«يجب عليكم، أوّلاً، أن لا تخافوا من الشّدّة، وثانياً، أن لا تخافوا من الموت»[ماو تسي تونغ]

يكمن أوّل الفخّ في المصطلحات التي نستخدمها والأسئلة التي نطرحها، أو تلك التي يتمّ إجبارنا على التفكير عبرها. ما معنى أن تقدّم إجابة مدروسة وممتازة على إشكالية واهية؟ من هنا، أقترح أن تكون البداية عبر استبدال تعبير «الاصلاح» -السائد- بالاشكالية الحقيقية التي تواجه بلادنا، أي «سؤال التنمية». «الاصلاح» أصبح مفهوماً غائماً ومضلّلاً، حتى بدأ يكتسب صفات شبه-ميتافيزيائية؛ وهو كان يعني أمور مختلفة في أزمانٍ مختلفة (في مرحلة التسعينيات، «الاصلاح» الذي سيحل مشاكلك كان يعني الدمقرطة، وفي مرحلة أخرى كان يعني الاصلاحات الاقتصادية والانفتاح، وهو اليوم يرمز إلى الحوكمة و«محاربة الفساد»). ولكنّ المحتوى السياسي للمصطلح، كما أظهرت الثورات «الاصلاحية» في العقود الماضية، كان يختزل غالباً في استبدال طاقم حكمٍ (في الغالب لا يحبّه الغرب) بآخر، لا أكثر ولا أقل.
معنى «التنمية»، باختصار، هو أن تقوم بتحديث اقتصادك بشكلٍ يرفع من قيمة العمل والانتاج فيه، ويرتفع معه مستوى حياة الناس وتعليمهم وخدماتهم، وأن تصبح لديك قاعدة علمية وصناعية ترفد هذا الاقتصاد. أي أن تنتقل من حالة إلى حالةٍ متقدّمة عنها نوعياً، وتتمكّن من وضع أهدافٍ للمستقبل وتنفيذها. لا شيء يعطي شرعيةً لنظام كأن يختبر شعبه، بالمباشر والمحسوس، ارتفاعاً في مستوى الحياة من حوله. حتى صدّام حسين، بعد أن قضى على المعارضة واحتكر الحكم، وقتل حتى رفاقه وأهله، لو أنّه بنى ببساطة على تراث التنمية الذي بدأه أسلافه، واستمرّت حالة الصعود في مستوى التعليم والحياة، والارتقاء الطبقي لمختلف العراقيين، لظلّ حاكماً «شعبياً»، ولما تمكّنت أي حركة معارضة (ايديولوجية أو إسلامية) من تشكيل كتلةٍ فاعلةٍ ضدّه.
ملصق بعنوان «الإصلاح والانفتاح في الصين مدهشان» (ليو شيشي، 1996)

موضوع التنمية (أو سمّه سؤال التصنيع/التحديث/اللحاق/إلخ بحسب الأدبيات والحقبة) هو الذي أنتج منهج الاقتصاد السياسي الحديث كما نعرفه اليوم. ولدت دراسة الاقتصاد السياسي عبر مجموعة من الأسئلة طرحها عددٌ من المفكرين بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، وكانت أسئلة لها في زمنها أهمية «عمليّة» وقصوى: لماذا حصلت الثورة الصناعية في بريطانيا وليس في بلدٍ آخر؟ ماذا تفعل إن لم تكن أنت بريطانياً، ولم يحصل التصنيع لديك بشكلٍ «عضوي» وطبيعي؟ كيف تنافس من سبقك في مسيرة التحديث وتلحق به؟ هل تختلف شروط التنمية لدى «المتأخرين» نسبياً، مثل ألمانيا وروسيا، عنها في بريطانيا وأميركا؟
في الليبرالية الحديثة، أنت لا تحتاج إلى «نموذج تنموي». النموذج هو النيوليبرالية نفسها. كل ما يمكن أن تحتاجه هو الـ«اصلاح»، أي أن تقترب أكثر من المثال النيوليبرالي وتتخلّص من الشوائب التي تبعدك عنه. في المنهج النيوليبرالي، التنمية تحصل حين تحرّر السوق وتسهّل الأعمال، وتدمج البلد في الاقتصاد الدولي؛ هنا، سوف يرتفع تلقائياً مستوى الفعالية في اقتصادك، ويتوجه الاستثمار حيث الأفضلية التنافسية، ويزدهر البلد. إن لم يحصل ذلك فالمشكلة ليست في النموذج نفسه، بل هي في أنك لا تطبقه كفاية، أو لأنّ من يحكمك هم فاسدون/سراقون/فشلة، عليك اقتلاعهم واستبدالهم بطاقم تكنوقراطي ليبرالي ينفّذ «الخطّة» كما يجب.
