منذ بداية التحضّر البشري، وظهور المعبد والكتابة وطبقة الكهنة، أصبح في وسعك تحليل أي مجتمع من زاوية «تقسيم العمل» فيه، أي أن تسأل: من ذا الذي يعمل - حقّاً - في هذا المكان، ومن هو الذي لا يضطرّ إلى العمل «الحقيقي»، بمعنى العمل الجسدي، ويعتاش من «عقله» ومن عمل الآخرين. في البداية، كان التبرير هو أن الغالبية من الناس سوف تحرث الأرض وتغزل الثياب وتشيد المباني وتقوم بمختلف هذه المهام الحياتيّة «النافلة»، فيما أقليّة/نخبة لن تنغمس في هذه الأمور لكي تتفرّغ لوظائف أهمّ بكثير، كالتواصل مع الآلهة، والتنبّؤ بالموسم القادم، أو «إدارة الأمور» من خلف مكتبٍ في قصر. الماركسيون، والماويّون بالخصوص، كانوا يعتبرون أن الفارق بين العمل «الجسدي» و«الذهني» هو أحد التناقضات الرئيسة التي تتخلّل المجتمع، أي كالتناقض بين المالك والمحروم، وبين المدينة والريف، وبين الرجل والمرأة. من هنا أيضاً كان هادي العلوي يقول إن الجموع الشعبية تحمل - تاريخياً - نفوراً فطرياً تجاه فئات ثلاث، الأثرياء والحكّام ورجال الدين، باعتبارهم الكتلة التي لا تعمل مثلهم، وتعتاش من مكانتها أو ثروتها.
«مدينة العمّال»، هانس بالوشيك (1920)

على ذكر طبقة الكهنة، فإنّ بعض الأكاديميين الساخرين يقارنون دورهم، في العلوم الإنسانية «الرخوة»، بدور الكهنة والسحرة في المجتمعات القديمة. بمعنى أنّ الإنسان في حاجة أن يشعر بأنه يملك تفسيراً للعالم؛ أن يقال لك إنّ ما يحصل حولك ليس عشوائياً وبلا منطق، والموت والكوارث ليسا بلا سبب، والظلم والبؤس ليسا بلا نهاية. كلّا، أنت لديك من يفسّر العالم والأحداث ويعطيها معنى وتبريراً، وقد تتمكّن، هكذا، من التنبّؤ بها بعد أن عرفت منطقها، وستتحكّم أنت بعالمك بدلَ أن يتحكّم بك. المناهج الحديثة هي، بالطبع، أكثر علمية وواقعية وموثوقية من تفسيرات سحرة الفودو وطبقة الكهنة، وهي من طبيعة مختلفة تماماً. ولكن يظلّ هناك أمرٌ مشترك بينهم: أنهم طبقة «مثقفين»، أي جماعة لا تعمل وتنتج بالمعنى الفعلي، وتحتاج دوماً إلى من يرعاها - دولة، جامعة، وقفية، أمير، مجلس قبلي - وإلّا اختفت (في هذا الموضع، أذكر دوماً زميلة كانت تبتدئ الصف الذي تعلّمه، وهو صفّ تقديمٍ للعلوم السياسية، بأن تشرح للتلاميذ الجدد أنّك، إن قمت بتجربة إحصائية، ستجد أن القدرة التنبُّئِية للعلوم السياسية في العقود الماضية توازي تماماً قدرة علم الأبراج).
مع انتشار الوظيفة المكتبية اليوم، وتحوّل الكثير منها إلى «عمل»، أصبح من الصعب التمييز بين أناسٍ هم، في الظاهر، يشبه بعضُهم بعضاً ولكنهم في مواقع متفاوتة بالكامل: الاثنان يلبسان ثياباً رسمية وربطة عنق، ويذهبان للعمل في مكتبٍ، وفي شركةٍ كبيرة أو ناطحة سحاب، ولكنّ أحدهما سيقضي ثماني ساعاتٍ أمام شاشة كمبيوتر في مهامّ رتيبة وبأجرٍ قليل، فيما الثاني يدير حسابات بمليارات الدولارات. ولكن، في الماضي، كانت الفوارق واضحة. حين قامت الدولة اللبنانية في الخمسينيات، وظهرت معها «الوظيفة الرسمية»، وابتدأ القلّة من أهل القرى الفقيرة في الهوامش يدخلون إلى سلك الوظيفة، في مجتمعٍ كان بغالبه زراعياً، يقال إن فكرة «الوظيفة» حينها، في حدّ ذاتها، كانت بمثابة خرافة. أن تجلس في مكتبٍ، بقيافتك وهندامك، توقّع على أوراقٍ وتختم معاملات أو تعلّم صفوفاً، ثم يأتيك راتبٌ، مضمونٌ مهما حصل، في آخر الشهر، وراتبُ ضخمٌ بالمقاييس «الزراعية»، هذا كان يشبه أن تربح ورقة يانصيب. اكتشف هؤلاء الناس، في ما بعد، أن هناك وسائل أكثر نجاعة للصعود الطبقي والكسب السريع، قد تكون خارج بلدك، ولكنّ علامة النجاح ظلّت في أن تفارق حالة العمل البدني وحياة الفلاحة، وتجد من يعمل لديك بدلَ أن تعمل لدى الغير.
