لم يعد ما حققته البشرية أثناء القرنِ العشرين من القدرة على التدمير الذاتي هو ما يهدد الكوكب في القرنِ الحادي والعشرين، ولكنها كارثة لإنهاء كل الكوارث، كارثة لا تترك بشراً وراءها ليسجلوها، ويتأملوها، ويستخلصوا درساً منها، ناهيك عن التعلّم من هذا الدرس وتطبيقه. فالبشرية تمتلك الآن الأسلحة اللازمة كافة للانتحار الجمعي لتدمير نفسها وما تبقى من الحياة على هذا الكوكب؛ ليست الرؤوس النووية التي تعج المستودعات الحربية بها أسوأها، بل تحويل الكوكب إلى فضاء لا يطيق البشر العيش فيه. وعلى عكس أوّل درس تعلّمه أسلافنا القدماء، في التصرّف بناءً على البيئة والتكيف معها، أنتج الطابع التقني والفعال الغريب للهيمنة البشرية على الطبيعة خلال السنوات الـ250 الماضية عالماً على حافة الهاوية، حيث أصبحت العواصف وأمواج تسونامي والزلازل وحرائق الغابات أموراً روتينية. تلك العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم لخّصها المؤرخ الأميركي ويليام ماكنيل، حين قال إنّ «خطر الكارثة هو الجانب السفلي من الحالة الإنسانية وهو ثمن ندفعه مقابل القدرة على تغيير التوازنات الطبيعية وتحويل وجه الأرض».
(تيم روبنسون)

لا تزال قصص الدول التي تكافح بمفردها ومعاً، للتخفيف من تأثير الكوارث البيئيّة تُلهم الشعوب، بناء على اعتقاد راسخ هو أنّ الدول موجودة بالأساس لحماية المجتمع من وقوع الكوارث الحتمي، وأنه يمكن، بتحليل المخاطر الطبيعية والجهود البشريّة بدقة وغربلة العقلانية والخبرة من الفوضى والخطأ البشري والإهمال والفشل التكنولوجي، يمكن التحكّم في الكوارث وإدارتها. هذه السرديّة تعرّضت للتهديد في السنوات العشرين الماضيّة، شاهدنا الدول والمؤسسات الدوليّة تفشل مراراً وتكراراً في إحباط أو منع تأثير المخاطر الطبيعية والإخفاقات التكنولوجية على حدّ سواء، بل ورفضت تحمل المسؤوليّة عن ظاهرة الاحتباس الحراري ومحاولة معالجة الأزمة بجديّة. واليوم يطرح تساؤل في المجتمعات كافة عن قدرة الدول على حماية مجتمعاتها من الكوارث، بل هل تريد الدول حماية مجتمعاتها من الكوارث حقاً؟
لفهم العلاقة الجامعة للدول والكوارث، علينا التطرق لوقت نشأة وميلاد مفاهيم الدولة وما دار بين السلطة الكهنوتية والسلطة الماديّة من صراع حوّل استغلال الكوارث الطبيعيّة في بناء شكل السلطات الوليدة، وتعاطي الدول بعد النشأة مع الكوارث وصولاً للحظة الفارقة الآنيّة في عمر البشريّة، وبعد الفشل المحتوم لتلك السلطة في حماية مجتمعاتها من خطر الفناء، كيف سيصبح شكل السلطة المستقبليّة؟

الكوارث ونشأة الدول الحديثة
في عام 1720 اكتُشف انتشار وباء قاتل في مارسيليا بفرنسا؛ كانتْ الأعراضُ متنوعةً ويصعبُ تشخيصها، والجراحونَ المحليونَ كانوا في حيرة من أمرهم بسبب الأعراض التي لا تعدُّ ولا تحصى وغير المتسقة مع ما يعرفونه من أوبئة، لذا دعا مسؤولو البلدية -ذوو رد الفعلِ السريع- جراحينَ مُختصين من خارج مارسيليا في أوائل تموز 1720، وصفَ هؤلاء الخبراء الزائرين الأعراض بأنها ناتجةٌ من «حمى الأوبئة». لكن أعضاء الـ é chevinage الفرنسي (مثل أعضاء مجلس النواب) اختاروا الإعلان عن انتشار وباء، وأصرّوا في تقاريرهم على أنها حمى خبيثةٌ، وأمر مسؤولون في إدارة المقاطعة بعد شهرين من انتشار الجائحة وأكثر من عشرة آلاف جثةٍ، بإشعال النيران في سفينة غراند أنطوان التي نقلت الوباء على ظهرها قبالةَ جزيرة جار جنوب مارسيليا.
