ليس جديداً ما قامت به صحيفة «شارلي إيبدو» من إهانة بحق المسلمين، فبعدما أقدمت على السّخرية من النبي محمّد صلى الله عليه وآله، تقدم اليوم على السّخرية من الإمام الخامنئي حفظه الله، وما يمثله من مرجعيّة دينيّة للكثير من المسلمين الشيعة في العالم، وهو ما يستلزم الإلفات إلى ما يأتي:أوّلاً: إنّ ما أقدمت عليه الصحيفة ليس نقاشاً علمياً أو مقاربة معرفيّة... وإنّما هو فعل سخرية، وتنمّر قيميّ، وعدوان ثقافيّ.
ثانياً: إنّ هذا العدوان لا يطال أفراداً أو فئة قليلة، وإنما يطال عشرات ــــ أو مئات ــــ الملايين من الناس، ما يجعله عدواناً أوسع نطاقاً، وأشد آثاراً.
ثالثاً: إنّ هذا العدوان هنا يطال شخصيّات لها بعد دينيّ وقيميّ، يمثّل قيمة أساسية في المعتقد الدينيّ والوعي القيميّ لهذه الفئات الكبيرة من الناس، ما يجعل من هذا العدوان أمراً له دلالات وتداعيات مختلفة.
وعليه، بالنسبة إلى هذه الشريحة الكبيرة، ما أقدمت عليه تلك الصحيفة هو عدوان طال مجالاً غاية في الأهمية والخطورة بالنسبة إليهم، وليس فعل حريّة؛ لأنّ الحريّة عندما تدخل إلى حدود الآخرين – القيميّة هنا - لا تبقى حريّة. والحريّة التي تصبح عدواناً على الآخرين لا تبقى حريّة. والحريّة التي تمارس التنمّر القيميّ على الآخرين لا تبقى حريّة. والحريّة التي تستهدف توهين الرموز الدينيّة للآخرين وإسقاطها ليست حريّة، وإنّما هي عدوان. ولن يغيّر، هنا، من حقيقة هذا الفعل وعدوانيّته أن يكون قد صدر في مجتمع تسود فيه قيم العلمانيّة المتطرّفة، والعدوانيّة، في الكثير من الموارد، وخصوصاً عندما يرتبط الأمر بالشأن الدينيّ؛ والسبب أنه لا يمكن لهذه الصحيفة أن تمارس قيماً سائدة في مجتمعاتها بحق فئة أخرى من الناس، في مجتمع آخر، تسود فيه قيم مختلفة، وترى هذه الفئة أنّ ممارسة تلك القيم بحقها تعدّ عدواناً قيمياً وثقافياً كبيراً عليها، إذ إنّ هذا الاختلاف القيمي لا يصحّ أن يعبّر عنه بممارسة الاستكبار القيميّ، والاستضعاف الثقافيّ، بحق هذه الفئة ورموزها الدّينيّة.
لا يمكن لتلك الجهات الغربيّة أن تفرض قيمها على العالم، وليس مقبولاً أن يمارس هؤلاء الهيمنة القيميّة على شعوب الأرض ومجتمعاته، وليس صحيحاً الاستهانة بقيم الآخرين ومقدساتهم.
