أشهر قليلة مضت على صدور نداء الشيوعيين اللبنانيين «من أجل حركة تحرّر عربية جديدة»، لكنها كانت كافية لتغيّر المشهد على جبهة اليسار اللبناني. لقد جاء هذا النداء في وقت يستمر العدوان ويشتدّ على محور المقاومة، آخذاً أشكالاً مختلفة وجديدة بعد أن عجز العدو عن تحقيق أي إنجاز من الناحية العسكرية، الأمر الذي أنضج رؤية مختلفة وجديدة أيضاً، ومتناسبة مع مهمات جديدة، عبّر عنها هؤلاء في ندائهم الذي رأوا فيه أن الهدف الرئيسي لقوى التغيير عليه أن يتمحور حول قضية التحرر الوطني: «فبمجرد بقاء بلداننا سوقاً للإمبريالية ومصدراً لمواد أولية منهوبة، سوف يبقى إنماؤها وتقدّمها عصيين على التنفيذ لو ظلا متمحورين حول مسألة التغيير الداخلي فقط. فشعوبنا أضحت مجرد كتل بشرية موظفة في خدمة المصالح الإمبريالية ومخططاتها وتحولت بلداننا إلى هياكل قابعة معراة من الكرامة الوطنية يستحيل عليها التغيير الديموقراطي السلمي». كما أنه «لا يجوز في البلدان التابعة التي هي في طور التحرر تقديم الصراعات الطبقية على الصراع الوطني التحرري، ذلك أن جميع الصراعات في هذه البلدان إنما تخاض في ميدان الصراع الوطني» (راجع «الأخبار»، عدد 31 أيار 2022).من الطبيعي أن تلاقي هذه الطروحات ترحيب القوى اليسارية المقاومة. ولكنها على ما يبدو استفزت قيادة الحزب الشيوعي الرسمي الذي لا يزال يعتبر نفسه يسارياً وهو المخترق حتى النخاع من قبل المنظمات غير الحكومية ويمارس يساريته على الطريقة الليبرالية الغربية. من هنا، أتى رد الفعل العنيف الذي عبرت عنه هذه القيادة في بيان معيب، مباشرة بعد أن قام «الشيوعيون اللبنانيون» بزيارة تضامنية مفاجئة إلى العاصمة السورية دمشق التقوا فيها بقيادة حزب «البعث».
فعلاً، الزيارة كانت مفاجئة للجميع. أكثرية الشيوعيين رأت فيها خطوة شجاعة وصادقة آن أوانها وكان يجب أن تحدث منذ زمن بعيد. لكن قيادة الحزب الرسمي رأت أن الذين قاموا بالزيارة انتحلوا صفة الحزب الشيوعي. علماً أن مصادر «الشيوعيين اللبنانيين» نفت هذا الأمر، ولطالما كانت تؤكد دائماً أنهم يسعون إلى إنشاء تنظيم جديد بعيد من الحزب الرسمي وهم لا يسعون حتى إلى التنافس معه لأنهم يعتبرون أن طروحاتهم مختلفة كلياً عن طروحات الحزب. من هنا، الالتباس في الأسماء لا يتحملون هم سببه، ولعل مشكلة الحزب الشيوعي تكون بذلك في محل آخر.
لكن في الحقيقة مشكلة الحزب الشيوعي ليست هنا. إنها في هذا الانحراف المتمادي عن الخط الذي لطالما ميّز مسيرته السابقة. فهو الآن وكأنه مصاب بانفصام سياسي؛ من جهة، يدعي أنه ضد الإمبريالية لكنه لا يتجرأ على تحميلها نتائج كل ما يجري في المنطقة ولا يتخذ موقفاً ضدها داعماً للقوى التي هي على مواجهة مباشرة معها. وبدل أن يكون شعاره طبقياً، ضد الرأسمالية، أصبح شعاره لا يستهدف سوى الطائفية، والذي لطالما ساعده للنيل من المقاومة الإسلامية. يجتر مقولة الحزب المقاوم وهو الآن لا يقوم بأي عمل مقاوم، بالرغم من أن لبنان أصبح فعلياً تحت الاحتلال الأميركي المباشر. حتى في بيانه الذي أدان فيه الزيارة لم يتجرأ على ذكر العدو الإسرائيلي حين أورد زوراً أن المقاومة الوطنية اللبنانية كانت من أجل الدولة العلمانية الديموقراطية. ومن جهة، يطرح التغيير الاجتماعي، لكنه يرفع شعار التغيير الديموقراطي السلمي في وجه الطبقة الحاكمة الفاسدة التي يوازيها مع العدو الإسرائيلي. يطمح إلى تحقيق الاشتراكية ويعزل نفسه عن مصير دول محور المقاومة، حيث التكامل الاقتصادي معها هو الكفيل لإنجاح أي فرصة للاشتراكية في لبنان. يريد تطوير اليسار العربي وإنشاء مقاومة عربية شاملة، وفي الوقت نفسه يعلن جهاراً أن الحرب على سوريا شأن داخلي لا ينبغي التدخل فيه.
