجياً تماماً. فهناك أكثر من تطابق، وليس حتى مجرد تشابه، في ممارسات الاستعمار الصهيوني للضفة الغربية وقطاع غزة عام ١٩٦٧مع سياسة التدمير والمحو التي اتبعوها حتى قبل ١٩٤٨. كان غيرشون شافير في «الصهيونية والاستعمار» قد جادل بشكل مقبول، أن للاستعمار الصهيوني وممارساته بعد عام ١٩٦٧ جذوراً في المشاريع والممارسات الاستيطانية الصهيونية قبل عام ١٩٤٨ (6). وكما تعلمت في علم الاستعمار المقارن من أستاذي منير العكش، فإن مفهوم الاستعمار الاستيطاني لا يدلل فقط على خطط ومشاريع وحتى نوايا الإبادة وما تتضمنه من سلوك وحشي للأفراد أو الجماعات الاستيطانية («صدقني، فأنا أعرف سكاكينهم الطويلة جداً») (7). إضافة إلى ذلك، فإن الاستعمار (الاستيطاني في حالتنا وحالة السكان الأصليين الذين درسهم منير العكش وكان صوتهم) يدلل في كثير من الأحيان أيضاً على خطابات وممارسات التفكير «المتطور» و«الحديث» عن المحو الثقافي والإبادة والسطو المادي.
ففكرة «العودة إلى أرض الأجداد»، مثلاً، شائعة بدرجة كبيرة في التجارب الاستعمارية الاستيطانية، كما أن فكرة «أرض بلا شعب» أو «أرض عذراء» أو غيرها من المتكئات اللغوية شائعة أيضاً. في الحقيقة يصعب أن نجد أن الصهاينة قد ابتكروا شيئاً جديداً خلاقاً في نموذجهم أو حتى في طريقة تقديم مشروعهم – وغياب الإبداع هذا، على رغم العنف المفرط، هو مؤشر ضعف ومبشر زوال – كل ما يفعلونه مأخوذ حرفياً من كتاب المستعمرين الذين سبقوهم، فيما صفحات كتاب مقاومة الشعوب تراكم إبداعاً بعد آخر كل يوم. فحتى الفرنسيين ادعوا حقوقاً في الجزائر والإيطاليين في ليبيا كذلك، كما نسجوا واخترعوا روايات عن ماض روماني، أو عن بلاد الشام الفرنسية للصليبيين، وحتى الأميركيين تقمصوا دور العبرانيين في إبادة الكنعانيين واخترعوا «مدينة فوق التل»، الخ. لكن جميع هذه الحالات من الاستعمار الاستيطاني تطلبت عمليات قتل جماعي وإبادة وتطهير عرقي وثقافي ضخمة من أجل تغيير الواقع ليناسب الفكرة (سواء كانت المستعمرة قد تأسست لعقاب المجرمين ونفيهم كما كانت الحال في أستراليا أو غينيا الفرنسية، أو مستعمرات استيطانية شكلت حثالات ولصوص أوروبا طليعتها في أمكنة أخرى، أو حملات استيطانية من يهود أوروبا بمزاعم متعددة لتأسيس قاعدة متقدمة للاستعمار الأوروبي الأبيض في بلاد العرب، كما هي الحال في فلسطين). وطبعاً، بالنسبة للضحايا، لا ولن يعني شيئاً أي أسطورة تخترع، «العودة إلى أرض الأجداد»، أو «أرض بلا شعب»، أم غيرها، طالما أن المصير هو الإبادة.