فلو فرضنا أنّ تلك الصحيفة ترى أنّ العدوان على القيم الدينيّة للآخرين يدخل في حدود حريّتها، أو رسالتها؛ ألن يصبح مقبولاً عندها أن ترى الفئة المتضرّرة أنّ الإضرار بأيّ قيم أو مصالح أخرى لتلك الصحيفة، أو غيرها، يدخل في حريّتها، أو رسالتها؟ فهل يمكن والحال هذه أن يترك لكل طرف أن يحدد بنفسه حدود حريّته، وما يدخل فيها وما يخرج منها، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أثر هذا التحديد، من حيث كونه عدواناً على الآخرين، وتعدّياً على حقوقهم؟ وهل من العقلانيّ والمجدي أن يُمارس هذا الانفلات في حدود الحريّة، والذي يفضي إلى العدوان القيمي على الآخرين، بما فيه قيمهم الدينيّة؟
قد يكون أمراً مستساغاً في القيم العلمانيّة الغربيّة، ومعاييرها القيميّة، أن تستهين إلى هذا الحدّ بالقيم الدّينيّة ورموزها، وتعتدي عليها، لأنّها – وتبعاً لأيديولوجيّتها العلمانيّة - قد لا ترى من وزن لتلك القيم الدينيّة؛ لكن ماذا لو كانت هذه العلمانيّة أمام مجتمع آخر، ينظر إلى قيمه ورموزه الدينيّة نظرة مختلفة، ويجعل منها في رأس قائمة القيم والمقدسات لديه، بحيث تأتي جميع المصالح والقيم الأخرى في مراتب لاحقة، وهو مستعد لأن يضحي بجميع ما لديه للحفاظ على قيمه هذه، ومنع العدوان عليها، والحؤول دون الاستهانة بها؟
إنّ ما أقدمت عليه الصحيفة من العدوان القيميّ على شخصيّة النبي محمّد صلى الله عليه وآله، وصولاً إلى الإمام الخامنئي حفظه الله لا يعبّر فقط عن هذه العقليّة الغربيّة المسكونة بكثير من الاستكبار، والاستعلاء، والنزوع إلى الهيمنة الثقافيّة، وممارسة الدّاروينيّة الحضاريّة، والإلغاء القيميّ، وإنّما يعبّر عن مكنون ذلك الوعي الغربيّ تجاه المسلمين عامّة، وتجاه كلّ الشرق، وكلّ آخر يختلف عن ذلك الغربيّ وقيمه، سواء على المستوى القيميّ أو غيره، وهو عدوان على جميع تلك الجهود للحوار الهادف إلى بناء علاقات تقوم على الاحترام المتبادل، وعدم الاعتداء على الآخرين ومقدساتهم، ما يضع جميع العاملين على مسارات الحوار والتفاهم، والتعاون الخيّر، أمام اختبار حقيقي، اختبار يتطلّب إدانة واضحة لهذا العدوان، ومواجهة هذا النوع من العنف القيميّ، الذي أدى إلى تعزيز دورة العنف والعنف المضاد. وهو ما تعمل عليه هذه الصحيفة، إذ إنّها بفعلها هذا تغذي ثقافة العنف، والتطرف، والصدام بدل الحوار والاحترام.
إنّ هذه الصحيفة مدعوّة إلى التراجع عن سياساتها العدوانيّة تجاه المسلمين، وإلى تقديم الاعتذار عن الإهانات التي وجّهتها إلى مقدّساتهم ورموزهم الدّينيّة. كما أنّ جميع أصحاب الرأي في الغرب، ممن يغلب عليهم البعد العقلانيّ والإنسانيّ – في مقابل العنصريّة والعبثيّة - مدعوّون إلى تحمّل مسؤولياتهم، لدفع هذه الصحيفة وغيرها إلى عدم تغذية ثقافة العنف والتطرّف، والكفّ عن ممارسة العدوان والتعدّي، وعدم الإضرار بمسارات الحوار والتفاهم بين الإسلام والغرب، وإلى عدم الاستثمار على حساب الآخرين وكراماتهم ومقدساتهم، بل وفي مكان ما على حساب أمن الناس وحياتهم. وهم مدعوّون إلى فضح ادّعاءات هذه الصحيفة، عندما تصطنع قضية مقدّسة اسمها الحريّة، لممارسة الإلغاء القيميّ، والعدوان بحق الآخرين؛ لأنّه ليس منطقياً أن تمارس العدوان على مقدسات الآخرين، تحت عنوان قداسة الحريّة لديك، إذ إنّه عندما تستخدم المقدّس لديك للعدوان على مقدّس الآخرين؛ فأنت تبرّر للآخر أن يستند إلى مقدّسه لممارسة العدوان عليك، وهو ما يؤول إلى فعل إضرار بالجميع، حيث لا نعتقد أنّ أحداً من العقلاء قد يرتضي هذه العبثية التي تدفع إلى الاحتراب، وتشجّع على تقديس العنف، والدّعوة إلى التطرّف، والمزيد من الكراهيّة والعنصريّة.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية