أفاق فرويد في كتابه «قلق في الحضارة» (قلق، أو: «توعك»، «عسر»، «دعث» - كلها مترادفات للشيء نفسه) من النوم باكتشافه لدافع جديد هو «دافع التدمير» أو دافع الموت. دافعٌ كاد يغيّر مصير العلم الذي ابتدعه. والقلق هنا صادر من تهافت المنهج الذي جرى تطبيقه في مجالات ليست له ولا تلزمه، وهو تهافت في قراءة وتفسير الأزمة العامة للرأسمالية والحضارة البرجوازية مع ظهور الثورة الاشتراكية وانتصارها في روسيا عام 1917 ومع أزمة الكساد الكبير عام 1929. ومع صعود الفاشية الألمانية، وقبلها بعشر سنوات الفاشية الإيطالية. يقول فرويد في «موسى والتوحيد»: «نحن نحيا في عصر غريب فعلاً، ونلاحظ بدهشة أن التقدّم متواكب مع البربرية». ويقول لاحقاً: «ماوني يتسلّط عليَّ ويقضّ مضجعي كروح معذبة في النار. وإني لعلى علم أكيد بأن هذه الطريقة في تقديم موضوع من المواضيع (دراسة المشكلات المتعلقة بتكوين طابع الشعب اليهودي) غير ذات جدوى وغير ذات طابع فني في آن معاً، وإني لمستهجن لها بدون تحفّظ. فلمَ إذاً لم أتفاد هذا الخطأ؟». ويضيف: «ومن حق كل امرئ، ما دمنا نؤكد أن منهجنا لا يوصلنا حتماً إلى الحقيقة، أن يتساءل عن السبب الذي حملنا على مباشرة هذا العمل». لن يستطيع فرويد التوقف، لأن التوقف يعني موته الروحي، موت التحليل النفسي ودمار الأرشيف. وعدم التوقف تعني، في الوقت نفسه، إحالة الأرشيف الفرويدي إلى أرشيف آخر. ولأن صعود الفاشية الذي عايشه فرويد، طرح بقوة «سر "استمرار" اليهود في التاريخ»، وكراهية الشعوب المحيطة لهم.

واللافت أن الطبعة الألمانية الأولى لكتاب فرويد «قلق في الحضارة» هذا قد أُرّخت سنة 1929. والكتاب تتمة لكتيب آخر ينتقد فرويد فيه الدين هو «مستقبل وهم».
كان على فرويد كمؤسس أن يعزز الأرشيف التحليلي النفسي أكثر، بمطبوعات إضافية. وعلى فرويد أن يعتذر من جمهور القراء لأن هذه التتمة «ليست سوى تكرار أمين، بل حرفيّ في كثير من الأحيان» لما سبق أن قيل. ومع أن هذا التعزيز بالتكرار والمبالغة في الطباعة وخسارة الحبر والورق وجهد عامل المطبعة كانت غير اقتصادية، وضرباً من الهدر كما هو حال الهدر الرأسمالي في عصره الإمبريالي، إلا أن فرويد اكتشف عبر هذا الهدر دافعاً جديداً لدى الإنسان البرجوازي؛ الإنسان الذي هو فرويد نفسه، دافعاً آخر غير «الإيروس»، سمّاه، تارة غريزة العدوان، وأخرى غريزة التدمير، أو «دافع الموت»، الذي هو حُمّى الأرشيف، الرغبة في فوضى الأرشيف، لا بل تدميره. وهذا الاكتشاف كان من الخطورة بحيث إنه كاد يقضي على كامل الأرشيف الفرويدي منذ تأسيسه بكتاب «تفسير الأحلام» سنة 1900. لكنّ للحمّى أو «مشكل» الأرشيف محرّكاً آخر هو «ازدواج الأرشيف» لدى فرويد، حيث يميّز بين «الحقيقة التاريخية» والحقيقة «المادية» الطبيعية. كما يمكن للحمّى أن تعني الاحتراق بالشغف بمعرفة الأصل.