كان محو حي المغاربة سلوكاً نموذجياً ومعيارياً للصهاينة. ففي اليوم التالي لإزالته من الوجود في ١١ حزيران ١٩٦٧، وقبل مولد سموترتش بأكثر من عقد من الزمن، اكتشف مردخاي ساهاز (ضابط ارتباط في مكتب الحاكم العسكري في القدس) الحي اليهودي في البلدة القديمة (وهذا الحي له قصة طويلة سأرويها في مناسبة أخرى، لكن بعكس ما توحي التسمية فإن البيوت والحي وتاريخهم وملكيتهم عربية). كان في الحي وجواره حينها حوالي ١٥٠٠ منزل عربي يسكنها حوالي ٥٣٠٠ إنسان، العديد منهم من اللاجئين الذين شردوا في ١٩٤٨. في اليوم نفسه، قامت الجرافات «الإسرائيلية» مع خبراء المتفجرات من الجيش الصهيوني بهدم مبنيين بالقرب من مدخل الحي من أجل ترهيب السكان وإجبارهم على الهرب. وحين أصر السكان على البقاء في بيوتهم، بدأت حملة هدم وإخلاء إجباري بالقوة على مدى أيام كما حصل في حارة المغاربة. لم يأخذ الأمر كثيراً من الوقت حتى أُجبر العرب بالقوة على مغادرة الحي وتم السطو عليه (8). وبعد عامين تقريباً، بحلول نهاية عام ١٩٦٩، كان الصهاينة قد هدموا ٧٥٥٤ منزلاً للعرب، وبحلول آب ١٩٧١، كان الرقم قد وصل إلى ١٦١٢٢ منزلاً عربياً. كانت هذه مجرد البداية، فلا تزال الهجمة مستمرة وتتصاعد.
ربما يمكن القول إن ما حصل في حي المغاربة هو من أكثر الأعمال الوحشية والبربرية والهمجية، كما وصف الباحث الفلسطيني عبد اللطيف الطيباوي. لكن مسحاً قصيراً جداً لتاريخ الحي يكشف عن قصور هذا التوصيف في التعبير عن خطورة ما فعله الصهاينة. فهذا الحي (وليس حتى القدس) احتوى على طبقات متعددة من التراث العربي الإسلامي الأموي منذ أوائل القرن الثامن (بعض الهياكل يعود تاريخها إلى ٧١٩ م)، العباسي (من ٧٥١ م)، الأيوبي، المغربي والأندلسي (القرن الثاني عشر)، المملوكي (القرن الثالث عشر)، العثماني (أوائل القرن السادس عشر)، وفي ما بعد المصري والأردني. وأي مسح للتاريخ المتعلق بالقدس وفلسطين، منذ إنشاء حي المغاربة فقط وما بعده، يكشف عن تاريخ وتراث وثقافات وحضارات وتقاليد متعددة الطبقات تراكمت في هذا الحي. ومن يقرأ بعض أعمال الجغرافيين والمؤرخين والفلاسفة والشعراء الذين كتبوا باللغة العربية من القرن التاسع فصاعداً، سيجد إشارات لا حصر لها عن فلسطين، وسيجد مثلها في النصوص الأوروبية المختلفة منذ العصور الوسطى حتى الوقت الحاضر. لهذا فتوصيف البربرية لا يكفي. لأنه لم يحدث أبداً في تاريخ العالم أن تمكن أي شخص أو أي جماعة من الناس، من تدمير هذا القدر الكبير من التاريخ، ومحو هذا العدد الهائل من طبقات التقاليد والثقافات والحضارات، وإزالة هذا الحجم الهائل من التراث الغني والمتعدد بضربة واحدة. الصهاينة فعلوها. هذا هو العدو الذي يواجهه العرب في فلسطين.

خاتمة: أزمة الكيان من الخندق العربي
من بن غوريون وجابوتنسكي إلى نتنياهو ولابيد، قصتنا معهم هي قصة استعمار استيطاني إبادي، وقصة صراع وجود سياسي وثقافي وحتى جسدي. لم يختلف ولم يتغير المشروع الصهيوني في جوهره، وما نراه من خلاف هو حول تقاسم الحصص في أرضنا ودمنا بين مكونات هذا المشروع، وخلاف حول إدارة (ومن يدير) المشروع وليس حوله، وخلاف حول من يخدم المشروع أفضل وأكثر. طبعاً هناك اختلاف كبير في طبيعة القوى التي اختلفت في السابق والتي تختلف اليوم. الخلاف الراهن يحدث في سياق مختلف تماماً. وعلى رغم أهمية السياق الدولي والإقليمي، الذي لا يبدو أن تحولاته ستنتج بالحد الأدنى نظاماً صديقاً بنفس القدر للمشروع الصهيوني كما في السابق، فإن التحولات التي طرأت على العامل المحلي (الاجتماعي – ديموغرافياً، ثقافياً، دينياً، عرقياً، الخ) خلال ٧٥ عاماً لا تبشر أيضاً بأفق ومستقبل مماثل لما كان عليه الحال خلال الصراع الأول. وعلى العرب، بالتالي، التفكير في كيف يجب على مشروع المقاومة المضاد أن يأخذ في الاعتبار هذا الخلاف في برنامجه، أو كيف يبني عليه ويستفيد منه فقط، وليس المراهنة عليه – أمّا من وجد نفسه، ولو للحظة بتأثير بعض المعلقين وهيمنة الخطاب الليبرالي، يتعاطف مع المعارضة الصهيونية (التي أقرت قانون القومية الإبادي) ضد الطرف الآخر، أو مع الحكومة التي تنفذ مشاريع الإبادة يومياً، فهذا قد أضاع البوصلة. إنها حصتهم في دمك ودم أطفالك، وحصتهم في أرضك ما يختلفون عليه. أمّا من عبروا عن إعجابهم بما يسمى «المجتمع الإسرائيلي» وحيويته، وحتى عبروا عن «غيرة منه»، فعليهم فقط قراءة قصة الطفلة البطلة المقدسية نفوز حماد ليعرفوا أن يجب أن يذهب إعجابهم وتقديرهم.
