عندي نظريّة بأنّ التضافر والتفاعل بين عاملَين اثنين، في الثقافة السياسية الغربية، هما ما يدفعان بأيّ نزاعات تحصل بين «الناتو» و«الآخر» إلى التصعيد الأقصى، وهو ما يجعل العالم مكاناً خطراً للغاية، اليوم وفي المستقبل. كنت في الماضي أستغرب الناس الذين يعيشون في فزعٍ حقيقي من احتمال الحرب النووية، أي أن يحوّل الإنسان عنفه المعتاد - بعد أن بسط سلطانه على الذرّة وتعلّم شطْرها - إلى محرقةٍ شاملة لجنسه. ولكن، للحقّ، فإن احتمال الحرب النووية لم يكن ماثلاً، في أيّ مرحلة سابقة من التاريخ، كما هو اليوم؛ والخطاب في العلاقات الدولية بدأ يشير بصراحة إلى أنّ القصف الذرّي سيكون أحد الاحتمالات «المشروعة» في حروب الغد الآتية.هذان العاملان هما، أوّلاً، فكرة شبه دينيّة عن أن «الغرب»، وأيّ صراعٍ يقف الغرب في طرفٍ منه، هو مواجهة هرمجدونية بين «الديموقراطية» وكلّ ما عداها، أي الشرّ. هنا لا وجود لمصالح (الآخرون فقط لديهم مصالح وأطماع)، لا حسابات، لا حلول وسط، لا نسبوية في الحكم على الطرفَين. هنا دائماً الحقّ كلّه ضدّ الباطل كلّه، الحريّة تواجه الاستبداد. وهذا لا ينطبق على المواجهات التي يخوضها الغرب مباشرة فحسب، بل تنسحب الصفة - أوتوماتيكياً - على كلّ طرفٍ يقفون إلى جانبه، فيصبح ممثّلاً لهذه القيم العليا، وأعداؤه هم أعداء الحرية والحضارة (بغضّ النظر عن طبيعة هذا «الحليف» وما إنْ كان هو نفسه ليبرالياً: أنت هنا تدعم، بلا نقدية، أيّ إيديولوجيا قومية أو إثنية يحملها من «يمثّلك» في الساحة، ولو بنُسخها الأكثر تطرّفاً، في حين أنّ «الآخرين» لا يحقّ لهم بمطالب قومية أو جماعية، بل هي دوماً عدوان وفاشيّة). ضمن هذا الخطاب الكلّوي والأخروي (millenarian)، يصبح من الصعب كبح الصراعات التي تشعلها أو تشارك فيها، أو حتى النظر إليها بعقلانية تسمح بأيّ حلول وسط - من دون التدمير الكامل للخصم.
العامل الثاني الذي يسيطر على خطاب النُّخب الغربية في مواجهة الآخرين، يمكن اختصاره في أنّهم يخوضون، على الدّوام، الحرب العالمية الثانية. أي شيءٍ يحصل، وأيّ خيارٍ يقفون أمامه يتمّ رصفه، مباشرة، في مقارنة تاريخية مع السنوات التي شهدت الصعود الهتلري وسبقت اشتعال الحرب. هذه «الدروس»، بالطريقة التي يتمّ استخدامها، تصبح خطيرة للغاية حين تطبَّق في سياقٍ دولي متوتّر. القاعدة الأساس هنا، هي أنّ أيّ تنازل، أي تراجع، بل أيّ تفاوض مع الخصم ليس إلّا استعادة لسياسة «الاسترضاء» المكروهة (appeasment) التي استخدمها الحلفاء مع ألمانيا، حيث سمحوا لها بضمّ النمسا وتشيكيا وخرْق شروط «فرساي»، في محاولة لتجنّب الحرب، فكانت النتيجة أن اشتعلت الحرب أخيراً وسط تصلّبٍ ألماني متزايد. بمعنى آخر، إن طرَحْت - مجرّد طرْح - التفاوض مع روسيا والوصول معها إلى حلٍّ وسط، فأنت - في الأوساط الغربية - تصبح أوتوماتيكياً مثيل شامبرلين الذي يحاول استرضاء هتلر. وفق هذا المنطق، يجب عدم الاستماع إلى أيّ تحذيرٍ أو تهديدٍ يخرج عن بوتين، بل يجب أن تفعل تحديداً ما ينهي عنه وتتحدّاه، وإلا فأنت تصنع هتلراً جديداً. الغريب هو أنّ أصواتاً معروفة تطبّق هذا المنطق حتى على احتمال الحرب النووية. يقولون ما معناه: لو فهمنا أن فعلاً معيّناً سيستدرج ردّاً نووياً، فعلينا أن لا نلتفت إلى هذا التهديد، وأن لا نكون دخلنا في التراجع و«الاسترضاء». هنا، تصبح اللاعقلانية هي «العقلانية» المقبولة في التعامل مع الآخرين. هل تريد حقّاً أن يموت أولادك في محرقة نووية من أجل أوكرانيا أو بولندا؟ لو اضطرّ الأمر، يجيء الجواب، أجل. لماذا؟ لأنّ هتلر!
