انتشرت أخيراً موجة من الأوبئة والحروب والفوضى، وانتشرت معها مشاريع التقسيم والتجزئة والتفكيك. ورافقتها أفكار ونظريات ومفاهيم متعددة، ما دفعني إلى طرح السؤال الأساسي التالي: أين الوحدة المجتمعية الفكرية الوجودية لمواجهة كل هذه المخططات؟ لو كانت الوحدة فاعلة على مستويات الوعي والإيمان والشعب لما ساد كل هذا الخراب والضياع والتشرذم. لذلك أين هي الوحدة من المقولات المحورية: الله، الأمّة والطبقة؟يتمحور الفكر العربي عامة حول مقولات عدة، أهمّها ثلاث، هي: الدين، الأمّة، الطبقة. ولكل منها مفاهيم ومدارس مختلفة تحدد مضمونها ونهج عملها ونظرتها إلى السلطة، كما هي متداخلة ومتفاعلة في ما بينها. وهي تتمركز حول الوحدة كاستهداف ومنطلق لمعتقدها ولممارستها: تؤمن الأديان السماوية على أنواعها، بوحدانية الله رداً على تعدّد الآلهة في الوثنية، وتعتقد المدارس القومية بوحدة الأمة في التاريخ والمرتجى، وكذلك التيارات الطبقية تلتزم بوحدة الطبقة في النضال والتغيير.
هذه الوحدانية التي تلتقي حولها المقولات الثلاث، لا تقتصر أبعادها على وحدتها الذاتية، بل تتعداها لتشمل المجتمع والعالم: تنطلق الأديان من وحدانية الله لتوحّد مجتمعها وعالمها، الملتزمون بوحدة الأمّة يستهدفون وحدة الشعب لبناء دولة قومية موحّدة، ودعاة وحدة الطبقة يعملون لقيام سلطة تزيل الفروقات لتوحيد المجتمع.
ركّزت هذه المدارس على التبشير والنضال من أجل عالمها الجديد. أمّا الواقع الراهن الذي تعيشه بما فيه من معوّقات التوحيد، فإنها قليلاً ما تتوقف عنده بالدرس والاعتبار. أين نحن من وحدة الدين والأمّة والطبقة؟ إنها وحدة في الصيرورة، ومرتجى تاريخي وخلاصي. لكن، لا يمكن التسليم به نظرياً فقط، لأن عقبات الوحدة تزايدت بشكل تصاعدي، وأصبحت محور الأفكار والصراعات.

تشظّي الواقع
السؤال المطروح الآن: أين هي وحدة الله والأمّة والطبقة في الواقع؟
أوّلاً: وحدانية الله أصبحت في الواقع أدياناً متعددة. برزت في كل دين مدارس ومفاهيم متناقضة واجتهادات متضاربة نتيجة مواقع المؤمنين في السلطة، ووجود قوى ومصالح متنابذة. فكرة الألوهة التوحيدية، تجسّدت على الأرض بجماعات مقسّمة ومذاهب متقاتلة ومشاريع تفكيك وخلافات وتنافر، ما يغلّف صراعاتهم على الأرض بمفاهيم عن السموات.
في المبدأ، الدين عامل توحيد إيماني، وتعبير عن توق المؤمنين إلى الوحدة والتحرّر من التسلط، لكن عندما أصبح عقيدة للسلطة، تحول إلى أداة تباغض وتغريب وتجهيل. لذلك لا يكفي فصل الدين عن الدولة، أو تجاهل الإيمان بالإلحاد، فلا بد من موقف ورأي في مسألة الأديان والإيمان.
من أجل تجديد الدين ليصبح عامل توحد يلغي التشظي ومعوقات التوحيد، لا بد من حركة إصلاح دينية لتصحيح المفاهيم وتنزيهها عن الدنيويات ومنافع المؤمنين.
ثانياً: وحدة الأمة ودولتها الموحّدة أضحتا في الميدان تقسيماً وتباعداً. الوحدة في العالم العربي مجرد خيال ومرتجى، طالما الواقع مجزّأ إلى كيانات سياسية متناقضة لا يجمعها إلا حرب البسوس، وهي أشد عداء في ما بينها من عدائها لأي عدوّ مشترك، كما هي عاجزة عن تحقيق حسن الجوار والحدّ الأدنى من التنسيق، ما يمهد إلى «نيو سايكس-بيكو»، فضلاً عن تفتيت المجتمع إلى جماعات طوائفية وعصبيات مناطقية وعشائرية تعمل على تأكيد خصوصيتها الفئوية، كمحاولة لتجسيد ذاتيتها في سلطة على قياسها.
أُعطيت للأمّة مفاهيم مختلفة لا بد من مقارنتها ونقدها بالتفصيل، لكننا سنكتفي في هذا المجال بالتمييز بين تصورات الأمّة المنقوصة التي تثير التعارض والفتن بين الجماعات، لعجزها عن تكوين وعي جامع يقنعها بهوية مشتركة، وبين تصوّر للأمّة غير إلغائي يشكل مشروعاً مقبولاً لوحدة الجماعات.
هناك مدارس قومية تحدّد الأمّة على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو الثقافة أو التاريخ والجغرافيا، منها ما يكتفي بعامل واحد، ومنها ما يدمج عاملين أو أكثر. وفي كل الحالات، فإن هذا النوع من التصوّر الجزئي يفسح المجال للتنافي وتفتيت الأمّة التي تتكوّن من جماعات متعدّدة الأديان والأعراق والثقافات. فإذا اعتمدنا أحد العناصر حصراً وألغينا غيرها، برّرنا خروج المكوّنات الأخرى من أساس الأمة لشعورها بالتهميش والعزل والإلغاء.
وبدل أن تكون الأمّة مشروعاً توحيدياً لكل هذه المكوّنات، بأديانها وثقافاتها ولغاتها وأعراقها المختلفة، تصبح حجة لتفتيت وحدة الشعب بمفاهيم «قومية» مجزِّئة.
هذا النوع من المفاهيم ينقض توق الأمّة للوحدة، لكونه يحمل في داخله نفي ذاته. ففكرة الأمّة بالأساس هي تصوّر جامع لوحدة الشعب والمصير.
يعيش العالم العربي في مرحلة ما قبل نشوء الجماعة الوطنية. وفي ظل غياب مفهوم الوطن والمواطنية يصعب على الوحدة الطبقية أن تحل مكان التناحر العصبوي


