أبدع الفريق المغربي في كرة القدم في كل مبارياته في الدوحة، وجذب اهتمام الملايين في «العالم العربي» وبالتأكيد خارجه أيضاً. والدلالة على ذلك أنني شخصياً حفظت مواعيد مباريات المغرب وتابعتها وتفاعلت معها رغم أن علاقتي بالرياضة ليست بالشيء الذي يفتخر به.وإلى جانب أداء الفريق في الملعب كنت أراقب الجماهير المتحمسة للفريق المغربي، وأستمع إلى هتافاتها وشعاراتها، وكنت أشعر أن هتافات تلك الجماهير ليست فقط دعماً وتعاطفاً مع الفريق المغربي، بل هي تعبير عن حاجة تلك الجماهير نفسها، حاجتها للوحدة، وتوقها للنصر، ورغبتها في مجرد الهتاف الجماعي، وإدراكها أن الانتصار لفلسطين... هو اختصار وتتويج لذلك كله.
إلى جانب أدائهم الرياضي المبهر، أظهر اللاعبون المغاربة تفوقاً أخلاقياً بقيامهم ببعض اللفتات، جعلت الجماهير المؤيدة لهم تشعر أنها تهتف لفريق يستحق ذلك، فاصطحاب بعض اللاعبين لأمهاتهم وذلك الاحترام الذي أظهروه لهن كان في غاية الجمال، وكذلك كانت الصلاة في الملعب قبيل المباراة (والصلاة في هكذا موقف لها مدلولات أبعد من التديّن)، مقارنة برفع آخرين لشعار المثلية (ورفع شعار المثلية في هكذا موقف له مدلولات أبعد من المثلية نفسها).
لكن هذه الصورة الجميلة لأداء اللاعبين الرياضي والأخلاقي، ولتعاطف الجماهير بهتافاتها وشعاراتها وفرحها مع الفريق، إضافة إلى ردود الفعل الواسعة على ذلك عبر السوشال ميديا، لم تخل من بعض السلبيات التي أخرجت تلك الشعارات من سياقها، بخاصة تلك الشعارات التي لها علاقة بالهوية والتي تؤخذ من قبل البعض بحساسية في بعض الأحيان.
كشخص معني بالتقارب الثقافي والوجداني (على الأقل) بين شعوب المنطقة التي أحب أن أسمّيها «الشرق» يجب أن أقر أن شعوبنا، سواء في المشرق أو المغرب، ورغم تعاطفها الوجداني مع بعضها البعض، إلا أنها تجهل الكثير عن بعضها، وتحمل عن بعضها تصورات وأفكاراً ليست بالضرورة مطابقة لواقع الأمر.
وعلي أن أقرّ أيضاً أن المشرق يجهل الكثير عن التطور الثقافي في البلدان المغاربية، فالحركة الثقافية في تلك البلدان، والنخب الثقافية هناك (أحفاد ابن خلدون وابن رشد) قطعت شوطاً كبيراً في تطورها قياساً بمثيلتها في الشرق. لفترات طويلة لم يكن التواصل قائماً بالشكل الكافي بين المشرق والمغرب، وإذا كان لا بد من كلمة إيجابية تجاه منظمات المجتمع المدني فهي التي أحيت في السنوات الأخيرة ذلك التواصل، وإن كان لا بد من تفعيله بوتيرة أكبر، وفي مجالات أوسع.
في المسألة الهوياتية، علينا في هذه المنطقة إدراك أن تداخلاً هوياتياً بين شعوب منطقتنا لم يتوقف عبر التاريخ. فالموقع الجغرافي لهذه المنطقة، جعل كل أعراق العالم تمر من هنا، وتترك بصماتها بشكل أو بآخر. لا يمكن الحديث عن عنصر «نقي» في هذه المنطقة لا عربي ولا أمازيغي أو كردي أو سرياني أو غيره، وفي الوقت نفسه من حق كل شخص أن يشعر بهويته كما يريد، وكل مكون من مكونات المنطقة أن يمارس حقوقه الثقافية كاملة وكما يريد، شريطة أن تبقى الدولة دولة مواطنيها، وتبقى قضايا الأمّة قضاياها.
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قاد الرئيس جمال عبد الناصر مشروع الأمّة «العروبي»، حيث حاز على رضى معظم شعوب المنطقة بكل مكوناتها. في تلك الفترة، شعر الجميع بـ«عروبتهم». اسم جمال، تيمّناً بجمال عبد الناصر، يحمله الآن عرب وأمازيغ وكرد من بينهم أصدقاء أعزاء في المغرب. أي دراسة لسوسيولوجيا الأسماء في المنطقة ستظهر أنه عندما يتراجع المشروع تغيب الأسماء.
