كما يُحيل الجَدْبُ أرضاً خصبةً فتُضحي خِربةً بلقعاً لا نباتَ فيها، كذا تفعل الشعارات السطحية المكرورة بالفكرة والمشروع، ساحقةً في خِضمِّ صُراخها حنكةَ عمق النظرة الاستراتيجية، لِتُصبح بذلك الفكرةُ الصحيحة ذاتها أرضاً سبخةً، فلا هي تصلح لنمو مزروعات الفكرة ولا هي تنفع لإشادة البناء عليها.ثمة مفارقة عجيبة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين، فهم يقدمون بتفانٍ وشجاعة أسطورية أكثر مما يمكن لوطنهم وقضيتهم، يتمسكون بالهوية المعمَّدة بالدم، وذاتَ الوقت يتقاعسون عن رسم الخطط والمنهجيات التي تنظم مآلات ومسارات نضالاتهم، وتلك ميزة باتت متوارثة!
هنا تكمُن خطورةٌ غير مرئية تماماً، تحجب السؤال الذي يفضي إلى سراديب المعرفة، وتبدِّدُ في الوقت عينه الجهدَ المبذول حتى يُحالَ هباءً كأنه لم يكن، تلك واحدة من أهم أسباب الفشل في تحقيق ما ينبغي أن يُنجَز، فلا الانتفاضات تفضي لغاياتها ولا الثورات تُسقط واقعاً قائماً، وهنا يمكن استنتاج حقيقة مفادها أن النضال يشبه عدمه في حال لم يتكامل وينتج من استراتيجية متماسكة، تحدد زمانها ومكانها ومساراتها ومراحلها قبل تاريخ بدئها أو إطلاق فعاليتها.
لا تُثمر الثورات ما لم تنطلق من نواة البذرة- الفكرة، فتنتج ثقافتها، وبالتالي تنمو بذاتها فتحقق بالتدرج شروطَ ومناخات الولادة الطبيعية حتى تصل حالةَ الإثمار والنضج فتندلع، كل ثورة لا تحقق ذلك مصيرها الفشل.
في فلسطين اليوم ترتكز جهود الفدائيين على قدرة عالية في التضحية بما يتضمنها من شجاعة حقيقية ومخزون وطنية مكتمل الملامح، ولكن السؤال الخطير هو: هل يرتكز ذلك على نظرية ثورية؟
تبدو الإجابة صعبة هذه الأيام، نظراً لعدم تبيُّن الحالة كما ينبغي، يمكن تطبيق ذلك على ما يجري في عموم فلسطين ومداراتها الزمنية، على البرنامج والطرح السياسي، هناك منطلقات صحيحة ومشروعة نعم، لكن لا نظرية واضحة متكاملة، ربما باستثناء الميثاق الوطني القتيل، يدلنا على ذلك تقدير مستوى التفوق الوطني والأخلاقي على الاحتلال وممارساته وهمجيته، لكن لا دليل شاملاً على التفوق الفكري، ولا يُعنى بذلك الأفراد كثقافة بقدر ما يُقصَد بذلك نقد غياب النظرية الحاملة للحراك الثوري. فبعض شعارات تشييع الشهداء -مثلاً- ذهبت إلى التعبير الخاطئ عن الغاية والهدف، وكانت هتافات المشيعين -على وطنيتهم الصادقة- تذهب لاستخدام لغة لا ترتقي إلى سويتهم ذاتها، مثل الهتاف بأن الاستشهاد نَيْلٌ لِحُورية تنتظر في الجنة، أو المباركة بالاستشهاد باعتباره رغبة وأمنية بحدِّ ذاته!
إذا كانت الشهادة مطلباً وحيداً للفدائي، فهذا يعني بأن النازية الصهيونية تفعل فعلاً إيجابياً عندما تقتل وتغتال مقاتلين أو مواطنين أو أطفال باعتبارها تفتح للشهداء طريقَ الجنة. تلك خطيئة تخلّف الخطاب التي تخدم العدو ذاته وتدعم نظرياته التي تبث سمومها باعتبار أن الفلسطينيين «كارهون للحياة ويحبون الموت». وللعلم، فهذه إحدى ترويجات الصهيونية عالمياً ومن مبررات حلفائها لتسويق «براءة» فعل القتل. فالشهيد هنا يبدو كأنه يطلب من الاحتلال قتله الذي سيوصله نحو الجنة، وهذا يرفع الذنبَ عن القاتل الصهيوني الذي لم يفعل سوى تحقيق رغبة الفلسطيني!