يجب أن نتذكّر أنّ الديموقراطية والليبرالية هنا ليستا المشروع السياسي النخبوي الذي كان في القرن التاسع عشر، بل هما أصبحتا رمزاً سياسياً يستخدم في الصراع، وعلامات هويّة تتناسق مع رؤىً عنصرية وثقافوية للعالم. بتعابير أخرى، لا يجب أن نفهم خطاب الهيمنة الليبرالية من داخله وبشروطه. لو أنّك نظرت إلى هذا الحلف «الديموقراطي» من الخارج، بموضوعية، وليس كما يصف هو نفسه، فإنّ التوصيف البسيط الأدقّ له هو أنّه تحالفٌ عسكريّ لـ«البيض» في هذا العالم، في أوروبا الغربية وشمال أميركا، ومعهما الدول التي استتبعوها تاريخياً (الصديق الذي وصّف هذا الواقع بأنّه، فعلياً، يشبه «الحلم النازي» بقوّة بيضاء موحّدة، أضاف أنّ هذا التحالف، للصدفة، هو معادٍ للسلاف أيضاً كما كان النازيون). بمعنى آخر، «الديموقراطية» هنا ليست مشروعاً تحرّرياً يستمدّ معينه من الحداثة والعقلانية النقدية، بل هي تصاغ على شاكلة «دينٍ» يرى نفسه الحقّ وكل الآخرين، أيّاً كانوا، على ضلال. ويعتبر، كالدين المحارب، أنّ حقّه الطبيعي، عند التعامل مع الآخري، التبشير والتدخّل والغزو وتحويل العالم بأسره على صورته. حين تقوم رئيسة وزراء فنلندا، مثلاً، بالتحدّث عن روسيا، وتتكلّم بثقةٍ واستخفاف عن تدمير اقتصادها وتخريب مستقبلها، لأنها «استبدادية». حين تعتبر أن بضعة ملايين من الفنلنديين لهم الحقّ في حرمان شعبٍ جار من 140 مليوناً من الحياة لأنهم لا يحبّون نظامه وثقافته، فالشعار الديموقراطي هنا لا يتجسّد كمشروعٍ تحرّري، بل يصبح أقرب إلى الحجّة العنصرية، التي تعطي القلّة حسّاً بالتفوق والاستملاك تجاه الأكثرية «المتخلّفة».
قبيل الحرب في أوكرانيا، كانت هناك تحليلات كثيرة تقول إنّ «إلهاء» الغرب أو «تعثّره» في مسرحٍ أوروبي سيكون «في صالحنا». هذا صحيح إجمالاً، ولكنّي أذكر أنّ حسن الخلف، يومها، حذّر من «الوجه الآخر» لهذه العملية. حين يواجَه الغرب بتحدٍّ وصعوبات، فهو أيضاً سيتصلّب ويتعسكر، ويحيط نفسه بإيديولوجيا قتالية وعدائية. حجّة أن الأوروبيين (أو غيرهم) «جبناء»، سيتراجعون عند أوّل تحدٍّ، أو «سيوضّبون حقائبهم ويسافرون» عند اقتراب الخطر؛ هذا النمط من الفوقيّة والاستخفاف بالخصم هو نتاج ثقافة الدول الصغيرة، التي تعوّض عن الفعل بالتفاخر، وخطاب الأناس الذين يهرولون - بثقة - صوب الهزيمة.

