تتلاحق المشاهد الفلسطينية وتتسارع، على وقع الإيقاع العنيف لحركة التاريخ، التي تتنقل بين إقليم وآخر بإشعاع يطاول الكرة الأرضية من الجنوب إلى الشمال، لتسجل حضورها وتؤكد استمراريتها، مبدعة في التشكيل السردي للرواية الفلسطينية، التي طالما تعرضت لضغط عنيف وملازم، لدفعها نحو الاستسلام والانتحار على مائدة مراكز القوة في الإقليم والعالم.ثمّة ما يجب أن يُقرأ في حركة التاريخ وما تقدّمه من عبرة واستخلاص حاسم، وهناك من يجب أن تكون فيه خاصية الاستيعاب من حركة التاريخ التي تؤكد المرة تلو الأخرى، أنه لا خلاص ولا نجاة إلا بالاعتراف، أنه لا نهاية للصراع إلا بالصراع، وبذلك يمتلك الفلسطيني الإحساس بالمستقبل الذي يستحق، والذي يدفع ثمنه منذ ما يزيد على مئة عام، وهنا فقط تتجه الحركة الفلسطينية المكافحة نحو الأمام. مجزرة نابلس التي ارتكبها جيش الاحتلال، العملية الفدائية التي حيدت مستوطنين اثنين، وغزوة قطعان المستوطنين على حوارة التي أعادت تبيان المبين والواضح في حقيقة المشروع الصهيوني، وأخيراً مشهد قمة العقبة، قمة المتضررين من تصاعد المقاومة، والهبة الانتفاضية في الضفة، مشاهد اتخذت مكانها في السردية الفلسطينية، مختلفة الزوايا في المنطلقات، والمسارات والأهداف، لكنها تكاملت في النص، لتحكي الكثير الكثير مما يجب أن يقال فلسطينياً، في ما له وما عليه. إنّ تأكيد المشهدية الفلسطينية حضورها، وإصرارها على الاستمرار في التفاعل والفعل، في مواجهة هجمة تستميت في ذبح الحق الفلسطيني، يمكن اعتبارها من الأهمية بمكان، بحيث ترقى من حيث الشكل والنوع إلى حد اعتبارها، حاملة فرصة تاريخية، لاستعادة فلسطين قضيةً، حلماً، هدفاً ومساراً.
ويمكن تأسيس هذه الفرضية على التالي:
أولاً: وصول النظام العالمي إلى مأزق، الأمر الذي يستدل عليه من خلال اضطراب المشهد الدولي، واستعار الصراعات حول نطاقات النفوذ والسيطرة، ووصول الصراع إلى مستوى الصراع التناحري، الذي يفتح على تطورات دراماتيكية، لا تتوقف عند حدود الحرب الروسية-الأوكرانية، بل تتعداها إلى صراعات وربما حروب تتخذ أشكالاً مختلفة.
هذا المخاض الذي دخلته الخريطة السياسية في العالم ليس معروفاً، من حيث المدى الزمني، ولا من حيث الكلفة والنتائج، ما بات معروفاً هو أن هناك حواراً يدور بأشكال وأدوات مختلفة، وبالتأكيد سينتهي إلى تسوية أو إعادة إنتاج التوازنات العالمية، بحيث ينتهي الصراع على نظامٍ عالمي جديد. وفي قراءة حركة التاريخ، يتضح أن الحركة الصهيونية، استخدمت المنعطفات التاريخية الحاسمة (الحربين العالميتين، و11 أيلول، وغزو العراق)، لتحقيق قفزات في تطبيق المشروع الصهيوني، وبما أن أي حقبة تاريخية وأي حدث استثنائي، يطرح تهديداته، مخاطره، تحدياته وفرصه، فإن هناك فرصة فلسطينية تلوح في أفق الاضطراب العالمي.
بما أن أي حقبة تاريخية وأي حدث استثنائي، يطرح تهديداته، مخاطره، تحدياته وفرصه، فإن هناك فرصة فلسطينية تلوح في أفق الاضطراب العالمي


ثانياً: تعمّق الصراع الداخلي في دولة الكيان، وهو تطور لا يمكن القفز عنه، لأنه يعيد إنتاج الحقيقة التاريخية، التي قامت على تهجين وتدجين مجموعات جاءت من بيئات مختلفة في ائتلاف صمد لما يزيد على المئة عام، وأنتج دولة الكيان، لكنه يحمل في داخله جينات الانفجار الذاتي.
