حملة الاعتقالات الأخيرة في تونس، التي شملت عدة شخصيات، سياسية ومن رجال الأعمال، متهمة جميعها بالتآمر ضد أمن الدولة، تعزز الانطباع بأن البلاد تمر بمرحلة حاسمة من تاريخها، أضحى خلالها تطلع التونسيين إلى مشروع سياسي واقتصادي بديل، والذي عبّرت عنه انتفاضة 17 كانون الأول 2010، مهدّداً بشكل جدّي. هذه الحملة، غير المسبوقة منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي، أحيت المخاوف من إرساء نظام سلطوي جديد في سياق اقتصادي واجتماعي شديد الاضطراب. إضافة إلى ذلك، يأتي بيان الرئاسة التونسية، الصادر إثر اجتماع مجلس الأمن القومي، والذي ينص على «اتخاذ إجراءات عاجلة ضد الهجرة غير الشرعية لمواطنين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء»، والذي يرى في وجودهم في تونس مصدراً لـ«العنف والجرائم والأفعال غير المقبولة»، ليضفي مضموناً عنصرياً على المنحى الاستبدادي الراهن.الاستنتاج الذي تؤكده مجمل هذه التطورات هو أن المنظومة الأمنية، المؤلفة من النظام القضائي والشرطة والجيش، تحاول إعادة تنظيم صفوفها في ظل قيادة قيس سعيد. الدولة والمجتمع في مواجهة تهديد غير مسبوق. 12 عاماً بعد سقوط بن علي، يجد التونسيون أنفسهم أمام دولة فاشلة يحافظ على بقائها نظام أمني عبر اللجوء الحصري إلى القمع. والأنكى في مقابل مثل هذا التحدي، هو عجز القيادات السياسية المختلفة التي توالت على السلطة منذ 14 كانون الثاني 2011 على التقييم الصحيح لتداعيات القرارات، القصيرة النظر والمتجاهلة للواقع المعاش للشعب التونسي، التي اتخذتها. فهي تخلت ببساطة عن سيادة تونس لمصلحة الجهات الدائنة. هل ما زال الخلاص من هذا الوضع ممكناً؟
الجواب على هذا السؤال قد يكون بالإيجاب، بشرط أن تقرر الطبقة السياسية بأطيافها كافة، في السلطة وفي المعارضة، القطيعة مع منطق الإذعان، والخروج من حالة الانحلال التي أوصلت نفسها إليها. يفترض مثل هذا المسعى وضع الأحداث المستجدة في السياقات التي سادت خلال العقد الأخير.

تسارع انحلال الدولة بفعل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
انتفاضة 17 كانون الأول 2010، التي انطلقت من المناطق المهمشة، وكان للعاطلين من العمل دور ريادي فيها، حول شعاري «الشعب يريد إسقاط النظام»، و«شغل، حرية، كرامة وطنية»، أظهرت بجلاء الاختلالات البنيوية في الاقتصاد التونسي، المرتكز على أنشطة اقتصادية ذات قيمة مضافة ضعيفة، والذي يعاني من معدلات بطالة بين الأعلى عالمياً، ومن إدارة ريعية للموارد الطبيعية، ومن فساد منظم واسع النطاق بإشراف العائلات الحاكمة. وفي حقبة ما بعد 14 كانون الثاني، تنامت في تونس ظاهرتان عجلتا من انحلال مؤسسات الدولة. في مرحلة أولى، تمحورت التحديات السياسية حول مسار البناء المؤسساتي، الذي كان يفترض أن يقود إلى الاستقرار السياسي ويتيح الانتقال إلى نظام ديموقراطي. جميع الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى صنفت «هامشية»، وغير ذات أهمية، مقارنة بما اصطلح على تسميته «التحديات الفعلية» للدمقرطة. وقد أدّى التنافس المحتدم بين النخب السياسية والاقتصادية القديمة من جهة، وتلك الجديدة، بخاصة المرتبطة بحزب «النهضة»، من جهة أخرى، للتحكم بالسلطة إلى إضعاف جميع مؤسسات الدولة. تزامن ذلك مع ضغوط الجهات المانحة لمصلحة اعتماد نفس الوصفات النيوليبرالية المسؤولة لدرجة كبيرة عن تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. وكانت هذه الجهات، في الفترة التي تلت الثورة مباشرة، قد أقرت بخطاياها وبسوء تقديرها للأوضاع في البلاد. لقد أفضى تضافر المنطق النيوليبرالي مع سيادة الزبائنية في ممارسة السلطة إلى انحلال مطرد للدولة وإلى إضعاف للحمة المجتمع. وبطبيعة الحال، فإن الأزمات الإقليمية المختلفة ومحاولات التدخل الخارجي لم تسهلا معالجة الفوضى المؤسساتية المتزايدة. إلى جانب هذه الأعطاب البنيوية، أسهمت عوامل ظرفية، كجائحة «كورونا» والحرب في أوكرانيا، في تعميق المأزق الذي تواجهه البلاد.
المشهد قاتم، وتونس تتحول من سجن في الهواء الطلق إلى جحيم بحدود موصدة، بغية تجديد العقد النيوكولونيالي بين النخب المحلية والنخب الغربية