تقول دراسات علم الاجتماع إنّ الناس ينظرون طبقياً «إلى أعلى» ويقلّدون من فوقهم (بمعنى أنّه لو وضع الأثرياء أولادهم في جامعات خاصة فستحاول الطبقة الوسطى تعليم أولادها في المؤسسات نفسها، وإن اشترى رفيق الحريري مارسيدس ستجد أكثر الأثرياء يقودون مارسيدس، إلخ). مع النّظر «إلى أعلى» تأتي عادات الحقد والحسد والتلصّص الطبقي (هو وصل لأنه فاسد، وصل لأنه بخيل، ورث أهل زوجته...). ما لا ينتبه إليه الكثيرون هو أنّ هذه العمليّة فيها «حصانة عكسيّة»، أي أنّك كلّما ارتقيت طبقياً وابتعدت عن مجال «العمل» وحياة العامّة (commoners)، فأنت لن تنظر إلى خلفك وتشعر بالذنب وتتلوّى لأنّك تعيش حياةً بين المطعم والمقهى والسفرة، فيما غيرك يكدح في عالمٍ آخر. على العكس، أنت ستستمرّ بالنّظر إلى فوق ومقارنة نفسك بمن نجح أكثر؛ وإن «وصلت» حقّاً، فسيبدو العالم، ومقامك فيه، منطقياً ومريحاً ومفهوماً إلى أبعد الحدود.

«أن تجد خدماً صالحين في هذه الأيّام»
لا أفهم لماذا لا نقارب العلاقة بين الغرب والصين من زاوية العلاقة بين «مالك رأس المال» و«العامل». لا أقصد هنا فقط العملية التاريخية المعروفة، حيث تحولت الصين وآسيا - منذ السبعينيات - إلى ما يشبه «طبقة عاملة بديلة» تشغّل خطوط الإنتاج، فيما انصرف الأوروبيون والأميركيون إلى «قطاع الخدمات» (لاحظ أن الغالبية تستخدم مصطلح «مصنع العالم» لوصف الصين، ولكن لا أحد يقول «عمّال العالم»، كأن المصانع تشغّل نفسها بنفسها). هذه العملية التاريخية، بالمناسبة، تشبه بشكلٍ هائل الأسطورة البابلية القديمة عن أصل العمل الإنساني: يقوم الآلهة الثانويّون، الخدّام، بـ«انقلاب على الإدارة» من أجل المساواة وحتى لا يكدحوا للأبد في خدمة الآلهة المسيطرة. هنا، تحلّ الكائنات السماوية «تناقضاتها الداخلية» عبر تعيين البشر عمّالاً بدلاء، يفلحون ويزرعون وينتجون نيابةً عن الآلهة التي لن تضطر إلى العمل بعد اليوم، وستنصرف إلى هواياتها ودسائسها ومشاريعها النرجسية. هذا يشبه إلى حدٍّ بعيد ما حصل في بنية الإنتاج العالمي خلال نصف القرن الماضي، أو «الصفقة الكبرى» بين الطبقة العاملة الغربية والمؤسسة الحاكمة (يتناسى الكثيرون أن الوجه الآخر لهذه الصفقة كان في آسيا).