ثالثاً: وحدة الطبقة متعثّرة في ظل تعدد متناقض للمذاهب والكيانات والجماعات الأقلوية المتناحرة. كيف يمكن تحقيق وحدة الطبقة، في ظل تبعثر مهني وفئوي ونقابي على أرضية نظم اقتصادية مخلّعة وغير مستقرة، وكثيراً ما يتداخل التموقع الطبقي مع التفتت العصبوي، وأحياناً يتمظهر الصراع الاجتماعي بأشكال فئوية ومذهبية.
يعيش العالم العربي في مرحلة ما قبل نشوء الجماعة الوطنية. وفي ظل غياب مفهوم الوطن والمواطنية يصعب على الوحدة الطبقية أن تحل مكان التناحر العصبوي. الإنسان في المجتمعات المتخلفة عامة، يشعر بالتضامن مع ابن عشيرته ومذهبه، أكثر من شعوره بالتضامن مع ابن طبقته في الطوائف والأقوام الأخرى.
وحدة الطبقة قادرة، نظرياً ومصلحياً، على اختراق كل الانقسامات العمودية وتأمين الوحدة الطبقية على قاعدة إلغاء التمايزات الدينية والعرقية والأقوامية، لكنها في الواقع العملي، لم تتمكن من تحقيق غرضها، لكون العصبوية الأقلوية ما زالت ضمن تطور مجتمعنا وأوضاعه، أقوى وأقدر من الوعي الطبقي. لكن مع تطور المجتمع وتشابك مصالحه، ستلعب الوحدة الطبقية دوراً فعالاً على اختراق جدار الطوائف والجماعات والعصبويات.
حاول البعض أن يستعين بمقولة الطبقة-الطائفة، كمحاولة لتوزيع الطوائف على الطبقات، وهي محاولة جهيضة تجرّ الطبقة إلى موقع الطائفة الدينية، أو تسخّر الطائفة لمصلحة الطبقة. إنها محاولة توفيقية غير قادرة على تحقيق وحدة الطبقة من جهة، ولا وحدة المجتمع من جهة أخرى.