ثقافة الحرب
قبل أن أناقش أفكار المفكّر الألماني وولفغانغ ستريك حول الصراع الغربي الروسي، يجب أن أشرح قليلاً عن خلفيته. ستريك ليس صحافياً، ولا كاتباً سياسياً يهوى المواقف الخلافية واستثارة الجدل. ستريك، في الحقيقة، أكاديمي محترف ومحترم للغاية، كنا نقرأ كتاباته في مناهج العلوم السياسية باعتباره أحد أهم وجوه المدرسة المؤسسية الجديدة. وأعمال ستريك في الأكاديميا هي أساساً عن اقتصادات الدول الصناعية المتقدّمة، ولا علاقة لها بالكتابات السياسية الحادة التي ينفرد فيها هذه الأيام.
يكتب ستريك أخيراً عن الإجماع السياسي حول أوكرانيا في الساحة الألمانية والأوروبية، وكيف تمّ بناؤه بسرعةٍ وقسر، حيث فهم الجميع أن لا مكان للمواقف المخالفة في هذا الموضوع، وقد كان اليسار و«الخضر» أكثر تعصّباً في هذه المهمّة من اليمين. يقول ستريك إن هذا الإجماع ستتم حراسته بقوّة القانون والبوليس: في الأشهر الماضية، مثلاً، قام الائتلاف الحاكم في ألمانيا - وبشكلٍ لم يواجه نقاشاً أو اعتراضاً ومرّ وسط صمتٍ عميم - بإدخال إضافةٍ «خطيرة» إلى القانون الألماني الذي يجرّم إنكار «الهولوكوست» أو التقليل منها. إلى الهولوكوست، أضاف القانون «جرائم الحرب» باعتبار «إنكارها، تبريرها، أو التقليل منها» جريمة يعاقِب عليها القانون. أي أنك قد تُطرد من وظيفتك وتساق إلى المحكمة وتنال عقوبة وغرامة إن صرحت برأيٍ مخالف حول «جرائم بوتين» وحربه في أوكرانيا. بمعنى آخر، يضيف ستريك، أصبح النقاش شبه مستحيل حول مواضيع الساعة مثل العسكرة والحرب الأوكرانية والتبعية لـ«الناتو».
يقول ستريك إن الغلاف الإيديولوجي الذي يجمع هذه النخب الغربية اليوم، هو بمثابة هويّة جديدة، يسمّيها هوية «غرباويّة» عامّة، بمعنى أنها تمثّل مفهوماً ضبابياً عن «الغرب» هو في مصدره مفهومٌ أميركي. وهذه الغرباوية، بالطبع، متحرّرة بالكامل من تناقضات المجتمع الأميركي نفسه، يكتب ستريك، بل تقدّم نفسها للخارج بصورة مثاليّة، صقيلة، تعبّر عن «العالم الحرّ» وقيمه على صورة اتحاد أوروبي، وولايات أميركية متحدة، و«ناتو». ولكنّ الملاحظة المثيرة لدى ستريك هنا، تتعلّق بالجيل الجديد من النخب والأكاديميين والمثقفين في أوروبا. هنا، يستخدم ستريك تعابير صارمة: لن تجد بين هؤلاء صوتاً نقدياً حقيقياً، أو موهبةً تقول الجديد، أو أعمالاً من مستوى الجيل الذي خرج في الخمسينيات والستينيات. وعلى رغم أن التعليم قد شاع والشهادات تكاثرت، فإنّ هذه الجحافل من المتعلّمين هم أكثر الناس احترافية (بالمعنى السيئ المملّ)، وعبودية لطموحهم، وهم فعلياً اليوم خدم المؤسسة وخطابها من غير سؤال.
