مدخل عامفي البدء، إنّ أي حديث عن فلسطين يقتطعها من عمقها العربي والإقليمي، هو حديث مجتزأ. فلسطين، في التحليل النهائي، رسمتها سايكس ــ بيكو. والمشروع الصهيوني، إنّما لاقى حاضنته الاستعمارية الغربية، لكونه «خندقاً غربياً متقدّماً في وجه البربرية الشرقية»، بكلمات مؤسّسيه. أي إنه يُعنى بتقطيع المنطقة وكبح جماح تطوّرها التنموي والعلمي والعسكري، بما يضمن بقاءها مستهلكاً تابعاً لطغم رأس المال، ويضمن بقاء مواردها مستباحة. أمّا غير ذلك، فهي تفاصيل، وسلوك الكيان منذ نشأته يؤكد هذا، وما العدوان على سوريا والأردن ومصر ولبنان والعراق، وغيرها، إلا ممارسة تبرهن النظرية. لذا، فالمشروع الصهيوني يمسّ العرب والفلسطينيين، ويُستبعد أن تحقّق فلسطين نصراً نهائياً بلا استفاقة وإسناد محيطها العربي القريب. فالجزائر احتاجت إلى حرب دامية كي تنجز استقلالها في ظرف دولي وفرنسي مناسبين، ذلك في جغرافية جبلية ملائمة جداً، وديموغرافية تنحاز لصالح الجزائريين، حيث فاق عدد الجزائريين عدد مستوطنيهم عشرة أضعاف، بينما يعادل عدد الفلسطينيين في الأرض المحتلة عدد مستوطنيهم، في جغرافية ساحلية وشبه صحراوية.
إنّ الأنظمة العربية تطبيعيةٌ في الأغلب الأعم، وتطبيعها ليس اعترافاً متبادلاً، بل هو إعلان للتحالف والشراكة، بعدما كانت مخفيّة لعقود. وما المناحة في إعلام الأنظمة عن فلسطين وشعب فلسطين إلا تحايل على الشعوب وإبعاد لعدائها للكيان عن التسييس وحصره في ميادين اللّطم والبكائيات. فحين تواصل الأنظمة شراكتها الأمنية وتضييقها على فصائل المقاومة والتزامها باتفاقيات تقديمها المجاني لمواردها للاحتلال، فذلك يذكّر بقول الفرزدق للحسين بن علي: «القوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك».
إنّ طغم رأس المال (الأميركية والأوروبية)، وأمامها ساساتها ومخابراتها، لم ترتوِ من تقطيع المنطقة العربية إلى عشرات الدول، بل تأمل بمزيد من التقطيع والتجزئة، وهي تتخذ سياسة تقوية النظام وإضعاف الدولة إزاء الدول العربية المطاوعة لها، وسياسة تدمير الدولة وتفكيكها إزاء الدول المناوئة لها، وتوظف في ذلك التمويل والتسليح والدعاية وصندوق النقد الدولي والانتفاضات الشعبية والحصار، وهلمّ جرّاً... وقد حققت انتصارات جزئية، وليس نجاحاً كاملاً. فموازين القوى في الإقليم لا تزال توحي بانقلابٍ بالاتجاه المعاكس والتحولات الدولية ليست في صالح عواصم العدو، ومشروع تدمير الدولة بما يُفضي إلى العودة إلى عصر القبيلة والمشاع فشل في سوريا بعد نجاحه في ليبيا، رغم كل التحديات التي تواجهها سوريا والتي تتصل بالحصار وإعادة الإعمار وملف اللاجئين والأزمات الاجتماعية وغيرها الكثير من العقبات التي أججتها الزلازل، ويؤججها القصف الإسرائيلي المتكرر الهادف إلى إهانة سوريا وردعها.
أمّا في جنوب لبنان، فالمقاومة رغم حصارها عربياً ولبنانياً فهي الهاجس الأوّل للاحتلال وأسياده وأذنابه على حد سواء، فهي أثبتت قدرةً على الانتصارات المتتالية، وبوصلتها ما زالت كما كانت ساعة الانتصار.

مكامن القوة ومفاصل الضعف
نشأت دولة الاحتلال على مقولة «الكبار يموتون والصغار يُنسون» ومقولة «أرض بلا شعب»، والمقولتان تجاوزتهما الأحداث منذ زمن بعيد بما يضع الاحتلال في مأزق؛ فالمقاومة الفلسطينية صارت في جيلها الرابع، أمّا الديموغرافيا التي راهن الاحتلال عليها من خلال تهجير الفلسطينيين بأعداد كبيرة، قد خذلته، فعدد الفلسطينيين في عموم فلسطين يساوي عدد المستوطنين، وهو مرشّح لأن يميل إلى كفة الفلسطينيين في العقود القادمة، فتزايد الفلسطينيين بالولادة يفوق تزايد المستوطنين بالهجرة والولادة معاً.
