«ومن خصائص أسرتنا أننا نخجل من التعبير عن عواطفنا. نحب في صمت ونعجب في صمت أو نترجم الحب والإعجاب إلى أفعال. كذلك نخجل من الشكوى ونتصبّب عرقاً إذا ظهر ضعفنا أو نقصنا، وليس هذا من باب الكبرياء الزائف لأن الكبرياء الزائف يلهب الغضب ولا يثير الخجل. ونحن نتميز بالصبر على الشدائد، والمثابرة، والعمل عندنا عبادة. ولست أعتقد أننا متفرّدون بهذه الخصائص لأني وجدتها مجسّمة في الكثيرين من أبناء الصعيد»[لويس عوض، «أوراق العمر»، 1989]

بقدر ما كان المفكر والمترجم المصري الراحل رمسيس عوض (1929-2018) عَزوفاً عن المجتمع، ومرتاباً من «إغراء السياسة» والانزلاق نحو خدمة الحاكم؛ كانت الصِحافة المصريَّة منزويةً عنهُ منذ وفاته قبل أربع سنوات، وحتَّى مرور ذكرى وفاته الرابعة في مثل هذه الأيام. بعض الصحف لم تنشر خبر وفاته أبداً. بعض المثقفين فوجئوا بالخبر لأنهم ظنُّوه ميتاً أساساً. ولا تكاد تقرأ إلَّا النزر اليسير عن حياته الشخصيَّة ورثائه، ولا سيما أنَّه صاحب مقولة «محنة مصر في مثقفيها»، وأثار قُبيل وفاته جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافيَّة بسبب رفضه إعادة نشر بعض مؤلَّفات شقيقه الأكبر لويس عوض (1914-1990). منذ سنوات طويلة، انعزل رمسيس للكتابة، وارثاً عن والده «علاقاته الاجتماعيَّة المحدودة»، وأنتج ما يزيد عن 75 كتاباً بالعربيَّة، بين التأليف والترجمة، وكذلك نحو عشرين كتاباً بالإنكليزيَّة. ثم مات وحيداً، لا دُبُر له، شأنه في ذلك شأن شقيقه لويس. والأخير يُشير في مذكراته إلى أن زواج الأقارب سبب في عقمهما، وكذلك في جنون شقيقتهما مرغريت، وفي الوقت نفسه غزارة الخصوبة عند شقيقهما الأكبر فيكتور.
لا يمكن فهم مسيرة رمسيس خارج إطار نشأته وعائلته. وُلد لأب عمل موظفاً حكومياً مع الإنكليز في السودان، لا يتذكّره إلا قارئاً، وتعلّم القرآن مبكراً فأفاده لغويّاً، ثم تأثر بشقيقه لويس أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة فؤاد الأول، وأخذ عنهما الاهتمام بالكتب بعدما تركا له مكتبة ضخمة زاخرة بروائع الآداب العالميَّة. وغالب الظن أن رمسيس ولويس تأثرا بعمّهما إسحق عوض، أستاذ اللغة العربية والإنكليزية وصاحب كتاب «مرشد الأديب في فن الترجمة والتعريب». لكن الأكيد أنَّ رمسيس، على الأقل خلال الثلاثين عاماً الأولى من حياته، ترسَّم خُطى شقيقه الأكبر: تخلّيه عن اسمه الثلاثي (يستخدم شقيقاهما أسماء فيكتور حنا عوض وألفونس حنا عوض)، ودراسة اللغة الإنكليزيَّة وآدابها في جامعة فؤاد الأول (أصرّ لويس على ذلك مقابل رغبة رمسيس في الالتحاق بقسم الفلسفة)، وسفره للدراسة في المملكة المتحدة وتحصيله شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي من هناك، وحتَّى تقليد خطه، وأخيراً اقتحام عالمَي الفكر والترجمة. وربما يكون رمسيس قليلاً من هذا وقليلاً من ذاك، أيْ يطرح أفكاره من خلال ترجماته ويتكئ على الترجمة في إنتاج مؤلَّفاته. الترجمة بصفتها «حجر الزاوية في أي محاولة للرقيّ بالأمم». ويمكن القول أيضاً إنه أصبح لاحقاً يتماهى مع تراجم الشخصيات التي يختارها وعلى رأسها برتراند راسل.
لن تجد الكثير عن سيرته خارج كتاب «أوراق العمر». «ولمّا عشت معه في مطلع شبابه وجدته فتى جاداً يميل إلى التأمل خالياً من روح الفكاهة والمرح، مُحبّاً للعزلة والهدوء ولا يشارك في مجالس اللهو واللغو»، يكتب لويس في مذكراته. لكنه سرعان ما يُشير إلى أنَّ «ذكاءه فوق المتوسط، لكن لا حدّة فيه ولا إبداع وقد عوّضه دأبه في العمل عن نقصه في الإبداع». فوجئ رمسيس بهجوم شقيقه الأكبر في مذكراته. واضطرّه هجوم الصحافة عليه إلى مغادرة البلاد نحو التدريس في جامعة عدن ريثما تهدأ العاصفة الهوجاء. ولتفسير دوافع الهجوم، رجّح رمسيس أن إصابة لويس بسرطان الرئة وتسرّبه إلى المخّ هو سبب «تفكيره المُختل».