المشكلة هي أنّه من بين أكثر من 150 بلداً فرضت عليه الاصلاحات الليبرالية بدرجات مختلفة (من علاج الصدمة إلى التحرير التدريجي)، لم يعبر أي منهم تقريباً عتبة التنمية. والدول القليلة التي حققت «الانتقال» إلى اقتصاد صناعي حديث (كوريا وتايوان وسنغافورة مثلاً، وقبلهم اليابان وألمانيا وروسيا) فعلت ذلك عبر مجهودٍ قصديّ ومخطّطٍ من قبل الدولة، وسياسات صناعية وزراعية مصمّمة «من فوق»، وليس عبر السوق ومنطقه. بالمناسبة، التطبيق الواسع الأوّل لفكرة الضمانات الاجتماعية التي تؤمنها الدولة للمواطنين لم يكن في بلدٍ اشتراكي، بل في بروسيا بسمارك وخلال مرحلة التصنيع، وعملية التحديث السريع للمجتمع ونظام الانتاج التي قادها جهاز الدولة. إن أردنا، على طريقة الماويين، أن نستخرج النظرية من الواقع، بدلاً من فرضها عليه، فما هو الدرس الواضح أمامنا هنا؟ ثمّ تخيّلوا أن نتكلّم في الأمر من دون أن نضع قبالتنا المثال الصيني، بينما نصرّ على تشرّب مفاهيم التنمية والاصلاح من مكاتب الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي في واشنطن.

كيف تبني صيناً
في إحدى المسلسلات التلفزيونية يقول بليونيرٌ شاب ما معناه أنّه لم يعد يجد متعةً أو تحدياً في بناء شركات ناجحة، «الأمر سهل وبسيط، كل ما تحتاجه هو مفهوم عملي + رأسمال + تنفيذ، أين الصعوبة في ذلك؟». من وجهة نظر سطحية، قد يبدو تحدي التنمية سهلاً بالمعنى نفسه، والصّين مثال. إن كنت تمتلك «عناصر الانتاج» (رأس المال، قوة العمل، التكنولوجيا)، وقمت بتوجيهها بشكلٍ عقلانيّ، فمن الصّعب أن تفشل. كانت الصين تفتقد دوماً، منذ التحرير، إلى واحدٍ على الأقل من هذه الشّروط، وحين توفّر لديها رأس المال والوصول إلى التكنولوجيا في العقود الماضية، شهدنا مباشرة تلك القفزة الصينية السريعة. ولكن جوهر الموضوع، مع الأسف، هو أكثر تعقيداً من ذلك بكثير.
حين تنظر اليوم إلى محطات المترو في الصّين، وليس في العاصمة بل في مدنٍ لم يسمع أغلبنا بها، تجد أن بعضها لا يقارن بمحطات المترو الأوروبية، بل هي أشبه بالمطارات الحديثة في أوروبا. حتى أواخر التسعينيات، كان هناك في الصّين نظام مترو واحد لا غير، في بيجينغ، وهو مكوّن من خطّين عليهما بضعة محطات (أي أنه أشبه بخطّ رمزي وليس نظام نقل حقيقي). المثير هو ليس فقط أن لديك اليوم العشرات من أنظمة المترو في الصين، بل في أن العديد منها يفوق في كثافته وعدد خطوطه مترو نيويورك ولندن وباريس - وهذا كله قد تحقّق خلال أقل من عشرين سنة. ولكن إن تمعّنت في تفاصيل الحالة ستفهم المنطق خلفها: حين يكون كل مليون دولار تنفقه على مشاريع المترو يضيف مليون ونصف المليون دولار سنوياً إلى دخل المدينة وانتاجها، فالأمر العقلاني هو أن توجّه الاستثمار إلى مثل هذه الأمور التي لها حاجة ماسّة ومردود كبير، وأن توفّر لها القروض والحوافز والمنح. المواطنون الصينيون يميلون إلى التوفير، وهذه الأموال في المصارف سوف تجد طريقها إلى الاستثمار، كلّ ما يلزم هنا هو توجيهه. في الوقت نفسه، البناء والمشاريع سوف تسبّب نمواً في الاقتصاد، وتشغّل النّاس وتبني شركات وخبرات. الخيار هنا، بالمعنى الاقتصادي الحسابي البسيط، واضح وسهل.