وسّعت السلطة مساحة المراقبة للأطراف كافة، ففُحص سكان الأحياء الفقيرة في المدينة، وعُزل الضحايا في اللازاريت (المكان المخصص لحجر الركاب وأفراد الأطقم والبضائع المشتبه في إصابتها بالطاعون) فيما عُزل آخرون داخل منازلهم حتى اعتبروا مصابين بما يكفي لنقل الأسرة بأكملها إلى المستشفى. وعيّنت السلطةُ «عناصر صحيةً» وأعطوهم مفاتيح المنازل، وكل يومٍ يسير الحراس من بابٍ إلى بابٍ لإحصاء الوفيات وجمع المعلومات الطبية والتواصل مع المعرضين للخطر. كما حظرت التجمعات العامة بموجب القانون، ومع تصاعد عدد القتلى فرّ الآلاف من المدينة، ثم مُنعت مدينة مارسيليا من التفاعل مع بقية المدن، بعد أن اندلع مزيد من الذعر عندما اقتنع أحد الجراحين الأصغر سناً بأن العدوى كانت الطاعون، وكتب عن قلقه لزملائه في البلديات المحيطة. بحلول نهاية آب، امتلأت المستوصفات، بينما كان آخرون ينتظرون الموت في منازلهم. وبحسب بعض الروايات، فإنّ الناس الذين تغلظت قلوبهم من شدة الخوف، رفضوا مساعدة أحيائهم، حتى مات الأطفال الأيتام. وفي جميع أنحاء المدينة، حُملت الجثث من الأحياء السكنية إلى المستشفيات، وأُلقي الكثير منهم في البحر حتى طفت كلها على سطح الميناء. تمّ إضفاء الطابع الرسمي على عمليات التنظيف من خلال مرسوم حكومي يطلب من المواطنين إخراج الجثث إلى الشارع حيث سيتم نقلهم إلى ضواحي المدينة، وكانت العمليّة بطيئة؛ إذ كان يموت عدد من الناس في يوم واحد أكبر مما يمكن إزالته. طوعت السلطة المتسوّلين والمشرّدين وأجبرتهم على حمل الموتى ودفنهم في الجير. حتى أصبح من الصعب العثور على المشردين في الشوارع؛ وتمّ وعد المسجونين بحريتهم مقابل التنظيف، وبحلول نهاية أيلول كان 260 من المدانين قد انتشلوا أكثر من عشرة آلاف جثة، ومات العديد منهم في الشوارع أثناء التنظيف.
لم تكن الأوبئة غير شائعة في أوائل أوروبا الحديثة. لكن تعد أحداث مارسيليا مثالاً على سلطة إدارة الكوارث، ليس فقط بسبب حجم الدمار الذي عانى منه شعبها، بل لأنّ الغرائز الإدارية والتقنيات والمؤسسات التي غيّرت المدينة بحفظ وتطبيع التعرّف إلى العدوى ومصدرها وتأثيراتها وتشخيصها وعلاجها، عزّزت سيطرة الدولة الفرنسية حتى في ظلّ وفاة الآلاف داخل أسوار المدينة. التحوّل الذي شهدته مارسيليا في قوانينها وإدارتها، والاقتصاد السياسي، والثقافي، وموانئها، وغاباتها، وشوارعها، وغرفها، في نصف القرن الذي سبق ظهور الطاعون، هو دليل على أن الحكام رأوا إدارة الطاعون مرادفة لمعنى الدولة.
في القرن الثامن عشر، أعاد الحكام اكتشاف الكوارث كأزمات حديثة من خلال فصل حدوثها وعواقبها عن التصرف الإلهي الذي كان متبعاً من قبل المؤسسات اللاهوتية. لتبدأ ابتكارات عصر التنوير في التنمية والاقتصاد السياسي، ومعالجة المعلومات، والأمن، والتخفيف من المخاطر، واحتكار الحشود. كلّ هذا سمح للحكام المحتملين بتخيّل ثورة سياسية جديدة وحديثة، يمكنها حماية الرخاء والنظام العلماني من خلال ترشيد العلاقة بين المجتمع وبيئته. فبدلاً من الاستعداد لمواجهة القوى الطبيعية بالصلاة والتكفير عن الذنوب، بدأت السلطات الحديثة في الاستعداد لمواجهة القوى الطبيعية، من خلال الاعتماد على المعرفة التجريبية والسياسات العقلانية.