وقت كانت العروبة مشروع النهوض بالأمّة لم تكن انتماء ضيقاً لعرق ما، بل مظلة هوياتية لجميع مكونات الأمّة، أخذت البلدان المغاربية اسم المغرب العربي من دون إشكالات، وهكذا جرى للعديد من البلدان العربية الأخرى. لكن تعثر المشروع العروبي الناصري بعد عدوان 1967، إضافة إلى خطايا ارتكبتها أنظمة تبنّت القومية العربية في بعض البلدان، إضافة إلى تأثيرات أخرى ليس هنا مجال ذكرها، دفعت بنخب لمكونات أصيلة في المنطقة إلى تبني مطالبها «الخاصة»، أحياناً بحق، وفي أحيان من باب أن لكل مكون الحق في أن يرى نفسه كما يريد، وأحياناً أخرى تذهب بعض هذه النخب، ومن كل المكونات، بمن فيهم العرب، إلى رؤية أنفسهم عنصراً نقياً متفوقاً لوثه المكون الآخر وأعاق تقدّمه. هذا ما أدى إلى تعقيدات ومضاعفات ذهبت بالبعض لأن يتعامل مع الهويات لا على قاعدة التكامل والتكاتف والانسجام والنهوض الجماعي، بل كشكل من أشكال العنصرية التي تذهب بالجميع إلى التعصب وربما العنف، وتشكل خطراً واضحاً على السلم الأهلي ووحدة الشعوب.
إدراكاً لهذه الحساسيات المستحدثة، المحقة منها وغير المحقة، لدى نخب لمكونات أصيلة في المنطقة كان عنوان كتابي الأخير «تحرير الشرق... نحو إمبراطورية شرقية ثقافية»، حيث استعنت بالجيوستراتيجيا الجامعة على الأيديولوجيا «المفرّقة». هذا الكتاب يدرك حساسية الهويات، ويدرك موضوعيتها في الكثير من الأحيان، ويدعو إلى إيجاد المظلة الجامعة للجميع في ظل الحرية المتاحة للجميع أيضاً ضمن الجغرافيا التي نتحدّث عنها.
في إحدى زياراتي للمغرب، كان سائق التاكسي بين المطار ومدينة الدار البيضاء يحدّثني حول النهضة العمرانية التي تجري في المغرب وكذلك الاهتمام بالطبيعة، وأكد لي أنهم كأمازيغ يهتمون بالطبيعة إلى أبعد الحدود، وعندما اقتربت منه سيارة مسرعة علق بقوله «نحن العرب لا نحترم قوانين السياقة»! إلى هذا الحد تصل الأمور في فترات التخلخل الهوياتي.
لا ألوم الدولة كثيراً لما وصل إليه فهم البعض للبعض الآخر في بلداننا، فالدولة تسعى عادة لإيجاد التوازنات من أجل ضمان عملية هادئة للحكم. لكنني بالتأكيد ألوم بعض المثقفين الذين يأخذون منحى الانحياز المرضي لمكون على آخر، ويؤثرون على العامة بهذا الاتجاه.
في الوقت نفسه يوجد المثقف المسؤول والواعي لأهمية تقارب مكونات المنطقة وشعوبها. استمعت على سبيل المثال إلى محاضرة للمرحوم محمد عابد الجابري ألقاها في مؤتمر في صنعاء، قال إنه ولد في قرية أمازيغية في المغرب، ودرس في المدرسة العربية وعاش في المدينة في ثقافة عربية، وعندما زار اليمن أول مرة وذهب إلى حضرموت رأى أطفالاً يمنيين يلعبون في الطريق ويتحدثون بلغة قريبة إلى لغة قريته الأمازيغية... قال أنا مغربي أمازيغي عربي يمني مسلم.
مثل هذا من يجب أن يكون قدوة للنخب الثقافية في بلادنا... المحترم للحرية، والمدرك لأهمية تقاربنا ووعينا بمصيرنا المشترك، والواعي لما يريده «آخرون» لمنطقتنا وشعوبنا. بمثل هؤلاء لن تبقى نقطة «زوج بغال» (بغلين) وهي نقطة الحدود بين المغرب والجزائر ولا مثيلاتها في كل بلداننا.

* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله