كلّ مَن يحاول أن يبني عملاً سياسيّاً إنسانيّاً يخدم المصلحة العامّة في عالمنا العربيّ، يواجه أبعاداً لاعقلانيّة في عمله ينبغي أن يكون واعياً لها. ما من عقلانيّة تقول بأن ينتخب الناس في لبنان القادة أنفسهم الذين أودوا بهم إلى الهاوية. وإن كان القادة السامّون في السياسة والدين قد أودوا ببلادنا إلى تشظٍّ اجتماعيّ لم نعرفه قبلاً، فإنّ التعلّق الشعبيّ الطوعيّ بهؤلاء يحتاج إلى فهم لأنّ له منطقه رغم لاعقلانيّته. لدى كلّ إنسان حاجات أساس كالحاجة إلى الطعام والشراب والانتماء إلى جماعة، والأمان، والاعتبار الذاتيّ. والحاجة بالانتماء قد تعلو عن الطعام والشراب، إذ يمكن للإنسان أن يستغني عن شيء من طعامه وشرابه (أو حتّى عن كلّه)، ولكنّه لا يستطيع أن يستغني عن انتمائه إلى جماعة، وهو حتّى إذا خرج عن جماعته بشكل كامل (وهو أمر جدّ نادر) فإنّه يحتاج لا محالة إلى الانتماء إلى جماعة أخرى تؤمن بما يؤمن به. حتّى الأنبياء في مخالفتهم للجماعات التي نشأوا فيها كانوا يشعرون بأنّهم ينتمون إلى جماعة عابرة للعصور تنتمي إلى الخطّ نفسه، وهذا الشعور ما زال يحفّز كلّ مؤمن ناطقٍ بحقٍّ في مخالفة لانحرافات جماعته الإيمانيّة.
هذه الحاجة إلى الانتماء تزداد في عالم متغيّر وغير ثابت، والتغيير والثبات هما ميّزتا العالم الحيّ، الثبات هو بالفعل رديف الموت على هذه الأرض. هكذا فالحاجة إلى الانتماء تتضاعف في زمن كزمننا، حيث التغيّرات تُعْمِلُ قتلاً وتدميراً حول العالم وتهدّد وجودنا كبشر على هذه البسيطة، والاستعمار يتكالب علينا من كلّ حدب وصوب، والديكتاتوريّات تنهال علينا بالتحكّم والتحريم والتحليل، مع جرعة من فرص اللهو والتسلية أحياناً.
في ظلّ ظروف كهذه، يتصاعد القلق والشعور باللاأمان، ولهذا قد تدفع الحاجةُ للانتماء إلى جماعة، والشعور بالأمان في حضنها، الإنسانَ إلى التعلّق بأيّ شيء مؤكّد ويقينيّ، أو تبدو عليه مظاهر الثبات واليقين، وقد يبتدع الإنسان أمام قلقه من اللايقين يقينيّات مختلفة، منها اليقينيّات الدينيّة الطابع، وهي اليقينيّات الأسهل والتي كلّما كانت أكثر أصوليّة أعطت شعوراً أكثر حدّة بالثبات والأمان؛ ومنها اليقينيّات الثقافيّة الطابع، كشبكة العلاقات والهويّات والنشاطات، والانتماء إلى جماعة الزعيم المفدّى، والمواعيد الثابتة لظهوره على شاشة التلفاز (يوميّاً، أو في مناسبات معروفة)، والأعياد الوطنيّة السنويّة، والانتخابات بمواعيدها الثابتة. والانتماء للقائد يتعاظم كلّما كان القائد يَعِدُ باليقين: يقين في العقيدة، يقين في شرح المشاكل، يقين في الحلول المطروحة، يقين في الهويّة، يقين في رِفْعَة الانتماء إلى مشروعه الوطنيّ أو الإلهيّ، يقين في حكمته. أكثرنا قد يضحّي بفرادته وحرّيته من أجل اليقين في ظلّ قادة يصوّرون أنفسهم بأنّهم «أقوياء» ثابتون، وفي قلب جماعات نتخيّل دائماً أنّها ذات ماضٍ «ذهبيّ» ومجيد.
