في سياق الحديث عن الإصلاحات البورجوازية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونتائجها، يُسأل السؤال التالي: لكن، من قطع شجرة الكرز، أجورج واشنطن أم أبراهام لينكولن؟وأقول: طالما أن قانون تحرير العبيد كان على يد أبراهام لينكولن سنة 1863 وعلى أثر حرب الشمال والجنوب ومنع انفصال الولايات الجنوبية الزراعية العبودية، فإن لينكولن وليس واشنطن هو من قطع شجرة الكرز وحرّر العبيد.
تقول الحكاية إنه عندما كان جورج واشنطن في السادسة من عمره، تلقى من والده بلطة كهدية، وبعد ذلك ذهب على الفور وأنهى الأمر المفضل لدى والده شجرة الكرز، فقطعها.
و«بستان الكرز» (Вишнëвый сад) آخر مسرحية كتبها تشيخوف قبيل وفاته عام 1904. بستان الكرز كما يقول تشيخوف: «نصفه أغنية حزينة ونصفه هجاء ساخر» يتحدث فيه عن قطع أشجار الكرز وتحرير العبيد. فعندما دخلت البورجوازية المتأخرة الرثة إلى روسيا ممثلة بالتاجر لوباخين، باشرت أولاً بقطع أشجار بستان الكرز. وأنتجت ما سماه مارشال بيرمان «حداثة التخلف».
وفي رسالة من تحت الماء يقول نزار قباني معاتباً نفسه:
«لو أني أعرف خاتمتي
ما كنت بدأت...»
لم يعرف السوريون الحديثون أن الإصلاحات العثمانية كانت في أساس تشكل الدولة السورية الحديثة. والإصلاحات العثمانية أو «التنظيمات العثمانية» اصطلاح مأخوذ من قانون «تنظيم إتمك»، ويقصد به الإصلاحات التي أدخلت أداة للحكم والإدارة في الدولة العثمانية مطلع عهد السلطان عبد المجيد الأول. وقد تزامن ذلك مع فترة الحكم المصري لسوريا الذي شكل أداة ضغط تاريخية لإعلانه. ففي الثالث من تشرين الثاني 1839، دعا السلطان الجديد عبد المجيد الأوّل وجهاء القوم وأرباب الحكم إلى قصر الزهور (الكلخانة)، حيث قرئ البيان الذي عرف باسم «خط الكلخانة الشريف»، الذي صاغه مصطفى رشيد باشا ناظر الخارجية، بمساعدة المستشارين الفرنسيين. لم يحظ «الخط الشريف بالاهتمام اللائق من قبل جمهور السوريين حتى بعد عودة الحكم التركي المباشر لسوريا إثر رحيل قوات إبراهيم باشا عام 1841.
لقد قادت التنظيمات العثمانية «تنظيم إتمك» إلى تصدر طبقات جديدة للإدارة والحكم في سوريا، بخاصة طبقة الملاكين البيروقراطيين المتأثرين بالليبرالية والعلمانية الأوروبية عبر إسطنبول. لكن النخب السورية وقتها لم تلتفت إلى «التنظيمات» العثمانية الالتفات الكافي.
يكتب فيليب خوري: «مع الاحتلال المصري، والجهود العثمانية التالية لإنعاش سلطة الدولة وإحيائها قبل العام 1860 (الإصلاحات) وجد الوجهاء العلمانيون (في دمشق) صعوبة متزايدة في الدفاع عن استقلالهم المحلي أمام قوى المركز. وشُجع البعض على تسلم وظائف إدارية في بيروقراطية دائمة التوسع لحماية أسس مواردهم المالية وتوسيعها. وبهذه الطريقة ميزت بعض العائلات من فئة الوجهاء العلمانيين نفسها (عائلة الحسيبي)» (فيليب خوري: أعيان المدن والقومية العربية؛ سياسة دمشق 1860- 1920). ويضيف خوري: «يكشف الفصلان الأول والثاني الطرق التي كان فيها لعوامل بعيدة المدى، كإعادة التكوين العثماني (التنظيمات) والتوسع الاقتصادي الأوروبي وتحول الزراعة باتجاه التجارة في سورية، أن تشجع ظهور شبكات من العائلات النافذة محلياً في دمشق، المتنافسة والمختلفة والمتمايزة اجتماعياً، لتكوِّن طبقة عليا متماسكة اجتماعياً. ولقد أنتجت هذه الطبقة من ملاك الأراضي والبيروقراطيين، في ظل سلطة عثمانية مركزية متزايدة النشاط، زعامة مدينية جديدة سيطرت على السياسة المحلية بعد العام 1860» (فيليب خوري: أعيان المدن والقومية العربية).