أيّ صراعٍ يقف الغرب في طرفٍ منه، هو مواجهة هرمجدونية بين «الديموقراطية» وكلّ ما عداها، أي الشرّ


ألا يذكّركم هؤلاء بطبقةٍ لدينا؟ وبكمية المال والدعم والمؤسسات التي سعت إلى إنتاج ثقافةٍ مرتبطة بالغرب والخليج، ومثقفين يعملون بالآلاف لديها، وبالنتاج الهزيل والمضحك الذي يخرج عن كل هذا الاستثمار؟ السبب هنا واضح، فالامتثال والأداء الطقسي لا يمكن أن تخرج منهما ثقافة حقيقية أصيلة، بل هما يقتلان أي احتمالٍ للإبداع. و«هامش الاستقلالية»، أي ميزان القوى بين المثقّف الفرد والمؤسسة (هنا وفي الغرب)، قد انقلب بشكلٍ هائل، في العقود الأخيرة، لصالح المؤسسة. المسألة هي أنه، في المجال الثقافي والفكري، فإن هويّتك ببساطة هي موقفك، وهذا يعني أولاً موقفك من «المؤسسة» ومن التيار السائد. ومن دون موقفٍ، فأنت يستحيل أن تكون شيئاً مستساغاً: مالٌ من غير موقف يعطيك صحف الخليج ونشرات الـ«إن جي أوز» التي لا يقرأها أحد، انشغال «فنّي» من غير موقف يعطيك كتابات زخرفية لا تهم الناس، وموهبة من غير موقف تستحيل كلاماً جميلاً أجوفَ. وكم من موهبة انقلبت، في وهلة، إلى واعظٍ مملّ، أو شابٍ يكتب كالعجائز، أو مهرّجٍ يؤدّي مقابل راتب، ما إن انتقلت للعمل في مؤسسات الخليج ودكاكين الغربيين.
شاهدت، منذ فترة، مقابلة شارك فيها الأكاديمي الأميركي ستيف كوتكين، والأخير يمثّل ما هو أكبر من شخصه (هو بالمناسبة، مع التقدم في السن، أصبح يشبه الى حدٍّ بعيد الممثل الأميركي جو بيشي، ويتكلّم بلهجته وصوته تقريباً - وهذا الشيء الوحيد الجيّد في شخصيته). كوتكين كان أساساً باحثاً أنثروبولوجياً يعمل على الاتحاد السوفياتي (عن مدن التصنيع الستالينية، ونمط الحياة والإنتاج فيها). بعد سقوط الاتحاد، تحوّل كوتكين إلى أحد أبرز الخبراء الأميركيين عن التاريخ السوفياتي، ثم تم تكليفه بعملٍ هو التعبير الأقصى عن الانتصارية الأميركية: سيكتب كوتكين، المعادي المتعصّب للسوفيات وللشيوعية، السيرة النهائية لجوزيف ستالين. لديه التمويل والوقت والمكانة، والوصول إلى أرشيفات لم تُتَح للباحثين الروس أنفسهم، وسيكون هذا هو العمل الأحدث والأكمل والأطول عن ستالين، يخطّه أعداؤه، وسيكرّسه كسايكوباتي مجرم تحرّكه أمراضه النفسية ووساوسه القهرية. هكذا، في الأكاديميا، تدفن ذكرى خصمك للأبد.