لقد انتاب فرويد إحساس غامض بلا جدوى العلم الذي أسسه على «الإيروس» و«الليبيدو» أو الدافع الجنسي. خاصة عندما حاول، اعتماداً على منهج التحليل النفسي الذي ابتدعه، تفسير أزمة الحضارة أو توعكها وأزمتها العامة سنة 1929 وصعود النازية، حيث اكتشف عوارض تهافت يتخلل منهجه التحليلي النفسي، خاصة مع نقله من المستوى العيادي الفردي إلى المستوي التاريخي-الاجتماعي، الفلسفي والديني. كان دافع التدمير لدى فرويد لكامل الأرشيف التحليلي النفسي نوعاً من توبة روحية عن منهج «العقلانية الطبيعية» البيولوجية الفردوية. يكتب في التمهيد الثاني (1938) لكتابه «موسى والتوحيد»: «فأنا ما زلت أشك اليوم، مثلي بالأمس (1929) في عملي بالذات، ولا أشعر كما ينبغي أن يشعر كل مؤلف، بالتواصل الحميم مع كتابي. وليس ذلك لأنني لست مقتنعاً بصحة استنتاجاتي».
لكنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصل إلى اكتشاف مفاده: إن تمرده على الآباء الدينيين الأوائل في الدين اليهودي (إبراهيم وإسحق ويعقوب) باسم (العقلانية الطبيعية) البيولوجية، لم يكن إلا تنفيذاً لإحدى وصاياهم واكتشافاتهم الأساسية المؤسّسة للأرشيف التوحيدي، وهي عدم الوثوق بالنظر الحسي والتحول إلى النظر العقلي في سبيل الوصول إلى العلم. يقول جاك دريدا: «في الرجل الجرذ، يربط فرويد ارتقاء العلم وارتقاء العقل بمجيء البطريركية» (ظهور ديانة الأنبياء أو الأديان التاريخية) (دريدا: حُمّى الأرشيف الفرويدي). لقد شكّل الدين التوحيدي انتقالاً من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد المنزّه عن الصفات الجسمية، وانتقالاً من الدين الطبيعي إلى الدين التاريخي. هكذا شكّلت العقلانية الطبيعية البيولوجية الفرويدية نكوصاً عن هذا التأسيس للأرشيف الديني التوحيدي أو دين الآباء الأنبياء.
وهكذا وجِد الأرشيف الفرويدي التحليلي النفسي وفرويد نفسه أمام تفسير طبيعي بيولوجي حرفي للأرشيف التوحيدي اليهودي، ما أحال هذا الأرشيف إلى أساسه الذي هو «الأرشيف التوحيدي» وإن كان بشكل سلبي، مثله كمثل الفرد الملحد الذي يحيل نفسه إلى الأرشيف الديني بشكل سلبي عبر إنكاره لوجود الله. ومثله كمثل «النصيين» أو «الحَرْفيين» في تفسير النصوص المقدّسة. نقرأ في «موسى والتوحيد»: «هذا في رأينا، منحى تطور العُصَاب: رضّة مبكرة، دفاع، كمون، انفجار العُصاب، عودة المكبوت الجزئية. أعتقد أنني أزحت النقاب عن طبيعة تلك السيرورات، أريد الآن أن أبيّن أن نتائجها، التي تشبه غاية الشبه الأعراض العصابية، هي الظاهرات الدينية». يقول فرويد: «إن محاجّتي تستند إلى "وحي" ش. دارون وفرضية لاتكنسون. لا يسع أحد أن ينعت طريقتنا في فهم التاريخ البدائي وتصوره بأنها تشط في الخيال إلا إذا استهان بغنى المادة التي نستند إليها وبقوتها على الإقناع».