حتى خطاب العداء الرائج ضدّ الصين يشابه في عناصره وصفاته الصورة النمطية التي تحملها البرجوازية عن الطبقة العاملة في كلّ مكانٍ في العالم: أنت تحتاج إليه لكنك لا تثق به. «هم مخادعون، يسرقون ويغشون ما إن تزيح عينك عنهم». «حاقدون علينا ويخططون سرّاً لاستبدالنا». «جهلة أجلاف لا يقدّرون أو يستحقّون صولجان الحضارة». المفارقة هنا هي أنّ الصّين لا تزال، بالمقاييس الموضوعية ومنها مقاييس الأمم المتحدة، «بلداً نامياً»، فقيراً، أقرب بكثير إلى العالم الثالث منه إلى مستوى الاستهلاك والدخل في الغرب أو كوريا أو اليابان. مع ذلك، كما يحصل مع الفقير حين تبدو عليه بوادر النعمة، يتمّ التعامل مع الصين من الآن كأنها «الوكيل المخادع»، الذي ينوي - لا ريب - قتل الأرستقراطي في نهاية المطاف واحتلال مكانه.
الخطاب حول الصين في الغرب اليوم هو من منطلق «اتق شرّ من أحسنت إليه»، بمعنى أنّ تحويل الصين إلى «مصنع العالم»، وكدح مئات الملايين من العمّال لإنتاج ما يحتاج إليه الغرب وباقي الأسواق، أمر كان بمثابة «امتياز»، أعطي لمن لا يستحقّه، وقد آن أوان سحبه. السياسة هنا مزدوجة: «الحصار التكنولوجي»، لمنع الصين من دخول المجالات التقنية المتقدمة ذات القيمة الفائضة المرتفعة، و«وقف الاعتماد» على الصين في مجالات التصنيع الحيوية؛ أي أن يشتروا من الصين أقلّ. كيف سيحصل هذا؟ هل سيبدأ أهل أميركا الشمالية بصناعة سلعهم وتركيب هواتفهم بأنفسهم؟ لا طبعاً، بل عبر «نقل المصانع» ودورة الإنتاج إلى دول أخرى، فقيرة، لديها يد عاملة رخيصة ويهمّها أن تتلقى هذه الاستثمارات، ولن تكون تنّيناً حاقداً عديم الامتنان.
ما حصل في المجتمعات الغربية في العقود الماضية هو أمرٌ مذهل: أن تقوم دولٌ صناعية بـ«عكس التصنيع» وتفكيك بنيتها الصناعية المتفوّقة وإرسالها إلى قارة أخرى


استمعت أخيراً، للمرة الألف، إلى محلّلٍ أميركي يفصّل في خطط عزل الصين وضربها. ويشرح كيف أن «كل ما علينا فعله» هو نقل كلّ هذه المصانع والاستثمارات وخطوط الإنتاج إلى فييتنام والفيليبين وإندونيسيا وغيرها، وعندها «لن نحتاج إلى الصين» مجدّداً وستضمر، تلقائياً، قدراتها الإنتاجية. المشكلة الكبرى في هذه الأمنيات، في رأيي، هي أنها تستبطن فهماً تبسيطياً وصورياً لمعنى «العولمة». ما أقصده هو أن هؤلاء الناس قد قاموا بـ«تجريد» العولمة وشبكاتها إلى درجة أنهم يرونها كلعبة «ليغو» نظريّة بالكامل: هناك قطعة حمراء هي «المصنع»، تنتزعها وتستبدلها بقطعة أخرى، أو مجموعة قطعٍ صغيرة تأخذ مكانها، ويستمرّ كلّ شيءٍ كما السابق. هذه النظرة تسطّح فكرة التاريخ ومساره و«كيف أصبحت الأمور أصلاً هكذا»، بل هو يسطّح مفهوم العمل نفسه.