ينظّر كوتكين، اليوم، من مركز «هوفر اليميني» في ستانفورد، في العداء لروسيا والصين. هو يتكلّم عن الصين بكراهية وعدائية لا تُصدّقان، من دون أن يعطي أسباباً لذلك أبعد من أنهم «ليسوا نحن»، وهم بالتالي شموليون ومجرمون وأغبياء، لا يجب التعامل معهم إلا باعتبارهم خصوماً مع وقف التنفيذ. هنا تجد الخطاب «الليبرالي» في حقبته الحالية وهو يتحوّل فعلاً إلى ما يشبه القناعة الدينية، والخطّ الذي يقسم بين المؤمنين والكفّار. حتى إنجاز التنمية في الصين، لا يسمح كوتكين بنسبه إلى النظام الصيني؛ هو يخرج هنا بنظرية غريبة (تستند إلى كتابٍ وحيد) مفادها أنّ «الشعب الصيني» هو مَن قام بالانفتاح والإصلاحات، لا النظام، بل هو قد أَجبر النظام عليها. بمعنى آخر، عند كوتكين، فإنّ كلّ ما حصل في العقود الماضية، من بناء المدن الجديدة والبنى التحتية والمستشفيات ومراكز الأبحاث والقطارات، هذه كلها لم تكن مشروع دولةٍ منسّقاً ومخطّطاً، بل نتاج حركة شعبية من «تحت» قامت رغماً عن الحزب الشيوعي. الصين، في عرف كوتكين، لم تنمُ إلا لأن الغرب سمح - بحماقة - بذلك، ولأن «الشعب» أَجبر الحكومة على الرأسمالية. «الشعب» هنا، كالديموقراطية، يتحوّل إلى رمزٍ لتغطية نظريات تنضح بالعنصرية وإنكار أيّ شرعية للآخر أو أحقيةٍ وكيان. كان يجلس في المقابلة إلى جانب كوتكين، المؤرخ البريطاني اليميني نيال فيرغسون، والاثنان لا اختصاص لهما في دراسة الصين، وهما يزايدان على بعضهما في تأصيل الكراهية والعداوة تجاه الصينيين، ومعهما كان ضيفٌ ثالث هو رجل أعمالٍ أميركي استثمر في الصين لعقود، وكان يوافق ببلاهة على كلّ ما يقولانه.

الأزمة الممتدّة في عالم الجنوب
ولكنّ أغلب العالم هو ليس الغرب والصين، بل الامتداد الواسع بينهما. وفي هذا المجال «الجنوبي» تعيش المجتمعات أزمتها البنيوية التي لا تنتهي. ماذا نقصد هنا؟ سنستعين بالأكاديمي الأوكراني، فولوديمير ايششنكو، وهو أحد الكتاب المفضّلين لديّ في الفترة الماضية، لا بسبب تحليلاته عن أوروبا الشرقية وروسيا، بل للتشابه المذهل بين «الحالة السياسية» التي تعيشها دول المجال السوفياتي وبين حالتنا السياسية في هذه المنطقة. فالأزمة في «دول الجنوب» في الكثير من أوجهها هي عامّة ومشتركة، وليست خاصّة ببلدك وثقافتك وتراثك وحدك. ماذا نعني هنا بـ«الأزمة المديدة»؟، باختصار، وبالمعنى الأبسط، هي تعني أنّ بلدك لم ينجح في خلْق تنمية واقتصاد حيويّين يحاكيان الدول الثريّة، ومستوى نموّ واستهلاك مرتفعَين، ومكان محظي في النظام الدولي. هذا ما حصل لكل دول المجموعة السوفياتية السابقة التي لم يتبنَّها الاتحاد الأوروبي، وللغالبية العظمى من دول العالم الثالث. المعنى «السياسي» لحالة الركود هذه هي أنها لا تسمح بإنتاج نظام سياسيّ منفتح ومستقرّ، فيه تداول سلسٌ للسلطة وإدارة ديموقراطية للاختلاف. على الهامش: الشرط الأساسي لنظام ديموقراطي ليبرالي ناجح هو أن تكون النخب، على اختلاف تيّاراتها، متوافقة على الاتجاه العامّ للأمور، ولا يكون بينها انقسامات حادّة في النظر إلى الاقتصاد والهوية والنظام السياسي. من هنا، يتخوّف الكثير من المحلّلين في أميركا من وصول الانقسام في البلد إلى مستوى انشقاق حقيقي ضمن الطبقة الحاكمة، والبعض يتكلّم عن نُذُر حرب أهلية، مع أن «الصراع» بين اليمين واليسار في البلد لم يخرج فعلياً بعد من المجال «الثقافي».