من التفتيت إلى الوحدة
أين تكمن مشكلة التعارض بين الوحدة نظرياً والتفتيت واقعياً؟
أولاً: تعدد الجماعات أمر واقع لا يمكن نكرانه، إنه معطى تاريخي ونتيجة للواقع الاقتصادي السائد الذي يتميز بالانغلاق والتفكك، وغياب وحدة السوق، والدورة الاقتصادية الشاملة القادرة على الاستيعاب والتناغم.
فضلاً عن العزلة الاقتصادية التي تعيشها الجماعات، هناك العزلة الجغرافية والعزلة الثقافية اللتان تولّدان العصبية الفئوية وتعمقان التباعد والتناقض. تبدأ الأزمة عندما يصبح للتمايز الثقافي الاجتماعي وجود سياسي مميّز، أي تصبح الفئة الأقلوية أو الطائفية حزباً سياسياً وقناة للسلطة.
إن تجاهل مشكلة الجماعات وطمسها لا يحلاّن المسألة، بل يكبتانها في اللاشعور الفئوي الضيّق حتى تخرج إلى الوعي من خلال الصراع السياسي على السلطة. في كل جماعة اتجاهات انعزالية تقسيمية، واتجاهات وطنية موحّدة. لذلك المطلوب هو تحقيق الوحدة على قاعدة التنوع. وحل المسألة الوطنية بوعي الهوية الوطنية الجامعة.
ثانياً: طبيعة السلطة، لا تتأزّم مشكلة العصبيات الأقلوية إلاّ في ظل أزمة السلطة المهيمنة. فعندما تعجز فئة حاكمة عن بناء دولة وطنية ديموقراطية حقيقية، تنشأ مشكلة الجماعات المحرومة والمهمّشة التي تنكفئ على ذاتها من أجل حلّ مشكلتها عبر تعزيز سلطتها الخاصة. إنّ مشكلة الهويات الفرعية والانتماءات الجزئية تكمن في فشل تطبيق الديموقراطية واحتكار جماعة معينة السلطة مقابل إقصاء وقمع جماعات أخرى، ما يخلّ أساساً بمسألة الحرية، التي تنعم بها جماعة على حساب جماعات أخرى.
إن أوليغرشية متعصبة ليس بإمكانها أن تتحول إلى أغلبية في دولة ديكتاتورية، في حين أن نخبة سياسية توحيدية يمكن أن تصبح أكثرية في دولة ديموقراطية.
عندما تفقد الدولة شرعية تمثيلها لكل الجماعات، وتمارس الاستبداد لفرض عقيدة السلطة الحاكمة النابعة من إحدى فئات الشعب وجماعاته، عندئذ تتأزم مشكلة الجماعات الأخرى وتتحول الوحدة إلى انقسام وتفكك ولا تُحل إلا ببناء نظام جديد عادل.
ثالثاً: التدخّل الخارجي، بسبب تعارض وتناقض الجماعات، تتدخل القوى الخارجية (العثمانية والصهيونية والغربية، تاريخياً، والآن الشرقية) من أجل استغلال هذه الوضعية وترسيخها لتمرير مشاريعها في تجزئة المنطقة وتفتيتها والهيمنة عليها ونهب خيراتها.

طريق الوحدة وتفكك الميدان
هذه هي أهم أسباب التعارض بين التوق إلى الوحدة وتشظي الميدان. فكيف الخروج من التناقض بين النظرية والواقع؟
كثيرة هي المفاهيم التي تدور حول الدين والأمّة والطبقة، وتساهم في التقسيم والتجزئة فيصبح التوحيد قسرياً وأسلوباً في القهر والقمع. لذلك لا بدّ من إعادة صياغة مشروع توحّد حقيقي، عبر تجديد مفهوم الدين والأمّة والطبقة على طريق مسار واعٍ متنام حر يحقق الاستيعاب والانسجام والتوحّد.
من جهة جماعات متعددة، ومن جهة أخرى وحدة متعثّرة، فأين الخلاص؟
الوحدة ليست فكرة معزولة عن الدين والأمّة والطبقة، وإلا تصبح متاهة وشعاراً أجوفَ. إنها مشروع وحدة المجتمع على أساس الجمع المتناغم لكلّ القوى والجماعات، في مشروع مشترك لبناء الدولة (الوطن، الشعب، النظام) كأداة توحيد تقوم على الأسس التالية:
1-التمييز بين ما هو لاهوتي وما هو اجتماعي؛ اللاهوتي عامل إغناء روحي وقيمي وتنوّع ثقافي تراثي، والاجتماعي عامل توحيد موضوعي مصلحي.
2-تعزيز الولاء الوطني القائم على وحدة الشعب والوطن في هوية جامعة.
3-إعطاء مضمون اجتماعي ديموقراطي للدولة: دولة المجتمع وليس دولة الجماعة، الدولة التي تشعر بشرعيّتها سائر مكوّناتها، على أساس توزيع عادل للثروة، وضمان الحريات العامة. سوء توزيع الثروة يعمق الفروقات بين الجماعات بدافع الحرمان والبؤس، فيتداخل التفاوت الطبقي بالتفتيت الفئوي فيتجزّأ بالتالي المجتمع.
الفكر العربي أمام خيارين: إما التضارب حول مفاهيم الدين والأمّة والطبقة، ما يؤدي إلى الفتن، أو التوافق على تصوّر مشترك للدولة دون إغلاق باب الحوار حول المقولات المختلف عليها.

* كاتب وناشر لبناني