هذه الحُمّى في الأرشيف الفرويدي، والإفراط في كتابة وتدوين مطبوعات متهافتة، ومحاولة تطبيق المنهج التحليلي النفسي الفرويدي في حقول فكرية مختلفة (الحضارة وتاريخ الأديان)، كانت علامة على أزمة عامة في الأرشيف الفرويدي، مثلها كمثل أزمة الرأسمالية العامة سنة 1929، وهي أزمة عامة للفلسفة البرجوازية في زمن انحطاط الطبقة وأفول مشروعها التقدمي في إحالة كتاب «قلق في الحضارة» إلى هذا الأرشيف لفلسفات الانحطاط البرجوازي كنسب وأبوة.
لقد ظهر الأرشيف الفرويدي (فرويد كأب مؤسس لهذا الأرشيف)، مع هذا الإعلان (قلق في الحضارة) على أنه تقليد ساذج لأرشيف أقدم: الأول أرشيف الآباء المؤسسين للدين التوحيدي ومنه اليهودي، والثاني أرشيف فلسفة الانحطاط البرجوازية والفلسفات البيولوجية (فلسفات الحياة) اللاعقلية والمادية الميكانيكية المبتذلة. يقول باختين: عندما تصل طبقة اجتماعية إلى مرحلة انحلالها، ويكون عليها مغادرة المسرح التاريخي، تشرع إيديولوجيتها في تكرار لازمة أن الإنسان هو في البدء حيوان. ويتم اختزال عبارة أرسطو «الإنسان حيوان اجتماعي» إلى «الإنسان حيوان»، على طريقة «ولا تقربوا الصلاة». إن اجتماعية الحيوان الإنساني يتم نسيانها بحزم، حيث تضع إيديولوجيا الطبقة الآفلة مركز ثقلها في كائن عضوي مجرَّد، وتكون الأحداث الأساسية الثلاثة لكل حياة حيوانية من ولادة وحياة جنسية وموت مدعوّة لإزاحة التاريخ. فالمناخ الاجتماعي–التاريخي صار عدائياً وبارداً، وتم اللجوء إلى دفء الحيوان العضوي. إن الأمر بالنسبة إلى الفرويدية لا يتعلق بموضة عابرة ومصطنعة مثلما هو الأمر بالنسبة إلى شبنغلر، وإنما بتعبير أكثر استمراراً وعمقاً من سمات مباطنة للواقع البرجوازي الأوروبي في عصر انحطاط الطبقة (باختين: الفرويدية).
هذه عاقبة الطغيان والتمرّد على أوامر التاريخ، والجهل بالتاريخ. وهو مآل مصير الطاغية أوديب. أوديب الذي سخر من «أقوال الوحي الإلهي» وكان جاهلاً بتاريخ أسرته وعائلته، عائلة جدّه قدموس، واللعنة التي ضربت هذه العائلة نتيجة زواج قدموس القادم من صور الفينيقية في الشرق من هارمونيا ابنة إله الحرب مارس، وتحالفه مع التيتان أبناء الجسدية.
هكذا أصيب الأرشيف الفرويدي بالحُمّى عبر اكتشاف مؤسّسه تهافت المنهج الذي رسم أصوله. حمّى ناجمة عن الشعور بالتدمير، تدمير الأرشيف، تماماً كما سمل أوديب عينيه حين اكتشف جهله وضلاله وطغيانه بتكبّره على الوحي الإلهي والتاريخ. وهكذا أيضاً حصل لفرانز كافكا الكاتب التشيكي حين قرر حرق جميع الأوراق التي كتبها. مثلُ كافكا كمثل فرويد؛ كلاهما يهودي الأصل ولديهما نزعة عقلانية طبيعية مفرطة كرد فعل على التعليم المفرط والمتزمت في اليهودية، واستجابة انفعالية مع أزمة البرجوازية العامة. يكتب فرويد في بداية كتابه «موسى والتوحيد»: «إن تجريد شعب من الشعوب من الرجل الذي يُحتفى به على أنه أعظم أبنائه ليس بمهمة بهيجة ينجزها المرء بخفّة قلب. ولكن ليس ثمة من اعتبار مهما جلّ، بقادر على إغوائي بتجاهل الحقيقة باسم مصلحة قومية مزعومة»، ويضيف: «إننا لواثقون أننا سنلام على جرأتنا المتجاوزة للحدود في إعادتنا بناء التاريخ القديم "لشعب" إسرائيل (سبط يعقوب). وعلى ما ندلل عليه من ثقة مسرفة ليس لها ما يبررها».