على الهامش: هناك اقتصاديون في الغرب ينتقدون مشاريع البنى التحتية في الصّين، ويعتبرون أن النموّ يجب أن يكون عبر تشجيع المواطنين على الاستهلاك والانفاق، حتى يصبح السوق الداخلي أكبر ويزداد الطلب فيه. من المشاكل في هذا التحليل، في رأيي، هو أنه لا يأخذ في عين الاعتبار مسألة التحقيب في مسيرة التنمية. الفكرة هي أن تقوم بإنجاز أكبر قدرٍ ممكن من هذه المشاريع البنيوية الكبرى في وقتٍ مبكر، ولو لم تكن لازمةً وضرورية الآن، ولو عبر الاستدانة. أي أن تبنيها حين يكون دخل المواطن لا يزال منخفضاً وكلفة العمل بخسة، ثمّ تحصد ثمار هذا الاسثمار في اقتصادٍ مستقبليّ أكثر ثراء (دخل المواطن الصيني، مثلاً، تضاعف عدة مرات منذ عام 2008، حين انطلق البلد بشكلٍ محموم في بناء شبكة القطارات السريعة). من ناحيةٍ أخرى، حين تصبح الصين أكثر ثراءً في المستقبل، سيكون من شبه المستحيل أن تنجز مثل هذه المشاريع الوطنية الكبرى، أو ستصبح باهظة التكلفة بشكلٍ مهول - كما هي الحال في الغرب اليوم. أخيراً، لو أنك رفعت، منذ عشرين سنة، من مستوى استهلاك المواطنين في الصين، وشجعتهم على الاستدانة والشراء بدلاً من التوفير، فإن استهلاكهم الزائد لن يكون من السوق الداخلية فحسب، بل من السلع والماركات الأجنبية أيضاً، فينقلب الميزان التجاري، ولما كان هناك أصلاً فائض رأسمالي يوضع في بناء هذه المدن والبنى التحتية.
تجربة الأوروبيين لا يمكن لنا استنساخها، ببساطة لأننا جئنا في زمنٍ تاريخي مختلف: ليس أمامنا احتمال أن نستعمر غالبية الأرض و«نكتشف» العالم الجديد ونستوطنه، أو نحتكر التصنيع


مستوى التخطيط المدني والعمران والخدمات في العديد من المدن الصينية اليوم، بعد أن بدأت صورتها «النهائية» تظهر، أصبح يفوق معاييرها في الغرب، وأنا -مجدداً- لا أتكلم هنا عن العاصمة أو شانغهاي، بل عن مدنٍ مثل داليان أو ووهان أو شينغدو، والعشرات غيرها. مدنٌ استضافت مئات الملايين من السكّان الجدد خلال فترةٍ قصيرة، وهي تخرج اليوم بهذه الصورة، من دون أن تجتاحها أحياء الصفيح أو العشوائيات. المثير للإعجاب هنا هي ليست هذه المقارنة مع الدول الثريّة فأنت لا يفترض بك، أصلاً، أن تقارن الصين بالغرب أو باليابان، فهي ليست في مستواهم بمقاييس الدخل والتراكم. إن اعتمدنا دخل الفرد بالدولار معياراً، فإن الصين يجب أن تقارن اليوم بدولٍ مثل بلغاريا أو تركمنستان أو المكسيك. أن تفعل هذه الأمور كلّها وأنت لا تزال «فقيراً» هو المعنى الحقيقي للإنجاز الصيني، والمقارنة الفعلية والمؤثّرة سوف تكون في المستقبل - إن استمرّت قصة النجاح هذه.