«جنّة الغرب» لن تكون متاحةً للجميع، فعلينا إذاً، نحن «الآخرين»، أن نجد لأنفسنا منفذاً قبل أن يصبح «الخلاص الفردي» هو الحلّ الوحيد المتاح


في حالة الركود أو الانحدار هذه، يكتب ايششنكو، خرج نمطان من الأنظمة في دول المجال السوفياتي: تلك التي اختطّت الطريق الانتخابي الديموقراطي (كجورجيا وأوكرانيا) عاشت حالة مستمرّة من الانفجار، و«ثورة» تليها ثورة تغيّر الطاقم الحاكم ولكنها لا تعالج جذور الأزمة، بل تعمّقها. وبين جولة ثورية وأخرى، تسود «ديموقراطيات» تحاصصية فاسدة، يشتري المجتمع المدني فيها الجمعيات ورؤوس الأموال الغربية، ونظام حكم فاشل يهيّئ الظروف لهبة شعبيّة جديدة. الطريق الثاني، طريق «السلطوية» بحسب ايششنكو، ينتج أنظمة كما في روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان. هنا، أنت تقوم بـ«تجميد الأزمة» بدلاً من حلّها. بمعنى أن شرعية النظام تأتي من كونه يمنع الانهيار والحرب والاحتمالات الأسوأ، ويحافظ على المكتسبات الموجودة، ولكنّه لن ينقلك إلى حالة بلدٍ متقدّمٍ ينمو بثبات وثقة. المشكلة هنا، يضيف الباحث الأوكراني، هي أنّ نظاماً كهذا هو شخصانيّ إلى درجة أنّنا لا نعرف ماذا سيحصل، مثلاً، لو مات بوتين فجأة. لا خليفة واضحاً، ولا عملية واضحة لاختيار خليفة، أو حتى شروط واضحة تقرّر نوعية الشخص الذي يجوز أن يتسلم الحكم، يقول ايششنكو، وكلّ التوازنات الداخلية التي تبقي البلد مستقرّاً، (بين البيروقراطيين والعسكريين والأوليغارشيين وكل مراكز القوى) مرتبطة مباشرة بشخص بوتين (أو لوكاشنكو، أو نزارباييف)، ولا ضمانة لاستمرارها من بعده.
ألا يذكّركم هذا بحالة النظام العربي قبل عام 2011 والنظم العربيّة الرئاسية الممتدّة؟ في مصر وسوريا والجزائر وتونس واليمن وغيرها، كان مفهوماً، منذ السبعينيات، أن النظام القائم لن يحوّل بلدك إلى أوروبا، ولن يحقّق «المجتمع الثوري» الموعود ذا الوفرة. شرعية النظام كانت تأتي من عواقب غيابه، وفي أنه يؤمّن حدّاً من الاستقرار (العليل)، ويمنع التناقضات الداخلية من أن تتحوّل إلى صراعات. بالمناسبة، في النظام العربي «ميزة» غير متاحة في روسيا، وهي أنّ في وسعك أن تعيّن ابن الرئيس مكانه، أي أن تؤسّس لسلالة تضمن - عبر الاتصال البيولوجي - استمرار التوازنات والتفاهمات القائمة والتوزيع الإجمالي للسلطة من دون اختلال. وحين حصل «الانتقال الديموقراطي» في بعض الدّول العربية، وخرجت من نير «الاستبداد»، ما كانت النتيجة؟ ليس سويسرا أو فرنسا، بل شيء يشبه جورجيا وأوكرانيا وقيرغزستان. والبعض ذهب، كالمكّوك، من نمطٍ إلى آخر وبالعكس (أتوتوقراطية ثمّ ثورة ثمّ أوتوقراطية)، أو هو يعيش في حالة الأزمة الممتدّة و«الثورات» التي تتوالى ضدّ عقم النظام وفساده. الدّرس هنا هو أن أسباب الأزمة أعمق ممّا قد رُوّج له في الماضي، وأن ثنائيات مثل «ديموقراطية/ استبداد»، التي سالت تحت اسمها دماءٌ ودمار لا يحصى، قد تكون زائفة وسبب المشكلة، في الحقيقة، هو في مكانٍ آخر.