ولقد فشل الاحتلال، في بداياته، في تحييد الضفة وغزة عن الصراع، فاحتلّهما لاتقاء شرّهما -رفقة جملة عوامل أخرى أكثر أهمية- وكذلك فعل في لبنان عام 1982. إلا أن المناطق العربية التي احتُلت استشرت فيها المقاومة، حتى أدت إلى هزيمة الاحتلال في لبنان، وقضّ مضاجع المستوطنات بشكل واسع في الانتفاضة الثانية، بما أفضى إلى تخندق المستوطنين خلف اليمين المتطرف.
هذا التحوّل إلى اليمين يصل إلى ذروته في اللحظات الراهنة، حيث تنقلب دولة الاحتلال على ديموقراطيتها الداخلية، وتنحدر نحو الفاشية، تحت ضغط ضربات المقاومة وتطاول مدى صواريخها، ولا جديد في القول بأن دولة الاحتلال دولة عصرية ومحدّثة ولا ترتد عن الحداثة بسهولة، ومع هذا فالاحتلال متأزم، والاستقطاب السياسي والاجتماعي يصل إلى ذروته بما ينذر باغتيالات سياسية بين ساسة المستوطنين‌ (وحرب أهلية في أكثر السيناريوهات درامية). وأزمة الاحتلال ليست عابرة أو مستجدة، فهي قد برزت في الآونة الأخيرة بعد كمون، إلا أنها أزمة متجذّرة تتصل بعجز الاحتلال عن مقاربة مقولاته الأساسية بوقائع على الأرض، وعجز الاحتلال عن تذليل تناقضاته، وأيضاً عجزه عن كسب القبول أو فرضه في المنطقة، القبول به ليس فقط كجزء من المنطقة بل سيداً علينا (يذكر أن إيران تمضي قدماً في برنامجها النووي)، إضافة إلى أن تضامن الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة 1948 (يزيد عددهم عن المليون ونصف المليون) ارتقى مرتقىً صعباً أثناء معركة «سيف القدس» 2021، بل إنهم تمكنوا من طرد المستوطنين وشرطتهم من عددٍ من المناطق لساعات عدة، بما قد يكون «بروفا» لأمر أعظم في المواجهات المقبلة، وما قانون القومية والتطرف اليميني إلا جرٌ لفلسطينيي الداخل لمزيد من المواجهة قد تكون مؤلمة.‌
‌أمّا غزة، ففيها، رغم الحصار الخانق والأمعاء المتضوّرة، ورغم مزالق السلطة السياسية، مقاومة ممتنعة ومبدعة، قد صمدت في أربعة حروب واعتداءات عدة، وعديدها تضاعف وعتادها امتد كماً ونوعاً، ناهيك عن تحريرها ما يزيد عن ألف أسير في «وفاء الأحرار» (وسيناريو «وفاء الأحرار 2» يلوح في الأفق)، ونصرها المؤزّر في حرب 2014 حين استطاعت صد الاجتياح الإسرائيلي عن غزة، بما قد يعني انقلاباً استراتيجياً من الدفاع إلى الهجوم. وهي، علاوة على هذا، مسندة بقوى إقليمية تجند طاقاتها ضد الاحتلال وتقدّم جميع أنواع الدعم للمقاومة باعتراف الطرفين. ولا يخفى أن الحصار والأزمة المعيشية تشكّلان تحدّياً حقيقياً هنالك للسلطة القائمة والأهالي في آن، وإن أظهر أهل غزة صموداً أعجوبياً.