ميزانية الدولة في الصين، مقارنة بحجم الاقتصاد، صغيرة للغاية بالمقاييس الغربيّة، بل وإن الضرائب في الصين (حتى على الأثرياء والشركات) هي أقلّ منها في الغرب. البعض ينظر إلى هذه الأرقام ويقول «الصين رأسمالية إذاً، يديرها القطاع الخاص، بل وهي رأسمالية أكثر من أميركا وبريطانيا». هذا سببه أنك تنظر إلى الموضوع بعدسةٍ غربية ترى أن الطريقة الوحيد لتدخل الدولة في الاقتصاد هي عبر الميزانية والانفاق، أي جمع الضرائب وإعادة توزيعها (اليوم، هناك أيضاً دورٌ كبير للمصارف المركزية، ولكنها في أميركا وبريطانيا ليست تابعة للدولة، ولا تخضع للسلطات المنتخبة، وهذا تمييزٌ بالغ الأهمية).
الفكرة هي أن ميزانية الدولة المركزية في الصين قد تكون أقلّ أذرعها تأثيراً. الدولة هناك تعمل في الاقتصاد عبر وسائل مختلفة، تبدأ بالشركات التي لا تزال مملوكة من القطاع العام. هذه شركات تعمل في السوق كأنها شركات خاصة، ولكنها مملوكة من الدولة، وبعضها من أكبر الشركات حجماً في البلد، وهي تمثل نسبة معتبرة من الاقتصاد، ويتمّ توجيهها - بالمعنى الاستراتيجي - من قبل الحزب الشيوعي الصيني. ثانياً، الدولة هناك «تستخدم» القطاع الخاص نفسه؛ غالبية المشاريع السكنية التي آوت الصينيين في السنوات الماضية، مثلاً، قامت عبر شراكاتٍ بين الحكومات المحلية والقطاع الخاص: تستخدم الحكومة ملكيتها للأرض حتى تجتذب المطورين العقاريين، فيمولون الطرقات والبنى التحتية حول المدن مقابل أن يتاح لهم البناء وبيع الشقق. وفي حالاتٍ كثيرة، تقوم الدولة ببساطة بإصدار أوامر أو «توجيهات» للشركات الكبرى والقطاع الخاص («نحتاجكم لأن تستثمروا في هذا المجال أو تلك التقنية»)، أو تدفعها إلى قطاعات معينة عبر توفير الحوافز والقروض المسهّلة. وهنا نصل إلى المستوى الثالث من «أدوات» الحزب الشيوعي الصيني، فالمصارف في الصين مملوكة بالكامل للقطاع العام، وهي من يتحكّم بالتمويل في البلد ووجهة الاستثمار ومعدّلات الفائدة.
المجال الأخير، وقد يكون الأكثر تأثيراً، هو مستوى التنظيم والقوانين. في أميركا، الرأسمالية هي من تضع القواعد لنفسها (مجلس المصرف الفيدرالي مكوّن في المبدأ من ممثلين للمصارف الأميركية وللحكومة، ولكن حتى ممثلي الحكومة فيه يكونون في العادة مدراء سابقين في المصارف إياها. أي أنهم زملاء وشركاء يلتقون دورياً لتقرير قواعد اللعبة لأنفسهم)، أمّا في الصين، فإن التنظيمات والقواعد وأهداف المصرف المركزي يقرّها الحزب الشيوعي وحده.

معنى التحرّر
الهدف هنا هو ليس القول أنّك في حاجةٍ إلى «حزب شيوعي صيني»، فلكلّ بلدٍ طريقه وظروفه التاريخية. كلّنا يفضّل أن نصبح غداً سويسرا أو فرنسا، ولكنك لم تمرّ بالظروف والمسار التاريخي الذي صنع سويسرا وفرنسا؛ والتجربة قد علّمتنا بأنّ «محاكاة الأقوى»، على طريقة تقليد نظامهم السياسي، أو لكنتهم ولغتهم، أو عاداتهم وايديولوجيتهم، وحتى لو جعلتهم يحكموك ويستعمروك، فهذا كلّه لا علاقة له بأن تصبح مثل سويسرا وفرنسا. الطّريف هنا هو أنّ البعض يستغرب: لماذا تنظر إلى الصين وإيران، ألا تفضّل أن نكون مثل «النموذج الأوروبي»؟ كأن ذلك خيارٌ مفتوح للجميع ونحن نرفضه.