حين ظهرت الدول الحديثة للمرة الأولى بشكل افتراضي للسلطة الإقليمية، من خلال الحفاظ على وجود وتجربة الكوارث من دون مساعدة إلهية، وليس القضاء عليها، ومن منطلق أنّ الكوارث تظلّ تمثّل من خلال حجمها وشدّتها انحرافاً كبيراً عن الظروف الطبيعية للحياة، بناء عليه طورت الدول آلية استثنائية متخصصة مصممة لتجنب أو التعافي من مثل هذه الأوقات. غيّر ذلك التوجّه المفعم بالمادّية، طابع الحوكمة الهرمية في إنكلترا وأوروبا الغربية، لتتشكل سلطة تُلبّي الحاجة الآنية في الحفاظ على المواطنين من الكوارث، من دون الحاجة لمساعدة «الرب»، وتوصف تلك الإدارة الجديدة بـ«الدولة الحديثة».
لاحظ الكاتب والباحث Saptarishi Bandopadhyay، الأستاذ المساعد بجامعة يورك الأميركية، في كتابه «All Is Well: Catastrophe and the Making of the Normal State» تلك العلاقة - علاقة الكوارث بنشأة الدولة الحديثة. عاد الكاتب للحظة انبثقت فيها تلك السلطة الوليدة الشبيهة بالدولة في الظهور في جميع أنحاء أوروبا، خلال القرن الثامن عشر، جراء المنافسة الدموية بين الحكام العلمانيين والمؤسسات اللاهوتية، وكيف دعمت طبقة الحكام حينها مجموعة ناشئة من العلماء السياسيين أمثال الفرنسي فولتير، والذين أصروا على أنّ عدم القدرة على السيطرة على البيئة بشكل كامل يُجنب البشر المخاطر، يمكن إتقانه بالعقلانية والإبداع.
تأثر العلماء المُنظرون للدولة الحديثة بأسئلة الكوارث، مثل الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، صاحب «اللفياثان»، والفيلسوف الإنكليزي جون لوك، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وأتت نصوص هؤلاء العلماء لتفترض أنّ البشر في حاجة لعمل عقدٍ اجتماعي يبرم بين الشعب والدولة، إذ يكون العقد الاجتماعي والنظام السياسي الذي ينشأ عنه، هو وسيلة للوصول إلى غاية، والغاية هي منفعة الأفراد الذين يشملهم العقد الاجتماعي، أي مواطني تلك السلطة. وحاجّ الفلاسفة أمام الهجوم اللاهوتي بأنّ البشر في الظروف الطبيعية لا يمكن السيطرة عليهم، ويطغى شعور البشر بالخوف المستمر وخطر الموت العنيف والانعزال والفقر. ولذلك، ومن أجل تجنُّب تلك الكوارث، على البشر أن يتقبلوا تلك السلطة الجديدة. وافترضت هذه النصوص أنّ الدول موجودة لحماية المجتمع من الحدوث الحتمي للكوارث، عبر تحليل دقيق للمخاطر الطبيعية والجهود البشرية، وغربلة العقلانية والخبرة من الفوضى والخطأ البشري والإهمال والفشل التكنولوجي.
خلال القرن الثامن عشر، كان الصراع حول السلطة السياسية مقروناً بالحلم الحداثي في بناء مجتمع «طبيعي» يتم حماية الرخاء والنظام فيه من خلال العقلانية والمعرفة العلمية بالطبيعة. دافع المتنافسون عن رؤى مختلفة لأفضل السبل لمواءمة الحدود بين الحضارة (النظام الاجتماعي) والبيئة (النظام الطبيعي) لمنع الكوارث المستقبلية.