تبرعمت المقاومة المسلّحة المنظمة لأول مرّة منذ عقدٍ ونيّف، تُذكي نيرانها العمليات الفردية، وبالعكس، ويطويان معاً صفحة من حاضر الضفة


في الضفة المحتلة، تبرعمت المقاومة المسلحة المنظمة لأول مرة منذ عقدٍ ونيّف، تُذكي نيرانها العمليات الفردية، وبالعكس، ويطويان معاً صفحة من حاضر الضفة. صفحةٌ عُنونت بأموال المقاصة وأوهام التنمية والسلام الاقتصادي، ليخطان معاً عنواناً لصفحة جديدة، عنوانها الردع والاستنزاف وتناغم الساحات. ولئن كانت المجموعات القتالية في الضفة (وقد صارت عضويتها بالمئات بعدما بدأت أحادَ) لا تحقّق، حتى اللحظة، خسائر فادحة في صفوف الاحتلال، على عكس العمليات الفردية، إلا أنها كرة ثلج تتدحرج. فتزايد العمليات الفردية والمقاومة الشعبية (لم ينقطعا حتى في السنوات العجاف) يأتي ضمن المناخ الجديد الذي وفرته المجموعات القتالية، خاصة في جنين فنابلس، حيث خلقت نفسية ووعياً يقطعان مع ما قبلهما؛ حيث إذلال قوات الاحتلال وإجبارها على اتخاذ عشرات الإجراءات الأمنية -بعضها كاريكاتوري- ورفض المطاردين التعاطي مع تهديدات الاحتلال أو تسليم أنفسهم، وفرز نماذج جديدة في البطولة والتضحية، تصبّ كلها في توسيع نطاق الصراع في الضفة. بل إن المجموعات الفدائية أصبحت لها الشرعية السياسية اللازمة لإعلان إضراب، أو لحشد الآلاف في الشوارع في مختلف المدن كما حصل مرات عدة، فتكون المجموعات هذه مدخلاً لتأطر الشارع مجدداً، ويكون التفاف الشارع دافعاً للمجموعات القتالية للقفز إلى مستوى آخر، أي من الدفاع إلى الهجوم، ومن شبه السرية إلى السرية التامة.
تتدحرج كرة الثلج، ويتّسع نطاق الصراع ليدق باب كل بيت في الضفة، فيزداد بطش الاحتلال الذي يجري وراء حماية هيبته المتآكلة، فيستبدل سيفه بسوطه، والاغتيال بالاعتقال (اغتيل العشرات من المقاتلين في الأشهر الأخيرة)، فتتضاعف عضوية المجموعات القتالية، وتزداد العمليات الفردية وتتطور. هل نتسرّع في القول إن هنالك في الضفة مقاومة تقف على قدميها بثبات كتلك التي في غزة أو جنوب لبنان؟ من نافل القول إن حركات المقاومة لا تنشأ بين ليلة وضحاها، وإنها تبدأ خلاياً تصارع على البقاء والتوسّع. وليست الظروف الموضوعية في الضفة الغربية مواتية؛ الحواجز بالمئات والتنقّل مقيدٌ بشدة، ولا جبال أو غابات هنالك للتخفي، ولا حتى مدناً مليونية واسعة. كما أن تطور التكنولوجيا أدّى إلى انتشار الكاميرات، سواء تلك التي يضعها الاحتلال في الشوارع الواصلة بين المدن لمراقبة الفلسطينيين، أو تلك في شوارع المدن الفلسطينية والتي يسهل اختراقها من قبل الاحتلال. وقد سهّل انتشار الهواتف المحمولة في أيدي المقاومين ومحيطهم اغتيالهم، باعتراف ضباط الاحتلال، فالهواتف المحمولة «بمثابة عملاء» تراقب التحركات والاتصالات. أضف إلى ذلك المراقبة اللصيقة على المقاومين من السلطة الفلسطينية، التي تعلن تشاركها بياناتها الاستخبارية مع الاحتلال، وهي أيضاً تمارس الاعتقال والتعذيب بحق المقاومين، وتقدم الإغراءات والعروض لهم مقابل تركهم السلاح، بل أحياناً تتصدّى لهم بالتشويه والتحريض.
إذاً، تواجه المجموعات القتالية حزمة تحديات؛ أولها ردم التفوق التكنولوجي للاحتلال بإنتاج تكتيكات مضادة. وثانيها توفير شروط السرية التامة في مناخ معقد. وهي تجذّر شرعيتها وتكرسها كلما أوجعت الاحتلال بالانتقال إلى الهجوم عوضاً عن الدفاع، وكلما تكرست شرعية المجموعات القتالية (البؤرية إن صح التعبير) كلما صعبت على السلطة مهمة الهجوم عليها. وكلما تضاعف جمهورها كلما ضمنت تجدد عضويتها بعد عمليات الاغتيالات والتصفية، وهي بلا شك تقبض على الجمر وتواجه خطر التصفية، كتجربة وكأفراد.