أمّا «إصلاح الفلاحين وإلغاء القنانة في روسيا (عام 1861)؛ فهو أول وأهم الإصلاحات الليبرالية البورجوازية في عهد ألكسندر الثاني قيصر روسيا. أنهى الإصلاح القنانة في روسيا التي عانى منها الفلاحون الروس. أقر بيان إصلاح التحرير 1861 حرية الأقنان في تملك الأراضي والمنازل تملكاً بورجوازياً. بهذا القرار تم تحرير ما يزيد على 23 مليون روسي». وكان الإصلاح في الإمبراطورية العثمانية أو ما سمي بـ«التنظيمات العثمانية» قد سبق الإصلاح الروسي بأكثر من عقدين وتوّج بقانون «الطابو» أو التملك الخاص البورجوازي للأراضي والمنازل عام 1858. و«طابو»: كلمة تركية الأصل (Tapu) مشتقة من الكلمة اليونانية طوپوس (τόπος) أي قطعة الأرض. وتأتي بمعنى وَثِيقَةُ المِلْكِيَّةِ، حُجَّةٌ، صك أو حجة ملكية الأرض، سند أو وثيقة لامتلاك عقار أو عَرَصة معينة.
في أميركا، وعلى شرف حرب منع انفصال الجنوب الزراعي عن الشمال الصناعي، تم إعلان تحرير العبيد، إعلان رئاسي وقرار تنفيذي أصدره الرئيس أبراهام لنكولن في 1 كانون الثاني 1863. فقد عمد إلى تغيير الوضع القانوني الفيدرالي لأكثر من 3 ملايين مستعبد في مناطق معينة من الجنوب من «الرقيق» إلى «الحر»، بالرغم من تأثيره الفعلي الذي كان أقل من ذلك. وكان الأثر العملي أنه بمجرد هروب العبد من سيطرة الحكومة الكونفيدرالية أو من خلال تقدمه للقوات الاتحادية في الشمال يصبح العبد حرّاً من الناحية القانونية. وفي نهاية المطاف وصل التحرير لجميع العبيد المعنيين.
خطأ محمد علي القاتل هو عدم القدرة على تحرير الفلاحين، فلم يستطع إصدار قانون تحرير للأقنان العبيد العاملين بالسخرة لمصلحته ومصلحة عائلته، فانهارت دولته بانهيار طبقة الفلاحين


أقر الكونغرس التعديل الثالث عشر بتصويت ثلثي المجلس الضروريين (عام 1864)، وصدقت عليه الولايات (عام 1865)، ما أنهى العبودية بطريقة قانونية في الولايات المتحدة.
أمّا محمد علي باشا فيمكن اعتباره مؤسس مصر الحديثة حيث حكمها من عام 1805 إلى 1848، وكسر القاعدة العثمانية التي كانت لا تترك والياً على مصر أكثر من سنتين. استطاع محمد علي خلال فترة حكمه أن ينهض بمصر اقتصادياً وزراعياً وصناعياً وتجارياً، وكان يرى أن الاستقلال السياسي لا يتحقق إلا بإنماء ثروة البلاد، وتقوية مركزها المالي، فبنى قاعدة اقتصادية لمصر، واهتم بالزراعة فاعتنى بالري، وشيد العديد من الترع والجسور والقناطر، ووسع نطاق التجارة الخارجية في مصر. وأصلح الموانئ وارتفعت الصادرات، وعمل عن طريق الضرائب إلى توفير فائض مالي لدعم الإصلاحات في الدولة، وبذلك حققت مصر ازدهاراً اقتصادياً ملحوظاً في عهده.