تعدّ أحداث مارسيليا مثالاً على سلطة إدارة الكوارث، ليس فقط بسبب حجم الدمار بل لأنّ الغرائز الإدارية والتقنيات والمؤسسات التي غيّرت المدينة عزّزت سيطرة الدولة الفرنسية


ومع ذلك، على عكس الله، لا يمكن الوثوق بأيّ مجموعة بشرية للقيام بهذا الدور، لذا، قدّم الحكام المحتملون أنفسهم كسلطات نموذجية من شأنها إجراء هذه المواءمة بشكل روتيني وجعل المصائب مقبولة، كجزء لا يتجزأ من الحياة وضريبة وجب دفعها لأجل «تشكيل الدولة» على عكس المؤسسات اللاهوتية وسلطة «إدارة الكوارث» المتمثلة في طلب العون من قوى مهيمنة أقوى من البشر وهي «الله».
بالتأكيد، في ظلّ الدولة الحديثة، شاهدت البشرية تطوراً اقتصادياً وتكنولوجياً واجتماعياً وأخلاقياً. يمكننا ببساطة المقارنة مثلاً مع حياة رجل غني في بريطانيا في عام 1700، لديه إمكانية الوصول إلى أفضل الأطعمة والرعاية الصحية والكماليات المتاحة في ذلك الوقت. لكن، على الرغم من كل مزاياه، يمكن لمثل هذا الرجل أن يموت بسهولة من الجدري، أو الزهري، أو التيفود. وإذا احتاج إلى عملية جراحية أو كان يعاني من وجع في الأسنان، سيكون العلاج مؤلماً ويحمل خطراً كبيراً للإصابة بأمراض أخرى. إذا كان يعيش في لندن، فإنّ الهواء الذي يتنفسه سيكون ملوثاً 17 ضعفاً مما هو عليه اليوم. والسفر حتى داخل بريطانيا قد يستغرق أسابيع، وكان الوصول إلى معظم الكرة الأرضية يتعذر عليه تماماً. ولو تخيل مستقبلاً يكون فيه معظم الناس أغنياء مثله، لكان قد فشل في توقع العديد من الأشياء التي تحسن حياتنا، مثل الكهرباء والتخدير والمضادات الحيوية والسفر الحديث. وليست التكنولوجيا فقط هي التي حسنت حياة الناس؛ فالتغيير الأخلاقي فعل ذلك أيضاً. في عام 1700، لم تتمكن النساء من الالتحاق بالجامعة، ولم تكن الحركة النسوية موجودة. ففي أواخر القرن الثامن عشر، كان ثلاثة من كل أربعة أشخاص على مستوى العالم ضحايا لشكل من أشكال العمل القسري؛ والآن أقل من 1 في المئة.
على الرغم من التأكيد الظاهر على اعتبار التطور الحضاري امتيازاً للجميع وقابلاً للتطبيق على الجميع، فإن تلك الجهود جاءت إذا جاز التعبير على مقاس الصّفوة المنتقاة من سكان الكوكب، حتى وإن لم يُعلن عن ذلك صراحة.
فبينما ظلّت الدول تعتنق هذا السعي الحداثي للحياة الطبيعية، وتحقيق هذه الغايات من خلال تجارب كبيرة في الحداثة الإدارية التي تتماسك حول السيطرة التكنولوجية العلمية على عدم اليقين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإيكولوجي، كان، على النقيض من ذلك، يعيش معظم العالم بعيداً من واحة الازدهار والنظام هذه، حيث تخضع شرعية الدولة دائماً للشك والتلاعب والخصام من قبل «المجتمع الدولي» بالإضافة إلى معاناتهم من عدد غير متناسب من المخاطر والكوارث الطبيعية. كانت تلك الدول بدأت في فك أغلالها الاستعمارية ونجاتها من رف المنافسات الجيوسياسية، ليبدأ المحتلون السابقون في إقناع تلك الدول بالسعي إلى نظام طبيعي جديد: نوع من الدولة «الأمنية التنموية»، وعلى عكس نموذج دولة الرفاهية الغربية المنغلق، تطور نموذج دولة «الأمن التنموي» وفقاً لمخاوف العالم الغربي من تأثير أزمات العالم الثالث الحتمية على مصالحهم. فالظلم المتزايد ليس أثراً جانبياً عابراً للحضارة الإنسانية يمكن إصلاحه، ليس أثراً جانبياً لأعمال غير ضرورية متهورة ومفتقرة إلى الرقابة الكافية، وليس نتيجة لخلل مؤسف قابل للإصلاح في منظومة سليمة في جوهرها، إنه جزء مُتمّم لتصور السعادة البشرية والحياة المريحة.
