خلافات اللبنانيين حول المفاهيم المتناقضة للتعددية (راجع دراستي عن التعددية في «الأخبار» الصادرة في 11-1-2023) دفع الجماعات والمذاهب إلى حمايات سَمّوها ضمانات بهدف الحماية أو الاستقواء. من هنا، يحاول البعض معالجة مشكلة التعددية بالتمسك بضمانات فئوية واهية، فانطلق من فرضيات خاطئة أهمها:
أ- استحالة التعايش: لقد أكدت أدبيات الجماعات المنعزلة وبياناتها استحالة التعايش بين مختلف الطوائف، لتبرّر دعوتها إلى قيام دويلات بحجم المذاهب، ولا داعي للدخول في تفاصيل وجهة نظرها والردّ عليها، لأن هذه الزاوية قد أشبعت درساً من عدد كبير من الباحثين. التعددية في كتب هؤلاء أصبحت مقولة تستخدم لضرب التعايش ووحدة الوطن بدل أن تكون منطلقاً وسعياً للوحدة والمواطنية.
ب- عقدة الخوف: تتسلّح الأقليات عادة بخطر مزعوم، لتبرّر مشاريعها الخاصة وتوجهاتها، والخوف في المشرق العربي لا يقتصر على المسيحيين كما يدّعي البعض، بل هو أيضاً ظاهرة متفشية عند مختلف الأنظمة العاجزة، لأنها قائمة بالتسلط والهيمنة ضد إرادة شعوبها، ما يفقدها الشرعية التي هي الضمانة الأساسية والأولية لقيام الدولة واستمرارها.
عقدة الخوف لم تعد سلاحاً تشهره فئة لتبرر سعيها إلى التقسيم، لأن الخوف لم يعد فرادة تتمتع به، بل سمة تشاركها فيه باقي الأنظمة والتنظيمات الخائفة على سلطانها من الاندثار وعلى هيمنتها من التقلّص.
استخدمت «التعددية» للتهويل بالخوف واستغلاله، بينما التعددية هي حالة يمكن تخطي سلبياتها لإزالة الخوف من نفوس الجميع، وخلق ثقة فعلية بين مختلف الفئات، من ضمن نظام ديموقراطي وطني مدني يضمن حقوق جميع المواطنين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم.
ج- العزلة: انطلاقاً من «استحالة التعايش» و«عقدة الخوف» تترسّخ نزعة العزلة والانكماش، متجاهلة الأسباب الفعلية لبعض المعطيات والظواهر الاجتماعية التاريخية. فالتعددية تصبح دعوة إلى العزلة، لأنها تطبع التعدد بالتناقض وتعطيه مسحة أبدية سرمدية بدلاً من أن تفسره تاريخياً. التعددية هي وليدة التنوّع السكاني والتخلف وفقدان الوعي الوطني. استغلها الاستعمار لتقسيم المنطقة إلى كيانات، ومن ثم تفتّت الكيانات إلى دويلات طوائف لتمرير المشروع الصهيوني الاستعماري في السيطرة على بلادنا.
التعددية ظاهرة اجتماعية تاريخية، ويؤدي التسلّح بها والانعزال من ضمنها إلى حرب دائمة، بينما تخطّيها ممكن من خلال قيام بديل حضاري.
التعددية جزء من مشاكل المنطقة، وحلّها لا يكون بالخلاص الفئوي أي بالحلّ الذي تتوسّله كل طائفة أو فئة وتفصّله على قياس حجمها. إن الدويلة - الطائفة ليست حلاً للطوائف بل هي تحويل التناحر الطائفي ضمن الدولة الواحدة إلى حرب بين دول الطوائف، سواء أقامت الانعزالية دولة لها أو ظلّت حركة هامشية، فهي خطر على نفسها من ذاتها.
إن الخلاص الفعلي هو في الحلّ الشامل الحضاري الذي ينقذ الطائفة، وفي الوقت نفسه ينقذ كل الطوائف والفئات، وبالتالي المنطقة بكاملها. وبصورة أكثر تحديداً، إن قيام دولة مسيحية في لبنان لوجود تعددية دينية فيه، ليس حلاً للمشكلة الطائفية في لبنان، بل على العكس هو تعنيف للتناحر، وإحاطة هذه الدويلة بدويلات طائفية أو غير طائفية معادية لهذا النمط.