تلك معادلة معقدة، للعلم هي لا تمت للإسلام أو الإيمان بِصلة، وإنما من اختراع بعض أقطاب الإسلام السياسي المؤَسَّس من قبل العدو ذاته. فالشهادة في الإسلام ليست غاية بحد ذاتها، وإنما ميزة تُكافَأ بعد التضحية، والمقاتل أو المجاهد لا يسعى للموت بقدر سَعيه لتحقيق العدالة ورفع الظلم والدفاع عن المظلومين، وفي هذا السياق إنْ حدثت واقعة الشهادة نالت رضى الله وكسبتْ الجنة كمكافأة للتضحية في سبيل الحق والمقدسات والوطن، هي ليست غاية بل نتيجة فعل إيماني وأخلاقي راقٍ.
الأخطر مما سبق أن هذا النسق الخطابي يوحي بتراجُع منطق الحق ويُفني المقولة الثورية مُظهِراً «تخلفها» مقابل الاحتلال «المتطور ذي الخطاب المنطقي» مقارنةً بالخطاب ذي المفردات الدينية التي لا تحسم أمر تعريف ذاتها، وتفقد التعبير عن هدف تحقيق التحرر الوطني. وهو ما يحمل خطورة المقولة التي تتماهى مع السطحية السياسية الناتجة منها باعتبار أن القتال ليس في سبيل حرية ونيل استقلال وتحقيقٍ لِحَق، بل طلباً مُجرَّداً للموت، مما يضمن تفوقاً أخلاقياً للقاتل على الضحية. تلك مفارقة جِدُّ غريبة! فالصهيونية ذات منشأ يعتمد الخطاب الأساطيري الديني الشعبوي المتخلف المُستندِ للخرافات السخيفة ويتخذ في الوقت ذاته شكلاً خارجياً «حضارياً»، أمّا المقاومة الفلسطينية التي تمتلك كل الحق وعلى أساس عملي وقانوني ترتمي في بئر الخطاب المؤدلج دينياً في جزء منها، وهو إنقاذٌ ودعمٌ للخطاب الصهيوني، الذي يسعى لترويج مقولاته الكاذبة عن التفوق الثقافي والحضاري العرقي والديموقراطي، وهذا غير موجود ولا هو حقيقي، ما يعطيه مسحة «مصداقية» هو تخلف الخطاب الفلسطيني الذي يُفترض أن يعتمد على قانونية وأحقية منطقية في مشروعية نَيْله لِوطنه.
إنّ أي خروج عن مقولة أنّ فلسطين محتلة، وأنَّ من حق أهلها تحريرها بالكامل وإعادة اللاجئين إلى ديارهم وبشتى الوسائل الممكنة، يُعطي المشروعية للاحتلال المجرم. فإن كان الاستشهاد مطلباً وحيداً يمكن إذاً أن يكون في أي مكان آخر وضد أي كائن آخر، وبالتالي لا ضَيْرَ من تكرار تجربة المجاهدين الذين تركوا أوطانهم المحتلة وجندتهم أميركا والأنظمة الحليفة لها للقتال ضد السوفيات في أفغانستان، فنالوا الشهادة هناك، وللعلم لم يستشهد أي منهم في فلسطين!
إنّ الطريق نحو الجحيم معبّد بالنوايا الطيبة، والطريق نحو فلسطين واحد بغض النظر عن قناعات سائريه، هو الطريق نحو الحق والحرية، طريق التحرير من أجل حياة كريمة تكنس الاحتلال عن كامل البلاد ومن أجل الإنسانية كافةً. كل ذلك لن ينجح من دون استراتيجية، لا خطاب، والاستراتيجية لا تكون إلا عبر ثقافة ثم نظرية ثورية. الخطاب العلماني الفضفاض السطحي بِدوره لا يختلف عن ذلك الخطاب «الديني»، فالخطاب غير الذكي بكل فروعه قاتل للثورة ومانع للانتصار، هذا ما تقوله تجارب ثورات فلسطين منذ قرن خلا، وما يحكيه التاريخ عن أسباب فشل الثورات في غير مكان.
لا تكتفي الشعارات ببث ذاتها، وإنما تقضي على إمكانية نهوض الثورة الحقيقية، فالثورة عمق والخطاب سطح حائِطيٌّ أصم!

* كاتب فلسطيني