الأمر الذي شجّع علماء ونشطاء العالم الثالث، في سبعينيات القرن المنصرم، على انتقاد المجتمع الصناعي الغربي وتصوير وحشية الرأسمالية على نطاق عالمي، وإظهار تخلّف العالم الثالث والتبعية تكلفةً طبيعية ونتيجة للحداثة في أوروبا وأميركا الشمالية. وهو ما دفع الدول الغربية، في الفترة ذاتها، لتغير سياستها، بعد الخروج من الحرب، وتلقي الرأسمالية العالمية لكمات من الثورة الثقافية الصينية (1966-1976) ومن ثم حركة باريس في أيار 1968. من ثمّ انتقاد شعوبهم تدخلات حكوماتهم في العالم الثالث، مثل رفض الحرب في فيتنام، ودعم الانتفاضات الجماهيرية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والنفوذ الأنكلو-برتغالي في روديسيا، والاستبداد الإقطاعي الجديد في أميركا اللاتينية. ومع استمرار العالم في التمايل، بدأت دول العالم الأول في عدم الثقة في البيئة العالمية كتهديد لسلطتها السياسية، وفزعت الدول الغربية، لاستعادة السيطرة على ظروفها البيئية. كانت أول عهود بيئية دولية: إعلان مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة البشرية لعام 1972 (إعلان ستوكهولم)، حيث فتح الباب للتدخلات الدولية، معلناً أنّ «أوجه القصور البيئية الناتجة من ظروف التخلف والكوارث الطبيعية» من الأفضل تعويضها «عن طريق نقل كميات كبيرة من المساعدة المالية والتكنولوجية».
وجلبت أواخر الثمانينيات بعض العزاء للقوى الغربية الملتزمة برأسمالية السوق الحرة التي يحرسها نظام دولي من الدول «العادية». لكن مع بداية العقد، أحاطت بحلفاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، مشكلات جديدة مثل النمو السكاني الجامح والمرض والجوع والصراعات على الموارد والكوارث المحلية واللاجئين، هكذا بدأ عصر جديد من «الأمن البيئي» في العالم الأول المتجذر في التنبؤات المالتوسية بالانهيار الحضاري الغربي.
لذا وجه تدفق المخاوف البيئية والإنمائية إلى السياسات الأمنية وإجراءات نزع السلاح الدولية، مثل لجنة نزع السلاح والأمن التابعة لرجل الدولة السويدي أولوف بالمه. وقع القادة في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على مثل هذه الأنظمة القانونية الهجينة، التي تمّ الاحتفال بها على أنها دمج للمصالح الغربية والشرقية المستثمرة في حماية قدسية الأممية الليبرالية، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي أعلنت لجنة هارلم برونتلاند المعنية بـ«البيئة والتنمية».
وقدّم مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية الشهير لعام 1992، المعروف باسم «إعلان ريو»، للدول النامية إعفاءات زمنية لمساعدتها على اللحاق بركب دول العالم الأول «العادية».
والمفارقات أنّ هذه الدول «العادية» هي التي مزقت الأوزون فوق القطب الجنوبي، ولكن ستجد البلدان النامية نفسها، التي جرى حثها لاتباع نموذج التصنيع الأوروبي والأميركي؛ مُتهمة بتوجيه العالم نحو كارثة مناخية، ودعوتها إلى المساعدة واتباع النُظم الجديدة، كما حدث في مؤتمر ستوكهولم عام 1972 المتمثل في الاعتراف بمخاطر الكوارث كتهديد عابر للحدود.