لكن خطأ محمد علي القاتل هو عدم القدرة على تحرير الفلاحين، فلم يستطع إصدار قانون تحرير للأقنان العبيد العاملين بالسخرة لمصلحته ومصلحة عائلته، فانهارت دولته بانهيار طبقة الفلاحين وإفلاسها تحت وقع الفساد الإداري والأعباء الضريبية المتفاقمة وأعمال السخرة والتهجير القسري والديون، الديون التي تراكمت واستفحلت مع دخول المرابين الأجانب على خط نهب الفلاحين. والديون التي تراكمت على خلفاء محمد علي ودولتهم التي وقعت تحت نير الاحتلال البريطاني عام 1882، وهي السنة عينها التي أعلن فيها الإمبراطور الياباني الشاب ميجي عن إصلاحه البورجوازي الشهير الذي سمي باسمه (إصلاح ميجي).
«فما قام به محمد علي هو تحجيم للالتزام من خلال احتكار نسبة كبيرة منه (إقطاعات الالتزام) لنفسه ولأسرته ومساعديه (بطانته) حوالي 70% حتى عام 1844، وازدادت هذه النسبة لتصل حوالي 87.2% عام 1848 على مستوى المقاطعات-القرى ككل» (د. جمال كمال: الأرض والفلاح في صعيد مصر في العصر العثماني).
لقد هدم احتكار محمد علي وعائلته وبطانته لإقطاعات الالتزام طبقة الفلاحين، بخاصة وأنه أضاف إلى أعباء ضرائب إقطاعات الالتزام (الميري والفائض والبرّاني) إرهاق أعمال السخرة التي يقوم بها الفلاحون في مشاريع الري العامة، إضافة إلى الاستيلاء على مواشي الفلاحين لدعم غزوات الباشا في سوريا والحجاز. «واستمراراً للتضييق على الفلاحين أصدر الباشا أوامره بمنعهم ببيع غلالهم لمن يشتري منهم من التجار، على أن تورد الغلال للباشا شخصياً بالثمن الذي يقرره. ولا نرى في ذلك سوى إرهاصات للاحتكار (احتكار إقطاعات الالتزام) متمثلة في الغلال» (الأرض والفلاح: مرجع مذكور). وللحصول على المخصصات اللازمة لمؤونة الجيش، أمر محمد علي بإحصاء الأغنام، وفرض على كل عشرة شياه شاة واحدة من أحسنها، على أن ترسل لمجمع أغنام الباشا. كما فرض على كل فدان رطلاً من السمن يقوم مشايخ القرى بجمعها من الفلاحين. وهكذا «فالعادات والمقررات والإجراءات التي اعتاد الملتزمون أن يفرضوها على الفلاحين احتكرها محمد علي لنفسه وعممها على كافة بلاد القطر المصري» (الأرض والفلاح).
لم يقتصر الأمر على الأغنام والماشية ومنتجاتها، بل يذهب كونو إلى أن التمرد الذي حدث عام 1815 كان سببه تقديم القرى للطوب المحروق، حيث فرض محمد علي كل قرية 500 ألف قالب أو أكثر، وكذلك جذوع النخيل والسعف لإنشاء الثكنات لإيواء الجيش (الأرض والفلاح) وهي أعمال سخرة. هكذا يموت الفلاح من الجوع والرهق أو يفر من قريته أو يفر من البلد. بخاصة وأن «نسبة كبيرة من إقطاعات الالتزام كانت بيد قادة العسكر وزوجاتهم» (الأرض والفلاح). يذكر كونو قول أحد الباحثين: أن أحد الفلاحين الساخطين في الوجه القبلي اتهم محمد علي باشا بالعمل على امتصاص دم الفلاحين مثل الحشرات التي تؤذي الفلاح (حلمي محروس: دراسات في الحالة الاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر-رسالة دكتوراه).
مراجع:
1-د. جمال كمال: الأرض والفلاح في صعيد مصر في العصر العثماني
2-فيليب خوري: أعيان المدن والقومية العربية؛ سياسة دمشق 1860-1920)
3-أنطون تشيخوف: مسرحية بستان الكرز-كوميديا في أربع فصول
4-حلمي محروس: دراسات في الحالة الاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر-رسالة دكتوراه

* كاتب سوري