أيها الأصدقاء:
على رغم كل ما قلت، لا يجب أن نكتفي بالاحتفاظ بالأرقام ونشر البيانات عن عدد البيوت التي يهدمونها، وقوائم الأطفال الذين يقتلونهم بدم بارد كل يوم، وكأن فضحهم في العالم الذي يعرف جيداً ما يحصل يكفي، أو حتى يغير شيئاً. هذه معركة كبيرة وصعبة ومؤلمة لأن أساسها أن نكون أو لا نكون. أرجوكم، ادعموا القدس.

* من كلمة في حفل «صندوق القدس» السنوي لدعم القدس – شيكاغو، ١٩ آذار ٢٠٢٣
** كاتب عربي

مراجع وهوامش:
(1) Rick Richman. 2018. “Racing Against History: The 1940 Campaign for a Jewish Army to Fight Hitler”. Encounter Books.
(2) A. L. Tibawi. “The Destruction of an Islamic Heritage in Jerusalem”. Arab Studies Quarterly, Spring 1980, Vol. 2, No. 2 (Spring 1980), pp. 180-189.
(3) Edward Said. “Zionism from the Standpoint of Its Victims”. Social Text, Winter, 1979, No. 1 (Winter, 1979), pp. 7-58 Published by: Duke University Press
في السنوات الماضية، قامت «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بنشر مقالات لكتاب فلسطينيين، ومنهم إدوارد سعيد، ربما نتيجة نقده للنشرية. لكن يبدو أن ذلك أصبح ممكناً لأنه لم يعد ممكناً تجاهل الصوت الفلسطيني. لكن يتوجب ليس فقط متابعة كمية المقالات التي تنشر والتي بالتأكيد هي لمصلحة الكيان، ولكن النوعية أيضاً. أن تنشر «نيويورك ريفيو أوف بوكس» مثلاً مقتطفاً من مذكرات إدوارد سعيد متوافرة في مواقع أخرى لا يمكن له أن يوازن الانحياز للسردية الصهيونية.
(4) Yitzhak Rabin. 1996. “The Rabin Memoire”. Berkley: University of California Press.
(5) Israel Shahak, «Arab Villages Destroyed by Israel: A Report, 12/2/1973,» in Documents from Israel, 1967- 1973: Readings for a Critique of Zionism, ed. Uri Davis and Norton Mezvinsky (London: Ithaca Press, 1975), p. 44.
(6) Gershon Shafir, “Zionism and Colonialism: A Comparative Approach,” in The Israel/Palestine Question, ed. Ilan Pappe ́ (London, 1999), pp. 81–96.
(6) «إنهم يفعلون ما يحلو لهم، يستعبدون كل من ليس من لونهم. يريدون أن يجعلوا منا عبيداً، وحين لا يتحقق لهم ذلك يقتلوننا. أياك أن تثق بكلماتهم أو وعودهم. إنها أحابيل، صدقني، فأنا أعرف سكاكينهم الطويلة جداً» باشغنتاكيلياس، زعيم هنود دلاوير ١٧٨٧
منير العكش. ٢٠٠٢. حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية. بيروت: رياض الريس (ص ٥٧).
(7) انظر، عدنان عبد الرازق. ٢٠١٣. «حارة اليهود بين الحقائق والتضليل». منشورات الرمال