إن الحلّ الوحيد والممكن للمشكلة الطائفية في لبنان، والقائمة على أساس التعددية التي تميّز المشرق العربي، هو في قيام نظام وطني ديموقراطي مدني في المشرق ككل يؤدي إلى خلاص الطوائف سياسياً، بحيث ينتفي كل مبرر للخوف أو الهيمنة والتسلط، وبالتالي يؤدي إلى خلاص كل الطوائف والفئات فيتحول الماروني والشيعي والسني والدرزي وغيره من إنسان طائفي محاط بإنسان طائفي معادٍ له إلى مواطن له حقوق وعليه واجبات محاط بمواطنين يساندونه ويتضامنون معه في المصير نفسه، ويبنون معاً حياة جديدة هي الضمان الفعلي والمستمر والوحيد لهم وللأجيال الآتية بعدهم.
الضمانات والانعزاليات
انطلاقاً من مقولة التعددية، طرحت الانعزاليات صيغاً عدة للضمانات التي تسعى إليها للمحافظة على هيمنتها. وهذه الضمانات هي:
1- الضمانات الأجنبية: مثلاً، اختار قسم من الموارنة الحماية الأجنبية للمحافظة على امتيازاته، فتحالف بعض المسيحيين تاريخياً مع بيزنطيا، ومن ثم مع الصليبيين ومع أوروبا القرن 19 والإمبريالية الأميركية والصهيونية أخيراً. وقد نشأ أيضاً تيار تاريخي مسيحي معارض للاتجاه الأول، فحارب القوى الأجنبية على أنواعها، معتبراً أن الاستقلال الفعلي لا يقوم على دعائم خارجية، لأن الدول الأجنبية تتوجه حسب مصالحها وأهوائها. والاستقلال العملي هو القائم على الأرض، وهو الذي يتمتّع بقوى ذاتية شعبية متضامنة تصونه، والاستقلال اللبناني كان نتيجة انتصار الفريق المسيحي الثاني الذي اعتبر أن الاتفاق مع المسلمين والمنطقة العربية هو الضمانة الفعلية لاستقلاله، بينما كان يعتبر الطرف الأول أن الانتداب الفرنسي هو الضمانة لامتيازاته، وما زال هذا الاختيار يراود البعض حتى الآن. وما ينطبق على الموارنة ينطبق على طوائف أخرى في ظروف مختلفة.
2- الضمانات/ الامتيازات: نشأت مع الاستقلال الصيغة المعروفة بصيغة 1943 وبالميثاق غير المكتوب، وهو استبدال «ضمانة الانتداب» بضمانة الميثاق الذي أعطى للموارنة بعض الامتيازات غير المكتوبة وهي:
- احتكار مراكز أساسية منها: رئاسة الجمهورية، قيادة الجيش، حاكم مصرف لبنان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، وغيرها.
- نظام طائفي يتيح لهم اقتسام الوظائف والمغانم، إضافة إلى بعض المراكز الحساسة في الدولة، وخصوصاً في القضاء والوظائف العليا والأجهزة الأمنية وغير ذلك.
- الانتقاص من عروبة لبنان الفعلية باعتماد صيغة مشوّهة تقول لبنان «ذو وجه عربي» الهدف منها الاستفادة الاقتصادية من «وجه لبنان العربي» والاعتزال السياسي عن القضايا القومية والمصيرية لـ«عروبة لبنان».
بعد أقلّ من نصف قرن، عجز أهل النظام عن بناء دولة ديموقراطية تحقّق المساواة بين مختلف المناطق والطوائف والفئات اللبنانية، فتصاعدت المعارضة الشكلية والجذرية ضدّ هذه الصيغة، ما أدى الآن وبعد محطات من الصراعات الدموية المدمّرة، إلى ضرورة إعادة النظر فيها بين فئة تخلّت عنها باتجاه التقسيم، وأخرى تريد تحطيمها باتجاه إلغاء الطائفية أو تحقيق نظام مدني. ولقد طرحت القوى الانعزالية نفسها في أكثر من مناسبة سقوط الصيغة نهائياً، وهي تفتّش الآن عن صيغ جديدة لتحافظ على امتيازاتها.