هذه النزعة الطبيعية (اللادينية) لدى كليهما هي ضرب من الوثنية والعدمية التاريخية، تقود إلى تدمير الذات وتدمير كل أثر، وقد تقود إلى الانتحار. يكتب دريدا في «حُمّى الأرشيف الفرويدي»: «حول موضوع سر فرويد، موضوع فكره الخَفي تحت غطاء كاذب أو الذي لا يجاهر به سيكون التحليل النفسي وفقاً له يهودية بدون الله؛ أو لن يكون أي أمل بخصوص مستقبل الدين. أنت قد تكون محقاً كما يقول ييروشالمي، الذي يرى في انسداد المستقبل، في انعدام الأمل، في اللاوعد، أكثر مما يرى في الإلحاد atheism، ما هو أقل يهودية، ما هو أكثر لا يهودية لدى فرويد». «هذه اليهودية هنا، يهودية من دون الله، تفتقر في جوهرها الأدنى، ولكن كما فلسفة العلم ذاته، إلى انفتاح المستقبل». فمع البرجوازية المنحطة، وفلسفاتها الرجعية، لا وجود لأي «مستقبل مقدس». «إن الفكر البرجوازي المرتبط، شأنه شأن المجتمع البرجوازي نفسه، بهيمنة الفعالية الاقتصادية، هو على وجه الدقة أول فكر دنيوي بشكل جذري وغير تاريخي في آن واحد عرفه التاريخ، أول فكر ينزع إلى إنكار كل مقدس، سواء المقدس السماوي للأديان المتعالية، أو المقدس المحايث للمستقبل التاريخي».
لقد اتجه كافكا، في نكوص عن التاريخ، إلى اللغة الطبيعية المهجورة وقتها وحوّلها إلى لغة رصينة صارمة. كان أسلوبه الطبيعي الوثني «أسلوباً يسعى بكل تركيز إلى الفهم المباشر للأشياء من خلال وصفها. هدفه الوحيد والأوحد هو مادية الأشياء المطلقة» (الأعمال الكاملة 1). كان يسعى لكي يدع الأصل يقدم نفسه بدون توسط، بدون تأجيل (حمّى الأرشيف). هذه النزعة الوثنية الطبيعية الناكصة عن التاريخ، والعدمية في أساسها، نجدها في عمل غوتيه الكبير (فاوست)، وفي شكاية هايني من دينه اليهودي بقوله: «إنه تلك الآفة الوافدة من وادي النيل، تلك العقيدة الموبوءة لمصر القديمة» (موسى والتوحيد). وهي نزعة إلحادية سادت الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، وورثت شيئاً منها الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية وانتقلت العدوى إلى روسيا الثورية. هكذا تكون العدمية الفاشية الألمانية (النازية) ليست استثناء في تاريخ الألمان الحديث.
