نظام الأحوال الشخصيّة وتطبيقاتهفي ما يتعلق، أولاً، بالأحوال الشخصية كمفهوم، ما تعنيه عموماً، في المعجم الحقوقي العالمي، هو، كما يفيد الحقوقي عدنان طبارة: «شكل الحق الوضعي الذي يتخذه مجموع الخصائص العائدة للشخص البشري، والتي تميّزه عن أي شخص آخر بالنسبة إلى ممتلكاته وحقوقه وموجباته». ولكن، في لبنان وسائر البلدان العربية بصورة خاصة، تمّ توسيع هذا المفهوم العام وتخصيصه بتحديدات أخرى، فصار يغطّي كذلك، إلى الخصائص المرتبطة بأهليّة الشخص واسمه ووضعه العائلي الذي يشمل الزواج والطلاق والبنوّة والتبنّي والوصاية، إلخ، مسائل تتعلق بممتلكاته ولكنها غير مشمولة بالمفهوم العام الآنف، كالإرث والوصيّة والهبة، وما إليها.
فاستناداً إليه، في نظر علم الاجتماع، تنتفي، وللبداهة، الحاجة إلى توسعٍ في الشرح ليثبت أن المعني بأنظمة الأحوال الشخصية ما هو إلا الأنظمة الراعية للعائلة كمؤسسة اجتماعية، بجميع الحقوق والواجبات المتصلة بشروط إنشائها (الزواج) والفكّ المحتمل للرباط الزوجي المؤسّس لها (الطلاق)، مروراً بتنظيم المواقع والمكانات والأدوار، فضلاً عن العلاقات في داخلها ما بين الزوجين، كما بينهما وبين الأولاد وما بين الأولاد أنفسهم، وبينهم جميعاً وبين الأجداد والجدات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات، ناهيك بأصول انتقال إرثها المادي والمعنوي من جيل إلى جيل، إلخ.

فبناءً على ما تقدّم، إذ كفل لكل من الطوائف المعترف بها من قبل الدولة، من بين عدة أمور جوهرية، احترام نظامها الخاص بالأحوال الشخصية، يكون الدستور اللبناني قد وضعَنا أمام ثمانية عشر كياناً اجتماعياً على قليل أو كثير من الاختلاف ما بينها من حيث ثقافاتها النمطية (المعتقدات، والعادات والتقاليد، إلخ)، ولكل منها طريقته وقواعده الخاصة - مع ما تفضي إليه من تحليل وتحريم ونهي ونصح وما إليها - لتكوين العائلة ورعايتها. ويكون، إلى ذلك، قد وضع لكل طائفة الإشراف على تطبيق قانونها المعني، حصراً، وبمعزل عن الدولة، بعهدة سلطتها الدينية وجهازها القضائي الخاصَّين.
فعليه، هل هذه الكيانات على تبادل ما بينها في المجال الزواجي أم لا؟ وتالياً، هل ثمّة علاقة ذات شأن بين الحاصل عملياً على هذا الصعيد وبين تجلّيات «تبنينها المتّحدي»؟ للإجابة عن هذين السؤالين، سوف تكون لنا أدناه عودة، وسيلتها القيام بتحليل ملائم لما بحوزتنا من معطيات إحصائية وميدانية ذات صلة. ولكن تمهيداً لذلك، تذهب الأولوية الآن لجولة مكثَّفة قدر الإمكان في رحاب القوانين الطائفية المعنية لاستيضاح أحكامها حول مسألتين يشكل توضيحهما المسبق جزءاً أساسياً من عناصر الإجابة هذه. عنيت بهما: 1) مسألة الزواج مع الآخر المختلف في الدين و/أو المذهب، و2) مسألة المبادئ والقواعد والمفاهيم - أو لنقل، للإشارة إلى الكل بكلمة واحدة، «الأسس» - التي على قاعدتها يتمّ، في كل طائفة، تكوين العائلة ورعايتها.

في الزواج مع الآخر المختلف في الدين والمذهب
بالنظر، بدايةً، إلى القوانين الخاصة بالطوائف الإسلامية، ومعها القانون الدرزي، تتكشّف المقارنة عن وجود اختلافات ما بينها جميعاً، قد تكبر أو تصغر، حول هذا أو ذاك من الجوانب الداخلة في تحديد نطاق الأحوال الشخصية. ولكن الاختلافات هذه تبقى ثانوية، بالمقارنة مع موقفها من مسألة زواج المسلم والمسلمة بالآخر المختلف، سواء في الدين (كالمسيحي طبعاً)، أم في المذهب فقط (كتزاوج السنّة مع الشيعة والشيعة مع السنّة، إلخ). فهو، في الحالتين، موقف واحد موحد، على رغم اختلاف المذاهب. ففي ما يتعلق بتزاوج المسلمين ما بينهم، من مذهب إلى آخر، لا مانع في هذه القوانين يحول دونه.