السلطة المستقبليّة في ظلّ الكوارث المناخيّة
بالعودة مرة أخرى إلى مارسيليا في القرن الثامن عشر، وتحديداً في الفترة بين 31 كانون الثاني إِلى 25 أيار 1720، حين أبحَرت سفينة غراند سان أنطوان الفرنسيَّة، من بلدة صيدنايا السورية إِلى ميناء مارسيليا، محمّلة بآلات وخيُوط من الحرير والصوف وأكياس الشمع وحقيبة واحدة من القطن من دمشق، صدَّق المسؤولون الفرنسيُّون في صيدنايا على أنَّ السَّفينة خالية من الأمراض المعدية، ولكن أثناء عبور البحر الأبيض المتوسط، تعرضت السفينة للخطر بسبب مرض غير مرئي وقاتل، أُصيب بعض الأتراك والأرمن والفرنسيِّين والعديد من رجال الدين، وبعد فترة وجيزة توفي أحد الأتراك ودفن في البحر ثمَّ تبعه جراح السفينة. حين وصلت السفينة لولاية توسكانا الإيطاليَّة كانت قد فقدت ثمانية من طاقمها، وعلى الشاطئ عزَا طبيب الحجر الصحي وفاتهم إِلى «حمى وبائية خبيثة». وخلال الفترة المتبقية مِن الرحلة، الريفييرَا وُصولاً لمارسيليا، مرض بحار آخر، وتوفي في النهاية في الميناء.
كانت السفينة مملوكة لجان بابتيست استل، نائب عُمدة مارسيليا آنذاك. كان استل عضواً بارزاً أيضاً في مجلس المدينة الذي أدار مكتب الصحة. لكن استل، مثل كثير آخرين، عمل على هذه الرّحلة من خلال الشراكة مع وسيط، هي شركة جيلهيرمي تسود وآخرون. كان جان كريستوف شاتود، كابتن غراند سان أنطوان، صهر تسود. وفي البداية، اتبعت السفينة القيود الصحية المحلّية المسمى بروتوكول «تطهِير البضائع»، وأبقت غراند سان أنطوان راسية في الخارج. هددت قيود الحجر قيمة السلع المستوردة على متن السَّفينة، وخوفاً من الخسائر، تصرف استل ورفاقه بسرعة، حيث قاموا بتهريب جزء كبير من البضائع إِلى الشاطئ، مُستغلّين ثغرات في قانون الحجر الصحي، جعلت القيود مشروطة بموت شخص مِن الطاعون خلال الرحلة. ألقى كابتن السفينة باللّوم على التسمم الغذائي في الوفيات، كما لم يتمكّن الأطبّاء من تمييز حالات الطاعون من الأمراض الأخرى بسهولة، ولم يكشف تشريح جثّة الضحية الأخيرة بوضوح عن وجود علامات على وجود وباء. وبعد غضب التجار تمّ تخفيف متطلّبات الحجر الصحي، وتمّ إِطلاق الشحنة المصابة للبيع في المعارض، وذلك بعد تعويض استل لاحقاً من قبل الدولة عن الخسارة الناتجة في الممتلكات بسبب الحجر.

لاحظ المنظران السياسيان جويل وينرايت، وجيف مان، في كتابهما «لفياثان المناخ: نظرية سياسية لمستقبلنا الكوكبي» كيف يمكن أن تخلق مشكلات المناخ سلطة جديدة


بعد سفينة غراند أنطوان، وخلال الفترة المتبقيّة من أيار وحتى أوائل حزيران، وصلت أربع سفن أخرى من الشام إِلى مرسيليا، وأيضاً ظهرت في كل منهم علامات العدوى. وخوفاً من تكرار ما حدث مع غراند أنطوان، رفض الجرّاح المحلّي احتمال الإصابة بالأمراض. وفي أوائل حزيران 1720، وجدت العدوى طريقَها إِلى أحياء الطبقة العاملة في مارسيليا، ثم انتقلت إلى جميع أنحاء المدينة لتستشري العدوى وتصبح جزءاً من نسيج الحياة في مارسيليا.