هم يعتقدون أنّ العمل والعمّال هم بمثابة «مادة خام»، موجودة في أي مكانٍ فيه بشر. كلّ ما على السفن الأوروبية فعله هو أن تحطّ على ساحلٍ فقير بدائي، ثمّ تبني مصانع عليه، ثم تضع سكانه المحليين على خطوط الإنتاج، وستخرج سلع وهواتف وألعاب من الجهة الأخرى. الحقيقة هي أن «الطبقة العاملة»، كمئات الملايين من العمّال المنتجين الذين يديرون الآلة الصناعيّة الصينية، هي شيء يتم بناؤه، وبكلفةٍ كبيرة. كانت لي زميلة تخصّصت في دراسة كيفية «إنتاج» الطبقة العاملة في الهند بعد الاستقلال، فهذه لا تعني فقط نظام إنتاج؛ بل نظاماً صحياً، ونظاماً تعليمياً، ونظاماً إسكانياً، ومدناً وخدماتٍ لكلّ هؤلاء العمال الصناعيين الجدد. إنجاز الصين الحقيقي هو ليس فقط في أنها أنتجت طبقة عاملة كبيرة، بل طبقة عاملة تنافسية إلى أبعد الحدود، ترفدها وتزيد من قيمتها بنية تحتية متطورة، وتقنيات إنتاج حديثة للغاية (مستوى التقانة في المصانع الصينية وخطوط إنتاجها هو من الأكثر تقدماً في العالم، ومعمل شركة «تيسلا» في شانغهاي، مثلاً، يسبق دوماً باقي مصانع الشركة حول العالم في الفعالية والربحية والإنتاج). قال المدير العام لشركة آبل، قبل سنوات، إن فرادة الصين ليست في وجود عمّالٍ مهرة، بل في وجود تكتّلٍ لا مثيل له في العالم لهؤلاء العمّال، في الكمّ وفي النّوع، وفي كلّ الصناعات والقطاعات. هذا نتاج تاريخٍ عمره من أيّام ماو، ولا يمكن استنساخه على الصورة نفسها، عند الطلب، في فييتنام أو تايلند.
هذا ينطبق حتى على الصناعات التي فيها تركيز شديد لرأس المال، كصناعة أشباه الموصلات الباهظة الكلفة والقليلة العمّال. تقول تقديرات إن مصنع شرائح السيليكون الذي يقام في الصّين سوف يكون هامش ربحه، دوماً، أعلى من مثيله في أميركا أو أوروبا. ما يعني أن الشركة التي تبني مصنعها في الصين سوف يكون لها امتيازٌ على تلك التي تنتج في تكساس، ولديها إمكانية أكبر للاستثمار والتوسع على المدى البعيد، إلّا إن تمّ منعها عن ذلك عبر السياسة والعقوبات. يجب أن نتذكّر أنّ استثمار الغربيين في الصين لم يكن عن إحسانٍ أو حسن نيّة، بل بسبب رقمٍ بسيط: عائد الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين خلال العقود الماضية كان يقارب الـ14.5% سنوياً، فيما كان في أميركا (المزدهرة) أقل من 9%. الفارق بين الرقمين كبير، ولا أحد من المستثمرين الدوليين والشركات والصناديق سوف يترك مثل هذا المال على الطّاولة.

اقتصاد الخدمات
أمّا على الجهة الأخرى من معادلة تقسيم العمل هذه، فإنّ ما حصل في المجتمعات الغربية في العقود الماضية هو أمرٌ مذهل: أن تقوم دولٌ صناعية بـ«عكس التصنيع» وتفكيك بنيتها الصناعية المتفوّقة وإرسالها إلى قارة أخرى؛ وتتوقّف عن إنتاج ما تلبس وتستهلك، ولا تحاول تصدير السلع إلى الخارج، بل تصبح مستوردةً لأغلب استهلاكها. في الوقت نفسه، ينتقل أكثر من سبعين أو ثمانين بالمئة من القوة العاملة إلى قطاع الخدمات، فيما تنخفض نسبة العمال الصناعيين إلى ما هو أقلّ بكثيرٍ من العشرة (القطاع الزراعي في الغرب، منذ زمن المكننة واستيلاء الشركات الكبرى عليه، أصبح ملجأً لجزءٍ بسيطٍ جدّاً من القوى العاملة، أحياناً أقل من اثنين بالمئة، وهي فئة تعتاش فعلياً على دعم الدولة وليس على إنتاجها).