عن استحالة إصلاح جهاز الأمن
هذه الفوضى المؤسساتية كانت لها مفاعيل جدية بالنسبة للسلطة الأمنية في تونس. لا بد من التذكير بداية بأن السلطة الأمنية في تونس أيام نظام بن علي، كانت مجيرة لخدمة السلطة السياسية. هذا ما يفسر وضع مسألة تغيير طبيعة الجهاز الأمني، بخاصة وزارة الداخلية، الأداة الأولى للسيطرة والتحكم الاجتماعي وللقمع، على رأس جدول الأعمال السياسي بعد هروب بن علي. وعلى الرغم من القرارات المتخذة، كحل الشرطة السياسية وإدارة أمن الدولة، وبروز لاعبين جدد كالنقابات، فإن نتائج مثل هذه القرارات كانت محدودة الأثر. ففي هذا الميدان أيضاً، دفع التنافس اللاعبين السياسيين إلى تغليب أجندتهم الخاصة عبر تعيين أنصارهم في المؤسسات، وبناء التحالفات في داخل مؤسسة الشرطة.
النفوذ المتنامي لنقابات الشرطة وانتشار الزبائنية وغياب الإرادة السياسية وضعف الإمكانات المالية هي جميعها عوامل حالت دون صياغة سياسة عامة أمنية تحترم كرامة المواطنين وتصون المصلحة العامة. في ظل هذا التنظيم الجديد لسلطة أمنية بلا قيادة مستقرة وواضحة، كما كانت الحال أيام بن علي، من غير المستغرب أن يكون القمع المنهجي هو الوظيفة الغالبة والثابتة بين وظائف السلطة الأمنية في ظل الحكومات المتعاقبة منذ 14 كانون الثاني.
سلطة أمنية ضامنة للسيادة التونسية أو حارس خانع لحدود الموت الأوروبية؟
قرّر قيس سعيد إنهاء النظام البرلماني في تونس في 25 كانون الثاني 2021 وفي سياقات انحلال الدولة وتزايد ضعف النظام الأمني وتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. وهو، على الرغم من أنه جسّد أملاً بالنسبة لحركة شعبية، ليست من نمط الأحزاب البرلمانية، صوتت لمصلحته، لم يتمكن من تقديم حلول تسمح بالتصدي للتحديات التي يواجهها الشعب التونسي. فالرئيس، الذي ليس لديه حزب سياسي ولا سلطة اقتصادية داعمة له، لا يجد سوى لاعبي النظام الأمني، وبخاصة وزارة الداخلية، كمحاورين وفاعلين يعتمد عليهم. تحليل التطورات التي برزت في الآونة الأخيرة ينبغي أن يتم على ضوء هذه الوقائع:
فإذا كانت حملة الاعتقالات قد كشفت أولاً إرادة السلطة الأمنية في تونس باستعادة سيطرتها، فإنها في الآن نفسه قد أوضحت عجز حكومة قيس سعيد عن معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ثانياً، الخطاب السيادي لقيس سعيد لا ينسجم بتاتاً مع إذعان حكومته للأوروبيين. وعندما يتبنى نظرية «الاستبدال الكبير» حيال المهاجرين الأفارقة، وهي نظرية أطلقها اليمين المتطرف الأوروبي، يكرّس سعيد دور تونس كوكيل للسياسة الأمنية الأوروبية في مقابل بعض المكافآت المالية. السيادة التي يكثر الحديث عنها، على غرار سابقيه، لا تعني في الواقع سوى قدرته على قمع معارضيه، وعلى مراقبة حدود أوروبا، التي يتساوى في الموت دونها مواطنون من تونس ومن دول أفريقيا جنوب الصحراء. هذه المواقف التي تتجاهل الواقع الراهن للدولة والمجتمع تفسحُ المجال أمام أقصى أشكال العنف الاجتماعي والسياسي، ويبعث الوحش الأمني من رماده، في قلب دولة مفككة وفاقدة للقدرات، ليضرب بقوة أكبر.
المشهد قاتم، وتونس تتحول من سجن في الهواء الطلق إلى جحيم بحدود موصدة، بغية تجديد العقد النيوكولونيالي بين النخب المحلية والنخب الغربية. مضمون هذا العقد واضح، ولم يتغير منذ بن علي. يجب أن تبقى تونس، وبقية القارة الأفريقية، خزاناً لليد العاملة لأوروبا، وللموارد الطبيعية الرخيصة، وسوقاً تتدفق إليها المنتجات، ولكن ذات حدود موصدة أمام حرية حركة الناس. سيرحل قيس سعيد، على غرار بن علي، ولكن ما العمل للتصدي لنظام الموت السياسي والاقتصادي، الذي يمتلك مقدرة مذهلة على التكيف؟ الإجابة ليست سهلة. ربما علينا أولاً التفكير ملياً في أخطاء الماضي.

* باحثة من تونس ، أستاذة الاقتصاد
في جامعة دوفين - باريس