الهدف هنا هو أن نقول أنّ تجربة الأوروبيين لا يمكن لنا استنساخها، ببساطة لأننا جئنا في زمنٍ تاريخي مختلف: ليس أمامنا احتمال أن نستعمر غالبية الأرض و«نكتشف» العالم الجديد ونستوطنه، أو نحتكر التصنيع والتقنية والسلاح لأجيال، ونكون نادياً صغيراً من الدّول ينتج كلّ ما له قيمة لأكثر أهل الأرض. هذه هي التجربة الأوروبية ونحن لن نكررها. في الوقت ذاته، نحن أيضاً لا نمتلك مقوّمات التجربة الصينية، ليس لأننا نفتقر إلى الحزب الشيوعي الصيني بالذات، بل لأنّنا لا نملك الأساس الذي بني عليه، وهو المفهوم الفعلي لـ«التحرّر الوطني». كما شرحنا أعلاه، قد تبدو قصّة صعود الصّين سهلةً ما أن توفّرت لديها عوامل الانتاج، مال وعمّال وتكنولوجيا، وتمكنّت من وضعها في المكان المنطقي والمناسب (allocation). المسألة تبدأ من هنا: هل لديك القدرة، أو حتى الأدوات الأساسية والبنية التحتية، لفعل هذه الأمور؟ قارن الظرف الصيني ببلدك: هل الدولة تأمر رأس المال أم رأس المال هو الذي يأمر بالدولة؟ أم هما في شراكةٍ ومحاصصة؟ من يتحكّم بدخول الأموال وخروجها من البلد؟ ويمن يضع الأولويات في كيفية انفاقها واستثمارها؟
نظريتي هي أنّ الفارق بين الهند والصين هو هنا تحديداً، وليس في اختلاف السياسات أو الكفاءة في الادارة: الهند، على عكس الصين، لم تخضع فعلياً لعملية تحرير وطني واجتثاث المؤسسة الاستعمارية. خرجت بريطانيا بعد الحرب العالمية ولكن نظام الـ«راج» البريطاني ظلّ، عملياً، هو من يحكم الهند؛ الجيش والبيروقراطية والفئات الملّاكة النافذة نفسها. لم يتغيّر النظام القديم، بل حكمت الهند المستقلة النخب ذاتها التي كانت تدير البلد أيام الاستعمار - لندن، في الواقع، لم تكن تحكم الهند عبر بريطانيين بيض في كلّ المراكز، بل عبر ادارةٍ وجيش مكوّنين أساساً من هنود محليين. وهؤلاء النافذون في عهد الـ«راج» هم أيضاً الذين جلسوا سوية وقرروا تقسيم الهند وباكستان بينهم. المقارنة عرضناها سابقاً: الهند امتلكت، مثل الصّين، عناصر العمل والتكنولوجيا ورأس المال، وعلاقاتٍ ممتازة مع مختلف القوى الكبرى، ولكن الصين في مكانٍ اليوم والهند في مكانٍ آخر تماماً (دخل الفرد الهندي اليوم هو أقلّ من خمس دخل الفرد الصيني؛ ولن نقارن في مستوى البنى التحتية والخدمات العامة والتنمية).