في مارسليا استغلت السلطات عمليّة إدارة الوباء لتطوير آليات حكمها واستكشاف مساحات سلطويّة لنفوذها، هي ذات السلطة التي تساهلت منذ البداية بالتقصير في انتشار الوباء، في نهج مُتبع يفسر استمرار وتغول المخاطر البيئيّة المستمرة حتّى اليوم رغم كل هذا التطور، فيما يفسر تلك العلاقة التي جمعت سلطة الدولة والكوارث في علاقة تكامليّة نفعيّة، تسهم فيها الدول في استمرار الكوارث فيما تعزز الكوارث من سلطة الدولة. لكن في ظلّ كارثة الكوارث ومواجهة البشرية خطر الفناء، أخذ الوضع في التغير ببطء الآن ويتسارع كلما اشتدّت الكوارث مستقبلياً، ما دفع علماء الاجتماع لطرح سؤال هام، وهو: هل يخلق التغير المُناخي سلطة جديدة؟
اليوم أكثر من أيّ وقت مضى يُطرح التساؤل حول هذه السلطة ومدى استمرارها في ظلّ اشتداد الكوارث. وبالتزامن مع فشلها المستمر في القيام بإدارة الكوارث، تحول الدول تكيف مواطنيها مع هذه التغيرات المناخيّة، حتّى أصبحت الكوارث تأتي على هامش الحديث عن الموت والفناء، حتى أثناء مؤتمر المناخ السابع والعشرين، الذي اُختتمت أعماله في مصر. حيث اجتمع القادة والسياسيون ورجال الأعمال من جميع أنحاء العالم، في ملتقاهم السنوي للحديث والتفاوض في ما يريدون فعله لدرء الانقراض البشري.
وعلى الرغم من غرابة تواجد رواد صناعة الوقود الأحفوري وغيرهم من المتهمين بتدمير الكوكب، فإنّ عدد حضور اللوبي المدافع عن صناعة الوقود الأحفوري في المرة الأخيرة بغلاسكو اسكتلندا، كان أكثر من حضور أيّ دولة. وفي هذه المرة بمصر، زاد الحضور بنسبة 25% (تخطى 600 شخص)، فيما تحول المدافعون عن البيئة إلى أقليّة في مؤتمر المناخ. فبدلاً من استغلال قضية مخيفة مثل الانقراض للتشاور وتنحية الخلافات، تظهر نتائج المؤتمر أنّ الصراعات القومية والأطماع الجيوسياسية والرأسمالية سيطرت على النقاشات في مؤتمرات، وكما سبقها يأخذ مؤتمر المناخ تدريجاً شكل المؤتمرات الأماميّة المستهلكة والعاجزة وغير الملزمة، تاركة البشرية في حيرة من أمرها إذا ما كانت عليها فعلاً وضع ثقتها في تلك المؤسسات للحفاظ على البشرية من الانقراض.
أمّا السؤال عن شكل سلطة الدولة وتأثرها بالتغير المناخي، فيرتبط بشكل مباشر مع الخيال الجمعي للبشر، أو مصطلح «الخيال الاجتماعي» لعالم اجتماع أميركي يدعى رايت ميلز. حين ناقش ميلز في كتابه «الخيال الاجتماعي» وربط بين مشكلاتنا الشخصية بالقضايا العامة من خلال تخيل الصلة بين الاثنين، لكن عندما تعلق الأمر بتغير المناخ، حتى في مجالات الأوساط الأكاديمية والأدب والتاريخ والسياسة، فقد فشل خيالنا الاجتماعي الجماعي في الربط بين مخاوف تغير المناخ الفرديّة والعامة. غالباً ما يوصف تغير المناخ، عبر التخصصات، بأنه أزمة الخيال، وأنّ أسباب عدم قدرتنا على معالجة تغير المناخ ثلاثية.
أولاً، من الصعب فهم الحجم الهائل للمشكلة. ثانياً، مشكلة تغير المناخ غير خطية، تبدأ ببطء ثم تحدث بشكل متكرر مما يجعل من الصعب رؤيتها في البداية. ثالثاً، في موازنة المكاسب قصيرة الأجل مقابل العواقب طويلة الأجل، التي غالباً ما تفوز فيها المكاسب قصيرة الأجل، كتفضيل الحياة برخاء الآن على استمرار الحياة في المستقبل.
لاحظ المنظران السياسيان جويل وينرايت، وجيف مان، في كتابهما «لفياثان المناخ: نظرية سياسية لمستقبلنا الكوكبي» وهو قراءة غنية لنظرية هوبز في سياسات تغير المناخ، كيف يمكن أن تخلق مشكلات المناخ سلطة جديدة تستبدل السلطات الحالية. يرى المنظران أنه من المحتمل أن تتشكل أربع سلطات تشبه الدولة، هي التي قد تحكم عالمنا في المستقبل. ويوظف الكتاب العديد من المفكرين التاريخيين والسياسيين الرئيسيين الذين يمتدون من جون مينارد كينز إلى أنطونيو غرامشي وماركس إلى نعومي كلاين، لتوضيح فكرتهم، التي تتلخص في تخيل هياكل السلطة المستقبلية التي تتعارض مع الهياكل الحالية.