أي حزب شيوعي هذا؟ وبأي حق أخلاقي يتصدى لمجموعة شيوعيين قامت بخطوة وجدانية تجاه الدولة التي تعرضت إلى أقسى حرب استعمارية إمبريالية عرفتها البشرية في الآونة الأخيرة.
إن انحرافات الحزب ليست صدفة. هكذا يرسم له الدور من قبل الدوائر الغربية التي تقوم بعملية «الإخراج» في معركتها ضد المقاومة. فلكل حزب خطابه المفترض أن يكون مقنعاً للشريحة التي يتوجه إليها. حزب الكتائب، مثلاً، لن يكون مقنعاً إذا تناول خطابه المعادي للمقاومة مسألة مذهبية المقاومة، لأن تاريخه نابع في الأساس من كونه حزباً مذهبياً. فتأتي شعاراته لتحمل فكرة التخلي عن السلاح المقاوم كشرط أساسي لبناء الدولة «الطائفية»، طبعاً، (علماً أن «الكتائب» كان أوّل من تسلّح وقرر أن يضع نفسه مكان الدولة ليضرب المقاومة الفلسطينية). أمّا الحزب الشيوعي، كونه حزباً علمانياً، نراه ينال من المقاومة بسبب شيعيتها، بالرغم من أن صراع المقاومة مع العدو الإسرائيلي ليس دينياً، بل لأن إسرائيل دولة محتلة وأداة استعمارية. لكن بهذا الخطاب المقدّم من الحزب الشيوعي الرسمي تستميل الإمبريالية شريحة واسعة من العلمانيين والمثقفين الذين يئسوا من الطائفية في لبنان ويعتقدون أن المقاومة لها مصلحة في حماية هذا النظام الطائفي المسبب لويلاتهم. كما أن الدور المريب الذي يقدمه هذا الحزب خدمة للإمبريالية (وهو الحزب المفترض أن يكون السبّاق في معركة التحرر الوطني)، هو بالضبط في تغييبه للجوهر الحقيقي للصراع الذي يقوده محور المقاومة، في كونه صراعاً تحررياً وطنياً. ولتغطية انحرافاته يصور هذا الحزب الأزمة السورية بأنها أزمة داخلية لنظام فاسد يقمع شعبه الطامح للحرية، أو بأنها صراع مذهبي لا علاقة له بها. وكلنا نعلم كيف أن أمينه العام السابق ذهب به الأمر إلى توقيعه إعلان «ربيع دمشق» مع مجموعة من المثقفين الليبراليين.
فعلاً، إن زيارة دمشق لهي عمل بطولي وحدث تاريخي! لقد عرّت الكثير من الأحزاب اليسارية اللبنانية والعربية وطهّرتنا نحن الآثمين الصامتين عن كل سفك لدماء الشعب العربي السوري.
تشدد مصادر «الشيوعيين اللبنانيين» على أن هذه الزيارة هي فاتحة وتخطت حدود التضامن لتطرح التعاون، وستتلوها سلسلة من اللقاءات مع مختلف الأحزاب والقوى وحتى مع الدول التي يتفقون معها في الرؤية. وهذا الموقف تجاه سوريا ليس بجديد. ففي صفوفهم مناضلون وقفوا منذ اليوم الأوّل إلى جانب سوريا في حربها الدفاعية وعبروا عن ذلك داخل التنظيم وخارجه وبأشكال مختلفة. وبعضهم كان مبادراً لتنظيم «المؤتمر المشرقي الأوّل دفاعاً عن سوريا» في عز الهجوم صيف 2013.
كلمة أخيرة، تزامنت الزيارة مع انتشار على وسائل التواصل لتسجيلات فيديو لأربعة شهداء من المقاومة الوطنية اللبنانية يتلون فيهم وصاياهم؛ كانت سوريا في صميم قلبهم النابض!
* كاتب لبناني