دفعني عنوان «الفدائي والمستوطن» لمقال الكاتب وليد شرارة، بما هو صراع بين الإنسان الفرد الفلسطيني العربي وما يحمله من أفكار وذاكرة جماعية، وبين الفرد الإسرائيلي والمرتكز أساساً على فكرة «الإنسان المستوطن-الجندي»، إلى اعتبار أن هذا الصراع -على مستوى أوسع- هو صراع بين ذاكرتين جماعيتين: عربية فلسطينية وإسرائيلية. والذاكرة الجماعية يمكن تعريفها بأنها لقاء بين الإنسان والزمان والمكان، ولا ذاكرة بلا اجتماع هذه العناصر الثلاثة معاً. وبالتالي فإنه صراع بين مكانين: المدينة العربية بتشكيل نسيجها العمراني المعهود ودورها الدفاعي والمقاوم عبر السنين، في مقابل المستوطنة الإسرائيلية ودورها في شلّ ترابط المدينة العربية مع المحيط. إنه صراع بين مكانين: مكان الفدائي ومكان المستوطن. تهدف الحروب أساساً إلى تدمير النظم الاجتماعية والسياسية للعدو، فهي بذلك تعبّر عن صراع حضاري وفكري، بمقدار ما تعبّر عن فعل عسكري بعينه. وما دام المكان، بتشكيلاته واختيار موقعه، يعبّر عن ذاكرة جماعية تعكس الأبعاد الفكرية للجماعة المستوطنة فيه، فإنه يمكن اعتبار ما يجري الآن في مدينة نابلس، واتخاذ جماعة «عرين الأسود» مركزها: «نابلس العتيقة» عريناً لهم، مقابل الاختراقات الخاطفة والمتكررة لقوافل الجيش الإسرائيلي لها، كمحاولة منه لجعله خرقاً دائماً ينحت في لاوعي مدينة نابلس ومورفولوجيا خصائصها، وفي دورها الدفاعي تحديداً، صراعاً، كما كان على الدوام، بين ذاكرتين جماعيتين ومكانين: ذاكرة مكان إسرائيلية ترتكز على الكيبوتس كرمز وانعكاس لخيارهم الفكري لتشكيل مكانهم الجماعي، وذاكرة جماعية عربية ترتكز على حضارة مدينية الطابع. إنه صراع فكري وفلسفي لمكانين تشكّل الكيبوتس الإسرائيلية، وكمنعزل عسكري قامع وخائف في آن معاً أحد أطرافه، بينما تشكّل نابلس كمدينة -مختزلة جميع المدن العربية- الطرف الآخر.
إنّ المواجهة بين الكيبوتس والمدينة العربية المشرقية كانت في صلب الصراع للسيطرة على فلسطين. فمنذ عهد الانتداب البريطاني وحتى الآن، عمدت السياسات والمخططات العمرانية الإسرائيلية إلى تطويق الأراضي والمدن الفلسطينية بسلسلة من المستوطنات لعزلها وإفقادها خاصية الربط والترابط والتواصل مع المحيط، في محاولة لضرب أهم دور للمدينة العربية، والمتمثل في وظيفة الدفاع عن الاجتماع البشري العربي، بالإضافة إلى مساهمته في توحيده وتماسكه. وهكذا اعتبر الفكر الإسرائيلي، منذ تأسيس كيانه، أن المدينة الفلسطينية هي فضاء مخالف لطبيعته، ينبغي ضرب أدوارها المتعددة. والتقت هذه الوضعية مع مقولة «شعب الله المختار»، والدعوة المرتكزة على إحياء السردية اليهودية تحت شعار العودة إلى الطبيعة وإلى الأرض المباركة، ولإعادة إحياء الإنسان اليهودي الأصيل فيها والمتمثل بالإنسان «المزارع-الجندي».
الكيوبوتس انعكاس لذاكرة المكان اليهودية وبالتحديد لتجربة «الغيتو»، بيد أننا عند القيام بتحليل مورفولوجي اجتماعي لمختلف المدن العربية سنجد «حارة اليهود» في قلب المدينة القديمة


لعبت المدينة العربية دوراً أساسياً في الحروب التي خاضها الجيش الإسرائيلي سابقاً، ففي حربه عام1967 اعتمد على استراتيجية تمثّلت في «كسح المواقع والسيطرة على النقاط الحساسة»، والتي كانت ملائمة في صحراء سيناء وتلال الجولان شبه الخالية من تجمعات مدينية. ورغم نجاح هذه الاستراتيجية، في بداية الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، باكتساح مناطاق الأرياف والقرى، فإنه سرعان ما وجد نفسه مضطراً لتغييرها، عندما اضطر لخوض حروب مدينية الطابع، فرضتها خصوصية الاجتماع الحضري المديني للمجتمع اللبناني، والذي طغى على الجغرافية اللبنانية نتيجة التغيرات الديموغرافية والمكانية المفاجئة بسبب الحرب الأهلية اللبنانية بعد عام 1975. ففي معركة بيروت وضاحيتها، وجد الجيش الإسرائيلي نفسه أمام مدى مديني مقاوم، كانت الحروب الداخلية قد عسكرت زمنه، إذ إنه استعاد بذلك خاصيات النسيج التقليدي للمدينة العربية المعهود، فاستعاض بخطوط التماس عن سور المدينة كما عرف سابقاً، وقام بإعادة ربط النسيج المعماري لأحياء وحارات المدينة، بعدما مزّقته الشوارع والأوتوسترادات الحديثة، مستحدثاً ثغرات وممرات بين الأبنية، ومنشئاً السواتر الترابية، كمحاولة لإعادة ربط الأحياء بعضها ببعض، خالقاً مدى منفتحاً لسكانه ومغلقاً أمام الغريب، مستعيداً جدلية الباطن والظاهر، الداخل والخارج، المفتوح والمغلق، تلك الجدلية التي هي من خصوصيات المدينة العربية، واضعاً هذه الخاصية المدينية المستعادة في صلب المعركة العسكرية.