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. يقول لويس أيضاً: «وقد كنت في آونة كثيرة، بعدما خرج رمسيس عوض من قوقعة الجامعات الأكاديمية وبدأ يخاطب القراء منذ الستينيّات أحسُّ بأنه يغار مني في سريرته ويحسن إخفاء هذه الغيرة تحت قناع هدوئه [و] كان يغار منّي لشعوره بأنه مهما حاول فلن يصيب ربع ما أصبته من تأثير في المثقفين وفي الرأي العام سواء بالقبول أو بالرفض، ليس في مصر وحدها ولكن على مستوى العالم العربي، بل وبين مثقفي أوروبا وأميركا المهتمين بالعالم العربي». ويضيف: «لكنه كرجل عاقل، كان دائماً يحاول أن يضبط هذه الغيرة لأنه يعلم – بغض النظر عن اختلاف المواهب ودرجات العلم – أن هذا التأثير الإيجابي أو السلبي القوي لا يكتسب إلا بالنضال والتضحيات، ولا يمكن أن يحصّله أحد، وهو يمشي مثله دائماً بمحاذاة الحائط ويخشى المجازفات أو بطش الأعداء». صحيح. كان رمسيس يخشى المجازفات على طريقة شقيقه الأكبر، مثل تلك المتعلقة بتشبيه القومية العربيَّة بحركة النازيَّة في ألمانيا، ما استوجب تقريعاً وردوداً طويلة من رجاء النقاش تشرحُ بديهيات البديهيات في أواخر السبعينيات (راجع: «الانعزاليون في مصر: رداً على لويس عوض وتوفيق حكيم وآخرين»)، أو مجازفته الأخرى في كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربيَّة».
بدلاً من ذلك، فضّل رمسيس ما يسمّيه العمل شبه الموسوعي، فأنتج «التاريخ السري للمسرح قبل ثورة 1919» (1973) و«اتجاهات سياسية في المسرح قبل ثورة 1919» (1979) و«موسوعة المسرح المصري الببليوغرافية» (1981)، في إطار معركته مع توفيق الحكيم ومسرحياته الأولى (راجع: «توفيق الحكيم الذي لا نعرفه» و«ماذا قالوا عن أصحاب الكهف»)، ولا سيما أنَّهُ فنَّد من خلالها نسبة فكرة «اللغة الثالثة» إلى الحكيم ووجد من سبق أن نادى بها منذ أوائل القرن العشرين. وبالطريقة نفسها تعامل مع الأدب الروسي خلال فترة البيريسترويكا وتفكُّك الاتحاد السوفياتي، دفاعاً عمّا يسمّيه الاشتراكية الديموقراطية (اقرأ: الديموقراطية الاجتماعية) ضد «الاشتراكية الشمولية»، وبحثاً عن الأثر الغربي في الثقافة السوفياتيَّة. وكذلك فعل مع مواضيع شتَّى متعلقة باليهود والإلحاد والرقابة في عقد التسعينيات، وصولاً إلى إنتاج سلسلة محاكم التفتيش في أعقاب مذبحة الأقصر سنة 1997، ومنها إلى سلسلة معسكرات الاعتقال النازيَّة. غنيٌّ عن القول إن رمسيس منذ أوَّل مقالاته في الستينيات كان دائماً يعود باستمرار إلى برتراند راسل، وظل حتَّى قبل وقت قصير من وفاته يُردّد ما قاله الفيلسوف البريطاني قبل أكثر من نصف قرن، عن ضرورة نبذ الحرب أو توقُّع «الفناء للجنس البشري»، رغم اختلاف السياقات التاريخيَّة. راسل ثيمة ثابتة في معظم مؤلَّفاته وترجماته. «بدل ما كنت ألّه لويس لقيت إله غربي»، يشرح ما يمكن أن يكون سبباً في تهجُّم الأخ الأكبر عليه، بعدما تكفل الأخير بتربيته والإنفاق عليه.
لم تعد سيرة رمسيس عوض في سنواته الأخيرة مقتصرة على ما كُتب عنه في «أوراق العمر» فحسب، وإنما مرتبطة أيضاً بالكتاب نفسه. فبعد وفاة لويس آلت حقوق ملكية مؤلَّفاته إليه، ورفض في أكثر من مناسبة التنازل عن حقوق مذكراته، ما أثار حفيظة الكتَّاب والناشرين في مصر. هكذا، مَنع إعادة نشر كتاب الأخ الأكبر قبل مرور سبعة عشر عاماً أخريات (أيْ مرور خمسين عاماً على إصداره) حتَّى يصبح مشاعاً إبداعياً. بيد أنَّهُ بموازاة ذلك، امتنع نفسه عن إصدار مذكراته كي لا يتعرّض لشقيقه بسوء. إلى ذلك، وبرغم استغراقه في التغريب وحنينه الرومانسي المفرط إلى ليبراليَّة الثلاثينيات والأربعينيات وامتعاض القُرَّاء اليوم من بعض ترجماته الأدبيَّة، يستحق رمسيس عوض شيئاً من التقدير وتسليط الضوء عليه «في الظل»، وهي تهمة طالما لاحقته وذنب لم يغتفر له أبداً. ذنب أن تكون الشقيق الأصغر للويس عوض.

* صحافي ليبي