لكن لماذا ارتدّ الكتّاب الألمان بعد يأسهم من الحضارة البرجوازية السريعة العطب والانحطاط، نحو العقلانية (الفيزياوية) الطبيعية اليونانية، ولم يرتدوا إلى مسيحية سلفية، على درب أمثالهم في الشرق الإسلامي؟ والجواب الأولي أن المسيحية «القويمة» الرسمية المعتمدة من الإمبراطورية الرومانية في القسطنطينية هي مسيحية خليط من تعاليم فلسفية يونانية وديانات قومية وثنية. «فقد أعادت الاعتبار، بعد أن اقتبست من الشعوب المجاورة العديد من الطقوس الرمزية، إلى الإلهة الأنثى الكبرى، وألحقت بها أيضاً العديد من آلهة الشرك، وإن تكن في الوقت نفسه قد ألبست هذه الآلهة ثياباً تنكرية، لم تفلح في إخفاء هويتها، وإن تكن أيضاً قد حطّت مقامها إلى مرتبة ثانوية» (فرويد: موسى). كما أن التعصب المسيحي كان في العصور الوسطى (كما كان شأنه في الإسكندرية من قبل) شديداً على المخالفين للعقيدة «القويمة». «فأساليب القمع العنيفة ليست غريبة عن الكنيسة (القويمة)». يقول دريدا: «إنني أرتجف أمام مجاز الفرادة الدرامي، "الرؤية الفريدة" و"الأمل النوعي" فقط في إسرائيل وليس في مكان آخر. أرتجف من أمر "شعب" بأكمله بالتذكر، تذكر الأرشيف، وتذكر وعد معين لأجل المستقبل. إن ضرورة هذا العنف الأرخوني هو ما يعطي معنى ما لكتاب فرويد (موسى والتوحيد)، ويجعل من قوله: الدين اليهودي كالعصاب، قولاً فيه بعض نظر»!
وبطبيعة الحال، فالتعصب سمة من سمات «الدين» إذا ركبه شيطان سلطة الطغيان.
باكتشافه دافع التدمير والموت في عمله المذكور أعلاه، ومعاقبة النفس الأوديبية والتوبة، يكون فرويد قد اكتشف حدود العلم الطبيعي-البيولوجي ومأزقه وأزمته وانسداد آفاقه، ويكون الأرشيف التحليلي النفسي الفرويدي المكرّس كعلم طبيعي-بيولوجي (عقلانية طبيعية فيزياوية-بيولوجية) قد اكتشف تهافته كانطباعات لا علاقة لها بالمفاهيم العلمية، ويكون قد تاب إلى طبقته السفلية الجديدة القديمة الأصل، وهو أرشيف آباء التوحيد اليهودي. وفقد هكذا طابعه النوعي الفريد وطابعه العلمي ليتحول إلى شكل بيولوجي-طبيعي مبتذل لتفسير أرشيف آباء التوحيد، أي ليظهر كطبقة ثانوية للأرشيف القديم. يكتب فرويد سنة 1938 (قبل وفاته بعام): «إن الأبحاث التحليلية النفسية تقابل من الكاثوليكيين باهتمام مستريب، ونحن لن نؤكد أن هذه الريبة مخطئة. فحين تقودنا أبحاثنا إلى الاستنتاج بأن الدين ما هو إلا عصاب تشكو منه الإنسانية، وحين تبين لنا أن قوته الهائلة تجد تفسيرها على النحو نفسه الذي نفسر به الوسواس العصابي لدى بعض مرضانا، ففي وسعنا أن نطمئن إلى أننا نستعدي على أنفسنا كل سلطات هذا البلد وضغينتها» (موسى والتوحيد). ويقول: «إننا نلاحظ في خاتمة المطاف وجود توافق بصدد نقطة واحدة بين مشكلة العصاب الرضي ومشكلة التوحيد اليهودي. هكذا نجد أنفسنا، مهيئين بحكم هذا، لإمكانية البحث عن مشكلتنا في وضع سيكولوجي خاص». ويقدم مثلاً آخر هو الداروينية التطورية وكيف قُبلت بعد مقاومة وفترة كمون، وينسى فرويد أنها قُبلت بعد الظهور السياسي للبروليتاريا على المسرح التاريخي الأوروبي مسلحة بفكرة الثورة، فكان قبول تطورية دارون وكاوتسكي أهون الشرين. يقول فرويد بخصوص الشروط التي سمحت للدين التوحيدي بالظهور من جديد: «الشروط التي أتاحت مثل هذا التطور لا تزال مجهولة بالنسبة إلينا» ويضيف: «والحق أننا نتحرك هنا في مضمار سيكولوجيا الجموع (سياق اجتماعي-تاريخي) الذي لا نشعر به بالأرض ثابتة تحت أقدامنا».