أمّا موقفها من تزاوج المسلمين مع غير المسلمين، بمن في هؤلاء المسيحيون طبعاً، فشأنه آخر. وقوامه مبدآن متلازمان: من جهة، تحريم زواج الأنثى المسلمة (عند جميع المذاهب المعنية) بغير مسلم تحريماً تاماً، ولو كان كتابياً. ومن جهة أخرى، بالعكس، السماح للذكر المسلم بالزواج بـ«كتابية»، وبالتالي في الحال التي تعنينا هنا، من مسيحية، ولكن مع عدم تحبيذه أو التشجيع عليه. بل أكثر من ذلك: مع إقامة روادع دونه، من شأنها حث الكتابية على تلافيه إن لم تكن مستعدة للتخلّي عن دينها الأصلي واعتناق الإسلام. ومن هذه الروادع، مثلاً، إبقاء الكتابية المتزوجة بمسلم، طالما بقيت على دينها الأصلي، خارج دائرة الورثة الشرعيين لزوجها في حال وفاته قبلها، إذ في حكم الشرع الإسلامي أنه لا يرث المسلم إلا المسلم.
فإذا بالقاعدة المعيارية التي ترسيها، والحال هذه، القوانين الإسلامية للمسلمين، في ما يتعلق بعلاقات التزاوج والمصاهرة مع المسيحيين وسائر أهل الكتاب هي، كما يتضح، لا قاعدة تبادل بين طرفين متكافئين، بل قاعدة أخذ لكتابيّة - إن تعذّر تحاشيه - تليه ضغوط لأسلمتها، بدون عطاء في المقابل.
أمّا عند الطوائف المسيحية على اختلافها، فالقوانين النافذة، وهي، من جهتها، أيضاً لا تضع عقبات أمام تزاوج المسيحيين من مختلف المذاهب مع بعضهم البعض، إنما تتقاطع إزاء مسألة تزاوجهم مع غير المسيحيين، ومنهم المسلمون، حول مقاربة مختلفة تماماً وأقل تطلُّباً من الزوج الوافد إليها من بيئة دينية أخرى (ذكراً كان أو أنثى)، وإن كانت لا تفتح باب التزاوج معهم على مصراعَيه بلا ضوابط.
فهي، إذ تساوي بين الرجل والمرأة بموازاة اللامساواة بينهما القائمة في الجهة المحمدية، لا تحرِّم على أيِّهما الزواج بشخص من دين آخر، ولا تضع، في أيّ الاتجاهين، عقبات كبرى دون حصوله، كأن تسقط الزوج الوافد مثلاً، كما في الجهة المقابلة، من حق وراثة زوجه المسيحي العتيد إن توفِّي قبله. بل هي تكتفي بشرط تضعه لاعتراف الكنيسة (فقط لاعترافها، لا أكثر) بالزواج المنوي عقده، قوامه لا إقبال الزوج المختلف في الدين - هو شخصياً - على اعتناق المسيحية، بل فقط التزامه وزوجه العتيد تعميد الأولاد الذين سيولدون لهما بنتيجته.
وعليه، في ما يتعلق بمسألة الزواج مع الآخر المختلف في الدين و/أو المذهب، يمكننا الاكتفاء بما تقدّم. فماذا بالتالي، الآن، عن المسألة الأخرى الباقية على بساط البحث؟ عنيت مسألة المعايير الملحوظة في هذه القوانين لتكوين العائلة ورعايتها.