واستمراراً في ضرب المكان الاجتماعي العربي، وخاصة بعد توقيع اتفاق الإطار والمسمى اتفاق أوسلو، وبدء الحديث عن مناطق ألف وباء وجيم في الضفة الغربية، فقد تم تنفيذ ما سمّي بـ«مخطط شارون» عندما كان وزيراً للبنية التحتية والمستوطنات، والذي قطع أوصال المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية، بسلسلة من المستوطنات، لمنع إمكانية قيام سلطة أو دولة فلسطينية، كما صرّح شارون بذلك حينها، كمحاولة منه لتحويل الفضاء المكاني الفلسطيني إلى مكان مماثل لتجمعاتهم الإسرائيلية، ولتصبح مدنُنا الفلسطينية على صورة الكيبوتسات: مكاناً منعزلاً، ومحدوداً جغرافياً، غير قابل للتمدد، مغلقاً على ذاته، زمان معاش ينتظم فقط في داخل حدوده المادية، ما يجعله معزولاً في المكان والزمان. هذه المميزات هي معاكسة تماماً لمميزات المدينة العربية، والتي هي آفاق واسعة مترابطة، تستمد ماهيتها وتطورها من الحوار والتبادل والاحتكاك بالآخر.
وتكمن المفارقة في أن الكيوبوتس هو انعكاس لذاكرة المكان اليهودية وبالتحديد لتجربة «الغيتو» في أوروبا التي شكّلت منعزلاً فعلياً، خلق حال اغتراب وتنافر بين سكان «الغيتو» والآخر، أدّت إلى الجهل بالآخر والتنكّر حتى لوجوده، وربما هذا ما يدفع بالإسرائيليين إلى القيام بالمجازر ضد الآخر الفلسطيني حتى لو لم يكن لهذا الآخر أي صلة بذاكرة الغيتو في أوروبا. بيد أننا عند القيام بتحليل مورفولوجي اجتماعي لمختلف المدن العربية، ابتداءً من حلب مروراً ببيروت والقاهرة وتونس وفاس وقرطبة، سنجد أنّ ما يسمّى بـ«حارة اليهود» موجود في قلب المدينة القديمة، وداخل أسوارها، حيث مركز السلطة السياسية وتجمّع الأسواق والحركية السكانية، ما يدل على أن «الحارات اليهودية» لم تكن مهمّشة ومعزولة كما كانت عليه في أوروبا، بل كانت تساهم في تنظيم المدى المديني وانتظام زمن العيش الاجتماعي اليومي للسكان.
إنّ الحفاظ على خصوصية المدينة العربية، باستعادة وتمتين عناصر ترابطها مع المحيط، والحفاظ على تشكيلها المعهود بالتفافها حول «مركز المدينة»، بما هو مركز حيوي وناشط، يحاور زمن أحيائها المنفتحة على بعضها، لتساهم في توحيد الجماعة والدفاع عنها، يدخل في أساس الصراع الحضاري مع هذا الكيان المؤقت. ففلسطين لم يتم الاستلاء عليها بقوة السلاح فقط، بل بسياسات عمرانية استهدفت الترابط الاجتماعي والمكاني الفلسطيني، بتقطيعه ومحاصرته بسلسلة من الكيبوتسات. وما النداءات الأخيرة لجماعات «عرين الأسود» للأهالي، وحثّهم على إغلاق شوارع يستخدمها الجيش الإسرائيلي لاختراق مدينة نابلس -كرمزية لتحويله إلى زقاق- إلا إدراكٌ منهم بأن للمكان «عبقريته» ومقاومته، وبأهمية إدخال التقسيمات العمرانية لمدينة نابلس القديمة في المقاومة. ولا أخالني أبالغ بأنّ تحويل السكان مكانهم إلى مدى مقاوم، منفتح لمسافات رمي حجارتهم، وقنابل المولوتوف، وجعله مغلقاً على دبابات الجيش الإسرائيلي -الذي لم يستوعب تركيباته الاجتماعية والمكانية الخفية– سيساهم في ارتداد الجيش الإسرائيلي عن مدينة نابلس ومدن وأراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية، كما اندحر وارتدّ سابقاً عن بيروت وصور وغزة.
* معمار