3- الضمانة في التقسيم: تسعى الانعزالية إلى تكريس امتيازاتها بتحويل الصيغة غير المكتوبة إلى دستور مكتوب، ينطلق من التعددية ويقيم نظاماً على قياسها. ولهذا النظام أشكال عدة؛ منها الفدرالية على أنواعها والمناطقية واللامركزية السياسية، وكلّها أشكال مختلفة من التقسيم، هدفها إيجاد ضمانات دستورية للواقع التعددي الذي تدّعيه. من هنا كانت تنظيرات البعض حول سقوط شرعية دولة الاستقلال وقيام «شرعية مناطقية» كأمر واقع بدلاً منها.
4- الضمانة في الهيمنة: وهي تعتمد على التسلّط وتنطلق من تعزيز الغيتو المذهبي، تمهيداً إلى مزيد من التوسع لقيام دولة مستقلة منفصلة، وهذا النوع من الضمانة يمرّ عبر الصهينة والاعتماد الكلّي على الكيان الإسرائيلي، والقطيعة الكلية مع العرب، ما يضع لبنان تحت هيمنة إسرائيلية بلباس الانعزالية اللبنانية.
5- الضمانة الميثاقية: للتوازن مع الدستور وتعطيله اجتهد البعض بتفسير وحرف الميثاق عن هدفه الأساسي وهو لا شرق ولا غرب فأضافوا إليه الوفاق الوطني، وعلى أساسه فسّروه تقاسم نفوذ وأعطوا المكاسب للأقوى في طائفته، ما كرّس المثالثة المحتكرة للمناصب وفرز المذاهب الـ 19 إلى 3 طبقات: العليا موارنة - سنّة – شيعة تحتكر الرئاسات الثلاث والوزارات السيادية والوظائف الأساسية. الوسطى: دروز - كاثوليك - أرثوذكس وتشترك حكماً في مجلس الوزراء وبعض الوظائف كترضية. البروليتاريا: باقي المذاهب وتنال فتات الوزارت والوظائف. وهكذا تحول الميثاق إلى توازن هش سرعان ما يخرب الاستقرار. إذا اتفقوا تقاسموا المكاسب، وإذا اختلفوا هددوا الأمن الوطني. وما افترضوه ضمانة يتحول إلى مأزق وهاوية وفخ.
6- فئات لبنانية أخرى تعتبر ضمانتها باعتبار لبنان جزءاً من المشرق أو العالم العربي أو ديار الإسلام أو جزء من محور إقليمي أو دولي تحتمي فيه.
هذه الضمانات الواهية التي يفتش عنها فريق من المذهبيين قد جربت وسقطت تاريخياً:
1- التقسيم عرفه لبنان في القرن التاسع عشر بصيغة نظام القائمقاميتين، ومن نتيجته المزيد من الحروب الأهلية الطائفية (فتنة 1860)، والصراعات الاجتماعية (ثورة الفلاحين) 1858، ما أدّى إلى القضاء على النظام بكامله، ولم يكن حلاً أو ضمانة لأي فئة.
2- التدويل عرفه لبنان أيضاً في القرن التاسع عشر بقيام نظام المتصرفية المضمون من الدولة العثمانية والدول الأوروبية، وكانت نتيجته مجاعة فتّاكة في لبنان الصغير المدوّل. ومن هنا ولدت الحاجة الماسة إلى توسعه باتجاه السهول الخصبة في الأقضية الأربعة، والتدويل لم يحل دون مرور الأزمات الدولية في لبنان، لأن الحياد المزعوم وهميّ وغير ممكن عملياً.
3- الاعتماد على الأجنبي، غربياً كان أو صهيونياً جُرّب أيضاً في لبنان وفشل. القوى المدعومة من بيزنطيا لم تستمر أكثر من عشر سنوات في تمردها، وإمارات الصليبيين لم تدم طويلاً، بل سرعان ما سقطت. أما الصهيونية فهي أصلاً مشروع عنصري تهويدي، ولن يكون مصير المسيحيين في لبنان بعد التصهين أفضل منه من مصير المسيحيين في فلسطين. وأرض لبنان لن تكون أحسن حالاً من الأراضي المقدسة.
في الخلاصة: الضمانة الوحيدة الممكنة والمستمرة هي قيام نظام وطني ديموقراطي علمي في دول المنطقة، يكون خلاصاً لجميع المكونات وللمسيحيين خاصة، وللمشرق العربي عامة.

* كاتب وناشر لبناني