في هذه الدول «الفاشلة»، أو التي توشك باستمرار على الفشل، تصبح العلاقة بينك وبين الغرب المزدهر (أو أيّ مجتمع استهلاكي ثري، كما في الخليج) تشبه إلى حدّ ما العلاقة بين شعوب الدول الاشتراكية وأوروبا الغربية أيام الستار الحديدي. الناس لديك ينظرون بحسد ولهفة إلى مستوى حياة هناك يعرفون أن بلدهم لن يؤمّنه لهم، ولن تختبره عندنا إلّا القلّة المحظيّة - ومن شبه المستحيل أن يكون ذلك بالحلال. في الوقت ذاته، يصبح «فشلك» أو فقرك بمثابة حجّة عليك، يشهرها كلّ مَن يريد أن يستغلّك أو يبتزّك أو يعلّمك كيف يجب أن تكون؛ وأنت أصلاً في دولٍ معدومة السيادة، المجتمع فيها مفتوحُ لكلّ مَن يدفع.

خاتمة
يكتب ايششنكو أنّه، في حالة الركود/ الأزمة هذه، سواء في روسيا أو أوكرانيا أو غيرهما، سوف تخرج بطبيعة الأمر «طبقة وسطى محترفة» لن تجد لها مكاناً في المجال السياسي المقفل. أناسٌ تعلّموا تعليماً حديثاً ولديهم مهارات وهم يعرفون ما يجري في العالم الأوسع. الخصم الداخلي لهذه الطبقة هو رأس المال التقليدي والسياسيون الحاكمون، الذين لا يفسحون مجالاً لغيرهم، ويمنعون تحديث البلد وتطويره. بهذا المعنى، يقول ايششنكو، تفهم هذه الطبقة الوسطى أن «المزيد من دمج بلادها مع الغرب هو الوسيلة الوحيدة لتعظيم نفوذها» ومكانتها في المجتمع. ولهذا السبب، هم يصبحون - بحسب الباحث الأوكراني -
«رأس الحربة» في هجوم القوّة الناعمة الغربي في هذه الدّول. من جهةٍ أخرى، هذه القوى والجمعيّات التي تموّلها لا تقدر، مهما نالت من موارد واحتلّت الحيّز العام، على اجتذاب جماهير واسعة في بلدها وتنظيمها. وهذا ببساطة لأن مشروع هذه القوى الليبرالية (والنيوليبرالية) «نرجسي» إلى أبعد الحدود، لا يعني سوى طبقتها، وهي لا تملك مشروعاً اجتماعياً فعلياً تقدّمه للناس. أي أنهم قد يتمكّنون من خداع الناس لبعض الوقت، ولكنهم لن ينالوا ولاءهم على المدى البعيد، وهذا ما تبيّن بالتجربة في ميادين السياسة في جورجيا وأوكرانيا، تماماً كما حصل في العراق ولبنان.
العبرة هي أنّ هذا الطّوق يجب أن ينكسر، على مستوى العالم، كما في بلادنا المأزومة، فالاستقرار لا يمكن أن يتكرّس حالةً دائمة. كلّ مرحلةٍ تاريخية تفرز ضروراتها وأولوياتها، وأنت لا يمكن أن تحدّد الأولويات بشكلٍ صحيح من غير أن تنطلق من فهمٍ صحيحٍ للعالم ولسياقك التاريخي. اتجاه الأمور يعدنا بمستقبلٍ صعب، ولكنّه قد يكون عالماً جديداً يصلح للشجاع. الأمر الأكيد هو أنّ مَن سيستمرّ بتناول مشاكل اليوم عبر لغة الماضي وثنائياته سوف يظلّ عالقاً في الدورة القديمة العقيمة. «جنّة الغرب» لن تكون متاحةً للجميع، فعلينا إذاً، نحن «الآخرين»، أن نجد لأنفسنا منفذاً قبل أن يصبح «الخلاص الفردي» هو الحلّ الوحيد المتاح، وهنا معنى الهزيمة.
* كاتب من أسرة «الأخبار»