العائلة في لبنان: نماذج معيارية ثلاثة وترجماتها
للإجابة عن هذا السؤال، سبق أن قمنا بمقارنة لهذه القوانين بعضاً مع بعض. وقد شملت المقارنة، بالإضافة إلى ما نصّت عليه في مسألة الزواج من الآخر المختلف الآنف استكشافها، أحكامها في تسع مسائل أخرى، يستفاد من تحقيق أولي كنا قد عرضنا نتائجه في كتابنا المنشور سنة 2000، أنها الأعمق أثراً في تكوين العائلة وتعيين ملامحها من مختلف الجوانب. وهي: ماهيّة الزواج، طبيعته، الغاية منه، الطلاق، مهر العروس (أو عدمه)، التبنّي، مكانة الذكور والإناث داخل العائلة، قاعدة التوريث، طبيعة التشريعات المعتمدة كأساس للأحكام المشار إليها. وكان في محصلة هذا التمرين أن جُمِعَت نتائجه في الجدول 1 الوارد أدناه. وقد تم بناء هذا الجدول، كما يتضح، على قاعدة إدراج المسائل التسع المشمولة بالبحث، بعناوينها العريضة، في تسع خانات على محوره العمودي، فيما أُدرِجَت على محوره الأفقي، في ثلاث خانات فقط، لا أحكام القوانين الثمانية عشر المعنية بكل ما تتمايز به من تفاصيل حول هذه المسائل، لعدم اتساع المجال لمثل هذا القدر من التفصيل، بل فقط ما يتجلّى عبرها إزاء المسائل التسع من خيارات مبدئية عامة لدى الأديان الثلاثة، أي المسيحية والإسلام والتوحيد الدرزي، ولكن دونما تغافل، تحاشياً لكل لغط محتمل، عن إضافة ما ينبغي إضافته إلى ما تقدم حيثما اقتضت الضرورة. عنيت بالتحديد، في ما يتعلق خصوصاً بدائرتَيِ المسيحية والإسلام - لما يخترقهما من تباينات مذهبية، خلافاً للدين الدرزي - ذكر ما يبقى هناك من تباين في بعض التفاصيل حول هذا أو ذاك من التوجهات إياها بين مذهب وآخر. وإذا بأهمّ المعالم ذات الصلة التي أتيح لنا، من هنا، كشفها قابلة في المحصّلة النهائية للاختصار بالمكثَّفات الآتية:
أولاً) في ما يتعلق خصوصاً بالدروز، ليس قانون الأحوال الشخصية المعتمد عندهم وليد وحيّ خاص بديانتهم. بل هو القانون عينه المعمول به لدى الطائفة الإسلاميّة السنّية طبقاً لأحكام المذهب الحنفي، ولكن مع إدخال تعديلات ثلاثة عليه يتّضح، في الواقع، أنها جوهرية إلى درجة يصبح معها لزاماً على الباحث تصنيف النموذج المعياري المعتمد بنتيجتها أساساً لبناء العائلة الدرزية لا كواحدة من بين ترجمات مذهبية عدّة لما يمكن تسميته «النموذج المعياري الإسلامي العام» للأسرة، بل كنموذج قائم بذاته (قارن: الجدول). وهذه التعديلات، كما يتضح من مقارنة للقانون الدرزي مع الأصل السنّي، هي الآتية: (1) تحريمه تعدّد الزوجات تحريماً تاماً - ما من شأنه تقريب المسافة الفاصلة للدروز عن المسيحيين، من جهة، ومن جهة أخرى، المباعدة بينهم وبين المسلمين السنّة والشيعة، بالنظر إلى الشكل المعتمد لديهم معياراً لتكوين الرابط الزوجي ومن ثمّ العائلة. (2) مع إباحته الطلاق، تحريمه، خلافاً للمعمول به عند السنّة وسواهم من المسلمين، على الزوج الذي يطلِّق زوجته استعادتها بعد تطليقها في أيّ حال من الأحوال، وهذا ما من شأنه أن يباعد بين الدروز والمسلمين السنّة والشيعة من حيث التقاليد الزواجية. (3) إعطاء الأب المورِّث حقاً يختلف به تماماً عن أقرانه المسيحيين والمسلمين معاً، هو حق الإيصاء بتركته لمن يشاء، وإن بلغ بذلك حدّ حرمان ورثته الشرعيين حقهم في الوراثة حسب القانون السني المذكور.