السردية السائدة كانت تقول إن هذا الانحياز إلى «الخدمات» حصل أساساً لأنّ القيمة أصبحت هناك، وليس في التصنيع التقليدي للسلع عبر قصّ وتشكيل وتركيب المواد والمعادن. بل إنّ وظائف «خط الإنتاج» لم تعد مجدية أو تنافسيّة، فمن الأفضل أن ترتحل وأن يعمل الناس في أمورٍ مثل «غوغل» و«أمازون»، والخدمات الكثيرة التي تنشأ حولها، مطاعم ومصارف ومحامون وعقارات وغير ذلك. ماذا عن العجز في الميزان التجاري مع الخارج، حين تتوقف عن التصنيع والتصدير؟ كانت النظرية تقول إنّ العجز سيحصل في السّلع المصنّعة، ولكن قطاع الخدمات المتقدّم سيبيع للعالم - بالمقابل - أموراً مثل البرامج والتصاميم ورخص استخدامٍ تعوّض هذا الفارق في التجارة، وتحوّله إلى فائض. ولكن، بالتجربة العملية، لم تعوّض هذه الموارد إلا جزءاً بسيطاً من العجز التجاري، وقد أصبحت دولٌ مثل أميركا وبريطانيا في حالة عجز «بنيوي»، مستمرّ ومتزايد، لم يتوقّف منذ أوائل التسعينيات. كيف يحصل ذلك، وتستورد أكثر بكثير مما تصدّر، من دون أن يضعف الاقتصاد وتنهار العملة؟
قرأت رأياً مثيراً لباحثٍ هندي مرة (قرأته على عجل ونسيت اسمه للأسف - أنتم تعرفون كيف تكون أسماؤهم. ومسألة النسيان تحصل معي أخيراً، وشعوري أنها ستزداد أكثر في السنوات القادمة). مختصر فكرته هو أنّ السردية أعلاه يجب أن تُقرأ بالمقلوب. لم يحصل عجزٌ تجاري في هذه الدول لأن اقتصادها انصرف إلى «الخدمات» وترك الصناعة، بل إنّ هذه الدول قد توقّفت عن التصنيع أساساً لأنها ــ بفضل تحرير العملة في السبعينيات وفصلها عن المعيار الذهبي ــ أصبح في وسعها الاستيراد بلا حساب، ولم تعد في «حاجة» أن تعمل وتصنع ما تستهلكه، وأن تصدّر سلعاً وخدمات يوازي ما تستورده من الخارج.

كما يحصل مع الفقير حين تبدو عليه بوادر النعمة، يتمّ التعامل مع الصين من الآن كأنها «الوكيل المخادع»، الذي ينوي - لا ريب - قتل الأرستقراطي في نهاية المطاف واحتلال مكانه


أنت لا يمكنك، أصلاً، أن تتخيّل اقتصاداً كالاقتصاد الأميركي المعاصر في نظامٍ يقوم على ربط العملة بالذهب، ولا يمكنك فيه توسيع الكتلة النقدية بلا حدود (حين تكون عملتك هي عملة التجارة العالمية وعليها طلبٌ خارجي لا يرتوي). أمّا حين تكون قادراً على «تصدير» عملتك (دولارات أو جنيهات أو يوروهات) مقابل السّلع التي يعمل الآخرون ساعاتٍ طويلة لتقديمها لك، وأنت تطبع هذه العملة على هواك، يصبح من العبث أن يعمل ناسك في التصنيع وأمورٍ «عمالية» من هذا النمط لإنتاج بنطالٍ أو آلةٍ، يعطيك إياها الصيني مقابل الدولار. الرواتب هنا تصبح بمثابة «حقوق سحب» على الواردات، أي أنها مثل «كوبون» يحدد لك كمية الاستهلاك التي يمكنك استيرادها من الخارج باستخدام العملة الوطنيّة. لهذا السّبب تكثر في اقتصاد الخدمات الحديث الوظائف التي يقولون إن «لا معنى لها»، النافلة غير المنتجة، أو التي يتمّ اختراعها لجعل كلّ شركة كبيرة في الغرب أشبه بوزارة هنديّة، فيها خمسون إدارة وقسماً، وغرفة تأمّل وحضانة أطفال ومدينة ألعاب.
لهذا السبب تتمكّن شركات مثل «غوغل» و«فايسبوك» من صرف عشرات الآلاف من «عمّالها» حين يضيق حال السّوق (كما يجري حالياً) من دون أن يتأثّر «إنتاجها» على الإطلاق (هذا مستحيل في اقتصاد صناعي، حيث صرف العمّال يترافق بالضرورة مع خفض الإنتاج). بل إنّ هذا الباحث يزعم أنّه في وسعك أن تبقي أغلب الناس في أميركا في المنزل، وأن ترسل إليهم ببساطة في البريد شيكات «رواتب» تقسمها عليهم، وتطلب منهم أن يشتروا ويستهلكوا، وسيسير الاقتصاد كما المعتاد (وهذا ما أثبتته مرحلة «كوفيد» - هل تعتقدون أن الاقتصاد الصيني يحتمل فكرة الإقفال لعامٍ وأكثر؟ أو صرف الناس واعتياد «العمل من المنزل»؟ لو حصل مثل ذلك لتوقف كلّ الإنتاج وشلّ الاقتصاد تماماً).