هذا الاكتشاف في الإعلان المستدرك للأرشيف الفرويدي ليس عودة للماضي فحسب، بل دعوة لمصير المستقبل، مستقبل أرشيف العلم عبر دعوة خفية لنقد العقلانية الطبيعية الفيزياوية والبيولوجية ذات الأفق المسدود. كما هو حال فلسفة العلم والفلسفات البورجوازية اللاعقلية بداية القرن العشرين، وحال محاولات خروج التحليل النفسي من أزمته عبر فلهلم رايش وإريك فروم، اللذين حاولا المزاوجة بين الفرويدية والماركسية، بين منهج طبيعي-بيولوجي فردوي، وبين منهج اجتماعي-تاريخي ديالكتيكي.
والأرشيف من كلمة أرخي اليونانية، Arkhe هي اسم يفيد معنى البدء والتأسيس والأصل، (العين والنبع)، التأسيس لمعنى جديد وعهد جديد؛ التأسيس لعلم ومعرفة جديدين. ويفيد معنى المبدأ الطبيعي والتاريخي، والمبدأ وفقاً للقانون أو الناموس أو الشريعة كشريعة موسى. حيث تمارس السلطة والنظام الاجتماعي كممثلة للأوامر التاريخية الإلهية، في هذا المكان الذي يصدر عنه الأمر الناموسي.
ومع ذهاب جيل الآباء المؤسسين أو «العصر الذهبي» حيث التاريخ يعمل بكامل اندفاعه وقدرته، يأتي العصر النحاسيّ والحديديّ، وتتراكم تفسيرات وتأويلات للنص المؤسس، ويعتمد الحكام الجدد على التفسير الحَرْفي للنص، وتظهر «طبقة» من الكهنة من حراس التفسير، هم الأراكنة (الأراخنة) كُهّان المعبد اليهودي الذين هاجمهم فيلون الإسكندريّ كحراس للتفسير الحَرْفيّ الأسطوري، مثلما هاجمهم لاحقاً الغنوصيون المسيحيون في الإسكندرية بقسوة لافتة جلبت عليهم غضب الكهنة ومن بعدهم غضب آباء الكنيسة المسيحية «القويمة» المكرّسة بقانون الإيمان.
لقد «باتت مهمة الكهنة (مع انصهار اللاويين)، تطوير الطقوس والسهر عليها، وكذلك الحفاظ على الكتب المقدسة، وتنقيحها في الاتجاه المناسب» (موسى والتوحيد). إن الله الذي يبحث عنه الغنوصي في أعماق نفسه، ليس الإله يهوه صانع هذا العالم المادي الناقص المليء بالشرور، بل هو الآب النوراني الأعلى. «هذا العالم الذي يتخلله الشر، ليس من صنع الله بل من صنع "إله أدنى" هو إله التوراة (يهوه) الذي يوازي أنجرا ماينو شيطان الزرادشتية، وهم يتصورونه على هيئة مسخ، مزيج من هيئة الأفعى وهيئة الأسد، له عينان جمرتان من نار، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من قوى الظلام المدعوين بالأراكنة» (السواح: الوجه الآخر للمسيح). إنهم الطغاة ومن حولهم حراس النصوص المقدسة أصحاب التفسير الحَرْفيّ. حراس «النصوص المقدسة» وتفسيرها الحرفي، المُكرسة لخدمة الطغاة، حيث تتلخص مهمة هؤلاء الأراخنة في قمع أي تأويل مختلف مجازي، وأي مجاز يسمح بالتحرر بمعونة من «النص المقدس» المؤوَّل رمزياً-مجازياً.