ما ترسمه للعائلة اللبنانيّة منظومة الأحوال الشخصيّة المعتمدة في البلاد، ليس على الإطلاق نموذجاً معياريّاً موحّداً قد كان ليتمّ تكوينها ومن ثمّ ضبط باقي أمورها على قاعدته


ثانياً) حول المسائل التسع المأخوذة في الاعتبار، تقف على طرفي نقيض تام قوانين الإسلام على اختلاف مذاهبه وقوانين المسيحية، وخصوصاً بشقها الكاثوليكي، لا بل - في ما يتعلق بجميع المسائل ما عدا واحدة هي مسألة الطلاق - المسيحية بفئاتها الثلاث، الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية. ذلك أن الزواج حسب المسيحية، من حيث ماهيّته، سرّ إلهي وعقد بشري في آن معاً. وهو في طبيعته أحادي قطعاً للزوج كما للزوجة، بينما الغاية منه بناء شركة روحية ما بين الزوجين، يصير فيها الاثنان، كما يقول السيد المسيح، «جسداً واحداً» (متى، 5:19)، بالإضافة إلى استقرارهما في علاقة إنسانية عادية يستطيعان من خلالها الإنجاب وإشباع حاجاتهما ورغباتهما النفسية والجسدية شرعاً. أمّا في الإسلام على اختلاف مذاهبه، فالزواج، من حيث ماهيته، عقد بشري لا أكثر، ومن طبيعته أن يكون فيه متاحاً تعدد الزوجات للزوج الواحد من دون العكس، فيما الغاية منه لا تتعدى النطاق البشري الحصري، بما ينطوي عليه، بعيداً عن هم الشراكة الروحية، من دخول في علاقة إنسانية مستقرة وتمكن من الإنجاب وإشباع الرغبات والحاجات على نحو شرعي.
ثالثاً) ربط الزواج بمهر يدفعه العريس للعروس هو عند المسيحيين غير وارد قطعاً، إذ إن الرابط الزواجي هو، حسب عقيدتهم، في جوهره ارتباط روحي بامتياز، بينما هو في المقابل شرط من الشروط الحكمية للزواج الإسلامي وكذلك الدرزي. وفي حين أن التبنّي، من جهته، محلّل في الدين المسيحي - إذ الرابط الأكثر جوهريةً بين الآباء والأولاد هو، من وجهة نظر هذا الدين، تماماً كما بين الزوجين، الرابط الروحي - تجمع المذاهب الإسلامية ومعها العقيدة الدرزية، بالعكس، على تحريمه، لأن الأبوّة والبنوّة تمرّان في نظرها حكماً عبر الرابط المادي التناسلي. والحق أن التبنّي كان في الجاهلية تقليداً شائعاً، ثم أتى الإسلام فأبطله لعدم جواز نسبة الولد لغير أبيه، عملاً بالآية القرآنية الكريمة: «ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم» (الأحزاب: 5).
رابعاً) في ما يتعلق بالطلاق، تحرِّمه المسيحية الكاثوليكية تحريماً كلياً، مع عدم استبعادها القبول في بعض الحالات، وبقرار من المحكمة الروحية المختصة، بفسخ الزواج باعتباره «باطلاً» لعلّة في أساسه، بينما المذاهب المسيحية الأخرى تجيزه بدون تورية، ولكن بكثير من التقييد وعلى نحو مضبوط بشكل صارم من قبل القضاء الكنسي. أمّا الإسلام، فهو بجميع مذاهبه يجيزه للرجل كحق يستطيع بلوغه حتى بدون مراجعة القضاء المذهبي المختص، ولكن بشرط تسديد مؤخّر المهر للزوجة المراد تطليقها. وهو يجيزه للزوجة أيضاً كحقّ، ولكن كحق مشروط حصولها عليه بموافقة القاضي.
خامساً). فيما التكامل والمساواة بين الجنسين هما المبدآن الشرعيان المعتمدان في المسيحية على اختلاف مذاهبها قاعدة لتحديد المكانات والأدوار، وتوزيعها بين الزوج والزوجة كما بين الأولاد ذكوراً وإناثاً، داخل العائلة، وكذلك لتوزيع الإرث وانتقاله من الأصول إلى الفروع، يتضح أن السائد عند المسلمين على اختلاف مذاهبهم، كما عند الدروز، هو نقيض ذلك. وهذا ما يؤشر عليه، عند المسلمين والدروز على السواء أمران: (1) عملهم جميعاً، في تنظيم العلاقة الزوجية، بمبدأ «قوّامة الرجال على النساء»، المستمد من الآية القرآنية الكريمة «الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم» (النساء، 34). و(2) توزيع الميراث بين الجنسين على قاعدة الآية «للذكر مثل حظ الأنثيين» (النساء، 10) - ولو مع وجود فارق غير قليل بين السنّة والشيعة على مستوى تطبيق هذه القاعدة في الحالات التي يتوفّى فيها المورث بدون أن يخلِّف وراءه أبناء، بل بنات فقط. كما يؤشر عليه عند المسلمين بمفردهم من دون الدروز، بالإضافة إلى ما تقدّم: من جهة، تحليل تعدّد الزوجات للرجل عندهم بمقابل تحريم النقيض على المرأة. ومن جهة أخرى، إعطاء الزوج الحق في طرد زوجته إن شاء، مع عدم إعطاء الزوجة حقاً مماثلاً تجاه الزوج.