تشبّث الناس بالقائد المتسلّط و/أو الفاشل ليس كلّه كذباً ونفاقاً نتيجة الخوف. مهما تقلّب القادة وفشلوا، فإنّ أكثرنا مستعدّ لأن يوجد لهم التبريرات حتّى قبل أن يوجدوها هم لأنفسهم، فقط للحفاظ على هذا اليقين ودرء قلق اللاأمان. أكثرنا مستعدّ لأن يبني بيديه الأساطير حول القادة الذين أودوا بهم إلى الهاوية، فقط من أجل تلبية حاجاته الإنسانيّة إلى الانتماء، والشعور بالأمان، والشعور باليقين، كما وشعوره بالتقدير الذاتيّ، وبفهم ما يجري حوله من أحداث. بالطبع، كلّ تلك التلبية للحاجات هي تلبية وهميّة لأنّها تأتي عن طريق اختراع واقع وهميّ، وتعلّق بأوهام، واستقالة من المسؤوليّة الشخصيّة؛ بينما التلبية الحقيقيّة لهذه الحاجات المشروعة تأتي عن طريق فهم الواقع ومحاولة تغييره. من التضارب الإنسانيّ أنّ الإنسان الذي يتوق إلى الحرّية مستعدّ أن ينحر حرّيته مقابل الاستعفاء من القلق واللايقين المرافق لكلّ شعور بالمسؤوليّة الذاتيّة عن المصير.
تعدّد جان ليبمان بلومان في كتابها «جاذبيّة القادة السامّين»، ستّ أساطير يبنيها الأتباع حول القادّة، ونقدّمها هنا بخلاصة مطبوعة بقراءتنا الشخصيّة لمجتمعاتنا العربيّة. الأسطورة الأولى تُبنى حول الزعيم الخارق شبه الإله الذي يعلم ما لا نعلمه والأقوى منّا والأقدر (تلبية الحاجة إلى الحماية)، والذي يعمل لمصلحتنا في الظروف الأصعب (الحاجة إلى الانتماء والمحبوبيّة).
الأسطورة الثانية تشدّد على خطر مخالفة القائد، وتقول بأنّ القائد مختار من الله، أو من الأقدار، في مخالفته مخالفة للإيمان أو للأخلاق، وفي طاعته الأمان (الحاجة إلى الأمان، الانتماء، والمحبوبيّة)؛ وفي حالة الخسارة أو الفشل فإنّ الاطمئنان يأتي من التضحية في سبيل المبدأ المشترك الأعلى، إن كان الله أو التاريخ.
الأسطورة الثالثة تتمحور حول الخوف من مخالفة القائد، وهو خوفٌ من خسران مصادر الرزق (حاجات جسديّة، وحاجة إلى الأمان والانتماء)، فالقائد في النهاية لديه شبكات توزيع منافع، ولو أنّها جزءٌ بسيطٌ ممّا يخسره الناس جرّاء قيادته.
الأسطورة الرابعة تقوم على أنّ الأمور ثابتة، لا يمكن أن تتغيّر، وأنّ القيادةَ هي جزء من وجود القائد تقليديّاً وثقافيّاً، واتّباعَهُ جزءٌ من التقليد (حاجة إلى الأمان، والانتماء).
أمّا الأسطورة الخامسة، فتعتبر أنّ وجودَ القائد نعمةٌ، لأنّه يرفع عن الناس المسؤوليّة الجسيمة عن تقريرهم لمصيرهم طالما هو يقدّم لهم مصادر الرزق والحماية (الحاجة إلى أمان).
وأخيراً، فالأسطورة السادسة تَعِدُنا بالانتماء إلى جماعة القائد، فهي جماعة ذات مشروع بطوليّ متميّز نبيل يتطلّب التضحية، والانتماء إليها يجعلنا نبلاء، وأبطالاً، ومتميّزين، وهو ما يلبّي حاجتنا إلى الاعتبار والإنجاز (الوهميّين طبعاً).
لا يهمّ نفسيّاً إن كانت تلك كلّها أساطير والحقيقة مجافية لها، فكلّها وسائل لهروب أكثرنا من أمر واحد: مسؤوليّة الحرّية. الحرّية أمر صعب وتترافق مع تعب وقلق ومواجهة وتتطلّب شجاعة شخصيّة، لكنّ أكثرنا «يعيش» الشجاعة بتأمّل صورة جماعته في مرآة القائد.
الحاجات التي عدّدناها حقيقيّة ومشروعة، لكنّ الطريق إلى تحقيقها ينبغي ألّا يكون وهميّاً. الخلاص الحقيقيّ من كوارثنا لن يأتي من الأساطير، وإنّما من تحمّل مسؤوليّة الحرّية التي منحها الله للبشر لكي يكونوا مسؤولين، فيجتمعون على البِرّ، ويتفكّرون في سُبُل تغيير هذا العالم، بدءاً من بلادهم، ليكون «على حسب قلب الله»: مكاناً لبناء الأخوّة والإنسانيّة والمشاركة، وللدفاع عنهما. الطريق إلى الحرّية الحقّة طويل، وبابها بابٌ ضيّق، ولكنّ الحرّية تاج كرامتنا الإنسانيّة تستحقّ أن نطرق من أجلها الطريق الطويل وأن نلج الباب الضيّق.

* كاتب، وأستاذ جامعي