إن معظم النصوص الغنوصية تشير من قريب أو بعيد إلى نظرية التكوين الغنوصية هذه. لكنها مشروحة بالتفصيل في ثلاثة نصوص أساسية من نصوص «مكتبة نجع حمادي»، هي الإنجيل المنحول ليوحنا، وطبيعة الأراكنة (الأراخنة)، وحول أصل العالم. (السواح: الوجه الآخر)، إن الأرشفة تفترض القمع والكبت والتدمير؛ وتتضمن نقيضها؛ اللاأرشفة!
هكذا أسّس التيار الغنوصي المسيحي في الإسكندرية لأرشيف منشق عن أرشيف آباء الكنيسة المسيحية «القويمة» الرسمية المكرّسة ومعه أرشيف كهنة اليهود، الأراخنة المكرّسون لحراسة التفسير الحرفي للأناجيل والتوراة في خدمة الإمبراطورية الغربية. وقد تم اكتشاف هذا الأرشيف المنشق المهرطق -حسب لغة «آباء» الكنيسة- سنة 1945 في نجع حمادي بصعيد مصر، حيث تم حفظه، ليس على رفوف مكتبات الكنائس في أوروبا العصور الوسطى، ولا في قصور القياصرة، بل في جرّة فخارية تحوي 13 إنجيلاً حيث يدل الرقم هذا على الثورة وعلى كون جديد بديل كامل. تماماً كما يدل على الصليب المصري (عنخ) مفتاح الحياة، لا على خشبة الصلب والإعدام المعتمدة لدى المسيحية «القويمة» المُكرّسة. أرشيف «شرقي» مهرطق في مواجهة أرشيف آباء الكنيسة «القويمة» المكرسة، ومعه أرشيف كُهّان المعبد اليهودي الذي وُضع لخدمة سلطة الإمبراطورية «الغربية» وهيمنتها.
يقول فرويد في ردّ ضمني على جهود تلميذه كارل غوستاف يونغ بخصوص مسألة «اللاشعور الجمعيّ»: «ليس من اليسير أصلاً أن ننقل مفاهيم علم النفس الفردي إلى علم النفس الجمعي، وإن الشك ليساورني في أن يكون هناك نفع أو جدوى من إرساء مفهوم عن لاشعور "جمعيّ"» (موسى والتوحيد).
أخيراً، نقول: لا توجد سلطة سياسية بدون سيطرة على الأرشيف، إن لم يكن على الذاكرة. إن الدمقرطة الحقيقية (والغلاسنوست) يمكن قياسها دائماً بهذا المحك الأساسي: المشاركة في حرية الوصول إلى الأرشيف، تكوينه تأويله وتفسيره. وحرية الوصول إلى الأرشيف المنشق أو «الأرشيف المكبوت».
[كُتبت هذه المقالة لمناسبة عرض كتاب جاك دريدا: حُمّى الأرشيف الفرويديّ. الطبعة الأولى 2003 ترجمة عدنان حسن، دار الحوار للنشر، سوريا-اللاذقية، عن الطبعة الإنكليزية 1995: حُمّى الأرشيف-انطباع فرويديّ]

* كاتب سوري

مراجع:

-جاك دريدا: حُمّى الأرشيف الفرويدي، العنوان الأصلي: حُمّى الأرشيف-انطباع فرويديّ (1995)
-سيغموند فرويد: موسى والتوحيد (1938)، وضع المخطط الأول للكتاب سنة 1934
-فرويد: قلق في الحضارة (1929)
-فرويد: مستقبل وَهْم (1927)
-ميخائيل باختين: الفرويدية (1927)
-فراس السواح: الوجه الآخر للمسيح (2004)
-فرانز كافكا: الأعمال الكاملة 1 (1912-1924)
-لوسيان غولدمان: مقدمات في سوسيولوجيا الرواية (1963-1964)
-بخصوص الكلمة اليونانية أرخيه (ἀρχή) [Arche] والتي تعني (المبدأ والأُس)، انظر مارتن هايدغر: «ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ هلدرلن وماهية الشعر» (1929)