ماذا يعني ذلك؟
سيراً خلف مقولة العلم، أن كل شيء يسير من البسيط إلى المعقد، فإن ما تقدم يعني أنه يطرح قاعدة جدية تقوم على تفكك، وحدة، تفكك، وربما في تكرار الحديث من مصادر إسرائيلية متفاوتة الموقع من الأعلى إلى الأدنى، حول مخاطر الحرب الأهلية في مجتمع الكيان، تأكيداً على اتجاه التفكك. ثالثاً: طرح العنوان أعلاه فرضية أن التفكك الإسرائيلي هو تفكك طبيعي، غير أن ما يسهم في تسريع وتعميق هذا التفكك هو المقاومة الفلسطينية، التي تدهش العالم بمقدار عنادها، وقدرتها على تحقيق المفاجآت، ولا سيما أنها تتحرك صعوداً من دون إنذار مسبق، إضافة إلى أنها تحقق ماهيتها على الرغم من ضخامة الشغل ضدها، ناهيك عن كونها تمثل بديلاً طبيعياً لمسار طويل من التنازلات.
وبمقدار ما تزداد شراسة العدو، بمقدار ما تزداد المقاومة، وبمقدار ما تزداد المقاومة كماً ونوعاً، بمقدار ما تفلُّ بحرارتها صلابة العدو، وتدفعه للانكفاء النفسي والمعنوي وتالياً المادي (العلاقة الطردية والعكسية) فماذا لو استندت هذه المقاومة إلى مشروع واستراتيجية؟
فعلى الرغم من كونها، أي المقاومة، لا تزال حالة أولية، بسيطة في تركيبها، وفردية في بعضها، تطوعية تستند إلى إرادة القتال وقرار الاشتباك، رد فعل وتفاعل مع مشروع جاهز للاستسلام، تفرضه مكونات فلسطينية متقاطعة مع اتجاه إقليمي، فإنها تحمل في داخلها إمكان التحول الاستراتيجي، بما يحولها معه إلى فعل واع وموجه، وتحميه بيئة أفلست من خيار الدولتين والتحول السلمي.
رابعاً: إن معاندة الوقائع لخيار الدولتين، هو أكثر من كافٍ لترشيد الوعي السياسي الفلسطيني، ولخلق قناعات مؤسسة على دراسة المحاولات التي بذلت، والموارد التي أهدرت في الركض واللهاث خلف هذا الخيار، ناهيك عن كونه يتعارض مع طموحات وأماني الشعب الفلسطيني.
إن هناك صعوبة بمكان، أن تتحقق عملية الفصل بين وعي وإرادة المكون الفلسطيني الرئيسي الذي يتبنى خيار الدولتين، ذلك أنها صارت تعبر عن منظومة مصالح فردية لهذا الفريق الذي يتحكم بإدارة الإرادة الفلسطينية. بهذا المعنى، فإن حركة المقاومة، أكانت تعبيراً تطوعياً عن إرادة أفراد قرروا تحمل مسؤولية الالتزام، من خلال الاشتباك مع العدو، أم كانت موجهة من قبل قوى المقاومة، فإنها تعبر فيما تعبر، عن رفض خيار الدولتين.
وعليه، فإن على القيادة الفلسطينية أن تقرّر، اليوم لا غداً، قراءة التاريخ، واستخلاص عبره وفرصه، مع التأكيد على تقدير مستوى الربح والخسارة؛ إنّ أي تأخير يعني المزيد من الخسائر، وعليها أن تقرّر مدى جدواها وجديتها في إدارة القدرات والجهود الفلسطينية.
خامساً: تعيش الحركة السياسية الفلسطينية مأزق الانقسام، وعلى الرغم من أن صعود اليمين الصهيوني الفاشي، والهجمة الشرسة التي تطاول الأرض الفلسطينية على امتدادها، والإنسان الفلسطيني، وعلى الرغم من تصاعد المقاومة وتقديمها كنموذج فاعل وقادر على إرباك حسابات العدو، ناهيك عن الاضطراب العالمي وما يوفره ذلك من فرص كبيرة، فإنها لم تخط خطوات نوعية تتجه باتجاه توحيد الرؤيا، التكتيكات والاستراتيجية، بما يطرح معه علامة استفهام كبيرة حول أداء مكونات الحركة السياسية الفلسطينية.
إنّ معرفة قدرات العدو وعيوبه، وإدراك تطوره السلبي (التفكك الداخلي)، كما رصد الإمكانات الفلسطينية، يفيدان في تبلور الحس المتفائل بالمستقبل الفلسطيني، فإذا كانت سردية الماضي تتأسس على العناد الفلسطيني وقدرته على حفظ الحق الفلسطيني، وإذا كان الحاضر ينتهي على شراسة في ممارسات العدو، تقابلها شراسة في المقاومة الفلسطينية، فإنّ الحس بالمستقبل الفلسطيني لا يجب أن ينتهي إلا على انتصار فلسطيني.

* كاتب وباحث فلسطيني