أنت تفرح بانتصارٍ ليس لأنّه قد واسى جرحاً نرجسياً لديك، بل لأنه يقرّبك من أهدافك: أن يصبح لديك بلدٌ حقيقيّ تبنيه، أن يكون لأطفاله فرصة في الحياة، وأن لا يعيش أهلك في المهاجر أو في الشارع


المفهوم «البرجوازي» للتحرّر الوطني هو الذي تقادم وفرّغ إلى حدٍّ بعيدٍ من مضمونه، فكرة أنّ «نتحرّر» كنصرٍ رمزيّ، مسألة كرامة وعزّ فحسب. أو حتى لا نسمح لـ«الآخر» بأن يغلبنا، نثأر من أجل الثأر والنفسية؛ أو لأننا نحلم باستعادة مجد إمبراطورية سالفة، إلخ… حين تستلم مهام النضال فئات برجوازية، غالباً ما يتمّ اختزال الأهداف الجماعية في شعاراتٍ من هذا النّوع. السبب الأساسي لتراجع أدبيات «التحرّر الوطني» في العقود الماضية، أصلاً، هو ببساطة كون هذه الفئات التي كانت تحتكرها وتروّج لها في مجتمعنا قد أصبحت اليوم تلعب للفريق الآخر. هذه مفارقة تحدّث عنها الكثير ممن درس مجتمعات الجنوب، من باران وسمير أمين وصولاً إلى هادي العلوي، وهي قاعدة أنّ البرجوازي في بلادنا قد تداعبه، في فترةٍ مؤاتية، أحلامٌ بأن يكون نخبةً حاكمة لبلدٍ قويٍّ ومستقلّ، وألّا يظلّ تابعاً حقيراً، طالما أنّه هو من يقود ويحكم. هذا نزوعٌ انساني طبيعي. ولكن هذه البرجوازية، ما أن تصبح المسألة «خطيرة» عليها وصعبة التحقيق، حتى تنقلب بسهولة، مجدداً، إلى دور التابع الكومبرادوري، وتبدأ بالتنظير في الاتجاه المعاكس.
في مثل هذه الحالات، ومع مثل هؤلاء النّاس، يصبح من الطبيعي للمواطن العادي أن يشكّك وأن يسأل «مالي ومال التحرّر الوطني؟» إن كان يعني أن «ينتصر الوطن» ويظلّ هو فقيراً، أو يحكمه ياسر عرفات وحسني مبارك. أو تحرير على الطريقة الهندية، حيث استقلّ البلد وأصبحنا «قوة عظمى»، ولكن نظام الانتاج في الريف لا يزال تقريباً كما كان عليه منذ أكثر من قرن. المفهوم الحقيقي للتحرّر الوطني هو أنّك تخوض في هذا الطريق، وتتحمّل التضحيات، حتى تتمكّن من الارتقاء بشعبك، ولأنّ الجميع قد ضحّى وتحمّل، فإنّ الثّمار لا بدّ أن تكون للجميع. من هنا، أنت تفرح بانتصارٍ ليس لأنّه قد واسى جرحاً نرجسياً لديك، بل لأنه يقرّبك من أهدافك: أن يصبح لديك بلدٌ حقيقيّ تبنيه، أن يكون لأطفاله فرصة في الحياة، وأن لا يعيش أهلك في المهاجر أو في الشارع. والانتصار له قيمة لأنّه انتصارٌ ضدّ العدوّ الذي يريد منعك عن هذه الأهداف.

خاتمة: الحسم أو الهزيمة
عن تجربة «حزب الله» في الحكم في لبنان، هناك من يقول أنّ الحزب قد دخل دهاليز السياسة اللبنانية حتى تآلف معها وتقبّل عيوبها ولم يعد قادراً على الفعل. هناك أيضاً من يقول أن الحزب يفهم استحالة التغيير في النظام اللبناني وهو ببساطة يحاول أن يبقي على استقرار الأمور ويكسب الوقت. أنا أختلف مع الرأيين، أقلّه في مرحلة البداية، عام 2004 وما بعده. أنا أعتقد أن قيادة الحزب كانت صادقة في امكانية التغيير الايجابي عبر الدخول في الحكم، هذا ما تستشفّه من خطابات القادة في تلك المرحلة والتصريحات والشروح في أيّام الانتخابات. المشكلة في رأيي هي أنّ نظرتهم لمفهوم الاصلاح كانت، بمعنى ما، «ليبرالية»: أن نستبدل طاقم حكمٍ فاسدٍ بآخر كفوء. نخرج السنيورة وأمثاله ونجلب وزراء شرفاء من عندنا، والعونيون يريدون أيضاً «الاصلاح والتغيير»، وسيأتون بوزراء شباب ومتعلّمين من خارج النظام، وسنرسم برنامجاً وخططاً في مختلف القطاعات، إلخ. أي أنّ النظرية هنا لا تختلف في الجوهر عن نظرة خصومهم، مع فارق أن من يختاره أعداؤهم لدور الاصلاح هم نخب النيوليبرالية والجمعيات الأجنبية، والنماذج البائسة التي يحضّرونها منذ سنوات.