سادساً) وأخيراً، في ما يتعلق بالتشريعات المعتمدة أساساً للحسم في جميع هذه الأمور، من الواضح أن مرجعها، في الإسلام من جهته، إلى كتاب إلهي يعتبره المؤمنون به منزلاً بنصِّه وروحه، وبالتالي غير قابل للمراجعة، هو نص القرآن الكريم. أمّا عند الدروز، فمردها إلى مجرد اقتباس عن واحد - قابل ربما للمراجعة في يوم من الأيام - من مذاهب الإسلام السنّي، وقد تم تكييفه مع خيارات محض بشرية تؤثرها الطائفة. وأمّا عند المسيحيين، فوحدها دعوة الإنسان إلى محبة الإنسان الآخر كجزء من محبة الله والعمل بمندرجاتها إلهية المصدر، وهي بالتالي لا تتبدّل ولا تتعدّل، فيما الترجمات العملية لها، بالعكس، بشرية المنشأ. وهي من هنا، كما كانت دائماً، قابلة للمراجعة والتعديل عبر الزمن.
خلاصة الكلام، في المحصلة، أن ما ترسمه للعائلة اللبنانية منظومة الأحوال الشخصية المعتمدة في البلاد، ليس على الإطلاق نموذجاً معيارياً موحداً قد كان ليتم تكوينها ومن ثم ضبط باقي أمورها على قاعدته. بل هو، على نقيض ذلك تماماً، بصورة رئيسة، نماذج معيارية ثلاثة مردّها تباعاً إلى المسيحية والإسلام والتوحيد الدرزي كأديان. وهي تالياً، لجهة المبادئ الأساسية المحددة لها، على تباين مع بعضها البعض، عمقه من عمق تباين الخلفيات اللاهوتية والفلسفية والفقهية الفاصلة ما بين الأديان الثلاثة.
ولكن هذا ليس كل شيء. إذ، على مستوى ثانوي، يعود اثنان من النماذج الثلاثة، هما الإسلامي والمسيحي، ليجدا تجسيدهما العملي، كلاً، في ترجمات مذهبية متباينة، عددها 3 في الجهة الإسلامية، و13 في المسيحية، تنحصر الاختلافات ما بينها في كلتا الجهتين لا في الموقف من النموذج الأساسي بحدّ ذاته، بل في تفاصيل الاجتهادات المتصلة بفهم بعض جوانبه، أو بوضعها في حيّز التطبيق العملي.
ويضاف أخيراً إلى هذا كله ما سبقت الإشارة إلى وجوده في صلب تكوين هذه المنظومة من روادع، بل أيضاً من تحريمات صريحة في الجهة الإسلامية منها، وظيفتها البيِّنة الضغط للحؤول دون إقبال الناس على الزواج المختلط دينياً، ولا سيما الزواج بين مسيحيين ومسلمين، أو بين مسيحيين ودروز، فيما تبقى احتمالات الزواج المختلط مذهبياً في كلتا الجهتين المسيحية والإسلامية خاضعة من جهتها لأحكام التقاليد الاجتماعية الثقافية السائدة. وهذا ما على امتداده، بداهةً، يكون محكوماً على اللبنانيين - ولكن، بالطبع، فقط في حال امتثالهم العملي لمندرجاته - بالبقاء طوائف متجاورة بعيداً عن كل اختلاط عائلي، يتزاوج أعضاء كل منها ما بينهم ويبنون، طبقاً للنموذج المعياري المرسوم لهم بحكم انتمائهم إلى الطائفة المعنية، عائلات تقوم بالتنشئة الاجتماعية لأولادها - أو لنقل، من باب التفضيل، بـ«جمعنتهم» - على قاعدة قيم ومبادئ وأنماط سلوك ليست من حيث المبدأ مشتركة ما بين الطوائف جميعاً.
فعليه، تالياً، ماذا، الآن، عن مدى امتثال اللبنانيين أو عدمه لأحكام هذه المنظومة، في ما يتعدّى نصوص القوانين التي انحصر البحث حتى اللحظة في تحليل مضامينها، إلى صورة ممارساتهم الفعلية التي تستظلّ هذه النصوص على الأرض؟ إن هذا ما سنسعى إلى التحقّق منه تالياً، مستندين من أجل ذلك إلى قراءة هادفة لمعطيات إحصائية خام توافرت لنا، كما سبقت الإشارة، حول واقع التزاوج القائم بالفعل ما بين اللبنانيين.
(يتبع)

* باحث وناشط سياسي