تنقسم السلطات الوليدة لأربعة:
(1) «لفياثان المناخ»، على اسم الكتاب، والأقرب للتنفيذ، وهي نوعاً ما سلطة مثل اتفاقيات المناخ مدفوعة بالرأسمالية العالمية، حيث تتمّ إعادة إنتاج التفاوتات بين البشر بسبب تغير المناخ إلى ما لا نهاية، وسيخلق تغير المناخ عنصرية بيئيّة حيث يستطيع الأغنياء حماية أنفسهم مع موت الفقراء بأعداد متزايدة.
(2) «ماو المناخ»، حيث يحافظ على سيادة الكوكب في عالم غير رأسمالي، وفي هذا السيناريو يمكننا أن نتخيل ديكتاتوراً ماوياً يكتسب السلطة من الدعوة ضد الرأسمالية، والحفاظ على النظام العالمي. صوت واحد فقط، حيث تحدد الدولة من يمكنه إصدار الكربون، ومن يمكنه استخدام الموارد، وكيف سيتم تنظيم النفايات. أمّا الاسم فقد أطلقه المؤلفون على هذا المستقبل لأنهم يعتقدون أنّ هذا الاحتمال لا يمكن أن يحدث إلا مع الهيمنة الآسيوية، مما يشير إلى أن التحول الثوري بعيداً من الرأسمالية سيحدث في الحزام الجغرافي: بين باكستان وكوريا الشمالية، حيث قام المؤلفون بتكبير هذه المنطقة بسبب التفاوت الجغرافي في مخاطر الآثار السلبية لتغير المناخ.
(3) «العملاق المناخي»، وهو نظام إدارة المناخ موجودة داخل الدول المعزولة الاستبدادية، وهو عكس «المناخ ماو» حيث تظلّ الرأسمالية قائمة ولكننا نرى ميلاً كاملاً في ميزان القوى العالمية يأخذ إمّا شكل «الشعبوية الرجعية» أو «الديموقراطية الثورية المناهضة للدولة»، ويحاجج الكاتبان أنّ في عصر ترامب ومودي وبولسونارو وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ليس من الصعب رؤية العالم أكثر فاشية.
(4) «المناخ X»، وهو بديل غير حكومي يستبدل الرأسمالية والاشتراكية بالالتزام بالعدالة البيئية، وهو أقل الاحتمالات التي يمكن تخيلها والأكثر طوباوية. يعتمد «المناخ X» على الرؤية الثانية للديموقراطية الثورية المناهضة للدولة العملاقة، لكن الاختلاف الرئيسي هو أن الحركات التي تواجه تغير المناخ ستواجه الرأسمالية أيضاً، نظراً لأن كلاً من الرأسمالية وتغير المناخ يديمان نفس التفاوتات، فإن «المناخ X» يقرر أن المستقبل الذي يواجه تغير المناخ سيواجه الرأسمالية أيضاً. وسيكون وجه هذا النضال هم الأشخاص الأكثر اضطهاداً في المجتمع الحالي، الأشخاص الملونون والنساء والمسجونون والسكان الأصليون والعاملون. «المناخ X» هو مجتمع يتحدّى فيه الأشخاص الذين يواجهون عدم المساواة لمكافحة عدم المساواة المنفصلة من خلال تغير المناخ.
يذكرنا الكتاب بأنّ مخاوفنا بشأن مستقبل السلطة الحالية بسبب أزمة المناخ حقيقية، والأسئلة المهمة مثل من تسبب مثلاً في تغير المناخ؟ ومن يستطيع إصلاحه؟ وكيف يستغل الحكام ومنافسوهم السياسيين هذه الكوارث، معلنين من فوق الأنقاض أنه سيتم الكشف عن الجناة أو أنه ليس خطأ أحد.
* من أسرة «الأخبار»

مراجع

- Saptarishi Bandopadhyay: «All Is Well: Catastrophe and the Making of the Normal State»
- C. Wright Mills: «The Sociological Imagination»
- Joel Wainwright, Geoff Mann: «Climate Leviathan: A Political Theory of Our Planetary Future»
- William MacAskill :«What We Owe the Future»
- Thomas Hobbes: «Leviathan»