المشكلة هي أنّك، ولو أحضرت يومها أنبياءً إلى الوزارات، وأدار البلد لقمان الحكيم، فأنت تدخل إلى بلدٍ تفوق فيه خدمة الدّين العام كامل الموارد التي تحصلها الدّولة كلّ سنة، فمن أين ستستثمر وإلى أين أنت تعتقد أنك ذاهب؟ ماذا ستفعل مع جمعية المصارف ورأس المال الذي يملك البلد؟ ما علاقة الاستقامة والادارة الجيّدة، إن وجدت، بحل المشاكل البنيوية لبلدٍ تابع لا يملك خطة تنموية ولا يتحكّم بمصيره؟ الاجابة على هذه الأسئلة لا يمكن أن تأتي من داخل مجلس الوزراء، و«تحرير النموذج» هو نقاشٌ أكثر خطراً وكلفةً بكثير من النقاش السياسي المعتاد، ولكنّه -طال الزمن أو قصر- سيصبح اجبارياً ولا بديل عن مواجهته.
هنا جوهر الموضوع، نحن على الأرجح نحبّ أن نختبر قصّة صعودٍ كالتي عرفها الصينيون، ولكننا غير مستعدين لدفع الثمن الذي بذلوه للوصول إلى هنا. طريق التنمية الحقيقي يبدأ بالاستقلال، وهذا قد تكون كلفته عالية، وقد يكون طريقاً طويلاً يستثمر فيه جيلٌ أو أكثر قبل أن يروا منه أي ثمار. هذا ما قصده ماو بالاقتباس أعلى المقال، وهو قد شرح معناه لاحقاً، حين وصّف ظروف الحياة التي اضطرّ إليها هو ورفاقه في سنوات التحرير، وندرة الطعام وكثرة الموت، قبل أن يصلوا إلى حكم دولتهم المستقلّة. شرح ماو أنّ الهدف من قوله هذا هو أنّه لا يمكن أن تكون المشقّة والموت من أجل المشقّة والموت، فهي هنا تصبح مخيفة فعلاً. أنت لا تخاف منها لأنّك تحلم بثمارها، وإن لم تكن حاضراً يومها. فكّروا بالسنوات الأولى بعد تحرير الصين، والحروب التي خاضها شعبها الفقير، في كوريا وهينان والتيبيت، حتى تضمن «الحدّ الأدنى» من السيادة. أو بما تمرّ به إيران منذ الثّورة.
أكثر من ذلك، «التحرر الوطني» هنا هو شرطٌ ضروري، ولكنه غير كافٍ، لتحقيق الذات والتنمية. قد تنال استقلالك ثمّ تقوم النخبة الحاكمة بالتراجع والاستسلام والبيع (كما حصل مع السادات وغيره)، أو قد تفشل ببساطة، أو تُهزم وتسقط في مواجهاتٍ غير متكافئة. ولكن السؤال الحقيقي هو عن البديل الممكن لهذا الطريق. «البديل الحقيقي» هنا هو الذي ستسمعونه، بنسخاتٍ مختلفة، من فئات الكمبرادور: أن تزدهر عبر «الانفتاح»، عبر السياحة والفهلوة والتجارة والمال السهل، أن تراهن -كأنك في كازينو- أنك ستصبح سنغافورة أو كوريا إن تخليت عن استقلالك وطموحاتك، وليس الصومال أو المغرب. أمام هذا النوع من الخيارات يظهر الفارق الحقيقي بين النّاس، وفي البداية هناك دوماً قلّة تكون مستعدّة لطرح الأوهام واختيار الطريق الصّعب، ولكن من قال أن أي شيءٍ قيّمٍ في الحياة يأتي بسهولة؟

* كاتب من أسرة «الأخبار»