لا مماراة في أن السلطة الفلسطينية عقبة بارزة أمام تطور أي حركة مقاومة في الضفة الغربية، فهي اليوم تعي أن لا أفق لها، فقد فقدت طموحها في الترقي إلى دويلة، وقبلت كونها إدارة ذاتية ووكيلاً أمنياً، ولم تعد تستمد شرعيتها من مشروع الدولة التي كانت «على مرمى حجر» منذ ثلاثة عقود. بل صارت شرعيتها ترتكز على الترهيب بشبح «الفلتان الأمني» إذا ما انحلت السلطة، وهو في واقع الأمر لا يعدو كونه شبحاً، فلا عصابات منظمة في الضفة على غرار أميركا اللاتينية، والاقتتالات العشائرية هنا وهناك تُسوّى عشائرياً كما بدأت. أمّا تناقضات السلطة اليوم، فهي خارج نطاق البرامج السياسية وتنحصر في تضارب المصالح الفئوية. وصحيح أنّ حزب السلطة متجذّرٌ شعبياً وذو باع في مواجهة الاحتلال، وصحيحٌ أيضاً أنه مغتمرٌ بالطاقات الكفاحية على صعيد القواعد والجمهور، إلا أنّ هذه القوى لا تجد، أو لا توجِد، تمثيلاً قيادياً لها في السلطة أو في حزبها، بما يستبعد سيناريو عام 2000 حين دفعت السلطة الانفجار الانتفاضي قُدماً لتتخذه عكازاً في جولات المفاوضات (على أن تحتويه وقد فشلت في احتوائه تماماً آنذاك). وقد أدت تلك المواجهة الواسعة إلى تصفية واعتقال مئات من كوادر وقيادات المقاومة من أعضاء حزب السلطة، بما أخلى الحزب لقيادته الحالية التي لا تتردد في الجهر بأنها تتّعظ من تجربة القيادة السابقة (حصار ياسر عرفات في المقاطعة والهجوم على مقرات الأمن عام 2002).
والسلطة ليست قيادتها فحسب، بل هي شبكة متشعبة من المصالح المادية والمعنوية تطال مختلف الفئات الاجتماعية، تتضمّن الرتب والرواتب والعلاوات والواسطات والاستثمارات والقروض والوظائف، وغيرها. كما تتضمن الوهم الأيديولوجي الذي ترعاه المدارس والمؤسسات والأدوات الإعلامية، بأن السلطة دولة، أو توشك أن تكون، أو أن السلطة ليست إلا امتداداً طبيعياً لسنوات العمل الفدائي. ولا عجب أن أي تهديد لوجود السلطة سوف يخلق استقطاباً اجتماعياً حاداً، نرى بوادره منذ سنوات، ولا غرابة في أن تتقوقع الفئات الأكثر تعلقاً بالسلطة ومنافعها على ذاتها، في حال تصاعدت ظاهرة المقاومة، وأن تنتج بروباغاندا معادية للمقاومة صيغة ومضموناً، وهذا يحدث أساساً، بقدرٍ أو بآخر، مع العلم أن الاستقالات من السلطة وحزبها أخذت لها طريقاً أثناء معركة «سيف القدس» 2021، و بعد اغتيال الشهيد نزار بنات.
إذاً، فسلطة الإدارة الذاتية في الضفة المحتلة لا مصلحة لها في أي انفجار من أي نوع، وهذا يتضح في سلوكها الميداني من اعتقالات وملاحقات لعناصر المجموعات الفدائية. وأزمة السلطة هي أزمة احتواء، إذ كيف تحتوي صعوداً جماهيرياً مُحتملاً دون أن تنجرّ إلى أي مواجهة مع الاحتلال هي ليست بصددها؟ وهل من سبيل إلى استئصال ظاهرة المقاومة إذا توسعت من دون أن تضع نفسها في مواجهة أوسع فئات شعبية؟
وفي الشتات البعيد، قفزت أعداد الفلسطينيين، والعرب عموماً، إثر الأزمات العربية في العقد المنصرم، وهم صاروا يشكلون مجتمعات كاملة داخل بلدان أميركا الشمالية وأوروبا، وهذا يغذّي يومياً الحركات الفلسطينية والمتعاطفة مع فلسطين، والتي نمت بعد معركة «سيف القدس» 2021، مع أفق لتطورها لتشكل ثقلاً سياسياً في عواصم العدو، وهي سلمية وقانونية بشكل كامل، ما يحميها ويصعب الهجوم عليها.

خلاصة
إنّ خريطة الأحداث في فلسطين تشير إلى أنّ المرحلة المقبلة مرحلة صدام لا مرحلة مهادنة، والاحتلال يتجنّد لذلك. وكل المؤشرات تؤكد أن معركة «سيف القدس» 2021 شكّلت لحظة قطيعة مع ما قبلها، خاصة أن موازين القوى إقليمياً ودولياً تسمح باشتباكٍ جديد. يراهن الاحتلال على هزيمة يوجّهها إلى الفلسطينيين عن طريق سحق الحالة المتصاعدة في الضفة الغربية وقلب الموازين. ولو حصلت هزيمة من هذا النوع لأعادت الضفة الغربية إلى حالة اليأس والعجز لسنوات طويلة. لكن الحالة العنيدة المتصاعدة لها مخالبها ولها مثالبها، وساعة المواجهة الأوسع ولحظة الفصل تقترب، والأطراف تتأهّب، والتاريخ مثقلٌ بالمفاجآت.

* كاتب عربي