هناك تحليلٌ في الاقتصاد السياسي يساند ويتكامل مع هذه الفكرة (أعتقد أن ايشنغرين هو ممّن تكلّموا فيه). النظرية تقول، باختصار، إنّ «اقتصاد الإسراف» في أميركا، حيث يستهلك الناس كلّ شيءٍ بحجمٍ كبير، وبكميات تفوق حاجتهم، وينفقون الكثير على السلع والكماليات، ويستدينون لكي يصرفوا، هو ليس مضاعةً وهدراً بالكامل. بل هو المفتاح وراء تفوّق أميركا في أهمّ القطاعات خلال نصف القرن الماضي. هذا النمط من الاستهلاك الفائق والدخل المرتفع الذي يتمتّع به عددٌ كبير جداً من الناس؛ هذه حالة لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ، وهي تولّد فرصاً اقتصادية فريدة. على سبيل المثال: الشركات الريادية في التقانة، مثل «أي بي أم» و«أمازون» و«آبل»، لا يمكن أن تخرج إلّا في بلدٍ مثل أميركا. هذه التقنيات كلّها، في بداياتها، تكون مرتفعة الثمن وتجريبيّة وتحتاج إلى قاعدة كبيرة من الزبائن الأثرياء لكي يكون هناك مجرّد تفكيرٍ في طرحها في السّوق (من اشترى، بأعدادٍ كبيرة، النسخ الأولى من الكمبيوتر الشخصي، والهاتف الذكي، واستخدم الإنترنت حين كانت مكلفة وبطيئة؟ الأميركيون). أميركا، بفضل اقتصاد الاستهلاك، هي المكان الوحيد الذي يوفّر سوقاً كاملاً من الأفراد الذين هم مستعدون لدفع مبالغ كبيرة ليكونوا أول من يقتني سلعة جديدة، أو تقنية مستقبلية، أو سلعة كمالية (early adopters). هذه السلع الجديدة الرائدة تنطلق غالباً من أميركا، حيث تمرّ بمرحلة «حضانة»، قبل أن تنضج وتنتشر في العالم. هذا «الابتكار عبر الإسراف» لا يمكن أن يحصل في بلدٍ فقير، أو حتى في دولٍ متقدّمة يكون الناس فيها حساسين تجاه الأسعار ولا يملكون دخلاً فائضاً كبيراً (بدأ الأوروبيون، مثلاً، بشراء الهواتف الصينية ما إن أصبحت أرخص بخمسة دولارات من البديل الكوري).

خاتمة
الفكرة، دوماً، هي أنّ «الدولار» هو ليس سوى مفهوم (ومع تحرير العملة بالكامل، أصبح عبارة عن مفهومٍ نظريّ بالمعنى الحرفي للكلمة). هو ليس عملةً حتّى، حتى تقارنه بغيره، بل هو تجسيد رمزيّ للقوة العالمية. الطريف أن بعض العرب، حين يناقشون التنمية، يقولون ما معناه «ما لنا والتركيز على الصناعة والزراعة والإنتاج؟ انظروا إلى الغرب المتقدّم، غالبية اقتصاده خدمات». المشكلة هي أنّ مفهومهم عن قطاع الخدمات قديم على ما يبدو، يعود إلى كتب الجغرافيا المدرسيّة، فلا يفهمون أنّ «الخدمات» في الغرب لا تعني أن تفتح محالَّ لبيع الهواتف الخلوية ومطاعم وعقارات، بل إنّ عمادها ومحرّكها أمورٌ مثل التمويل والمصارف، والتصميم والبرامج والتقنية العالية، وهي «أصعب» بكثير، وليست «أسهل»، من الصناعة والزراعة والإنتاج التقليدي.
لهذا السّبب، حين تنظر إلى نظامٍ ما، يجب أن تبحث دوماً عن صاحب الامتياز فيه. ويجب أن تحقّق في شأنه، حين تصادفه، وتعرف كيف حصّله: هل هو إرث عائلي؟ رأسمال مادي تحوّل إلى تعليم وشهادات؟ نصبُ وتسلّق؟ أم أنّه من القلّة التي تجتهد للصعود بمهارتها وحذاقتها، ثمّ تخدم النظام بإخلاص؟ الامتياز يعطيك ثقةً واغتراراً، ولا أحد - حين يصله - يتخلّى عنه طوعاً أو يعتبر أنّه لا يستحقّه، وهذه القواعد تنطبق على الأفراد كما على الدّول.

* كاتب من أسرة «الأخبار»