وصلتني إلى أميركا مذكّرات جولييت المير من صديق العمر منذ أيام الطفولة بدر الحاج. نشأنا معاً في لبنان إبّان حقبة مضطربة. كنتُ طريّ العود كي أستوعبَ نضالات الحزب السوري القومي الاجتماعي، فبدت لي آنذاك سياسية، بيد أنها في الحقيقة كانت محض وجوديّة، إذ كان كيان سوريا الكبرى على المحكّ، تاريخياً وتقرير مصير وثقافياً.في تلك الحقبة لم تدرك العقول السياسية قصيرة النظر الأخطار المحدقة الناجمة عن تقسيم سوريا الكبرى بمنح مناطق منها إلى غير السوريين وتجزئة ما بقي منها إلى دول خاضعة. كان جوهر عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي التي نمّاها ورعاها أنطون سعادة التصدّي لهذه التجزئة الكوارثية.
إن مذكرات جولييت المير بأسلوبها الراقي تسرد بإتقان تفاصيل التبعات السياسية والتاريخية والإنسانية لنضالات الحزب السوري القومي الاجتماعي في سعيه إلى نهضة سوريا الكبرى. ولعلّ أكثر ما شدّني إلى هذه المذكرات، إضافة إلى تفاصيلها التاريخية الدقيقة، الدروس الإنسانية الواعية المرافقة بين دفّتي المذكرات، تماماً كما في تعبير لويس باستور: «في حقول الملاحظة فإن الصدفةَ لا تستهوي إلّا العقول الواعية»، وعليه فإن أسلوبية جولييت المير الأدبية الانطباعية أضفتْ على قماشة المذكرات أربع صور لا تُنسى كلّلت سنوات حياة تلك الحقبة التأسيسية.
الصورة الأولى هي الشخصية، وكما قال هيراقليطس اليوناني (535-475 ق.م) «الشخصية هي المصير»، فإن شخصية مؤسس الحزب أنطون سعادة وشخصية الممرّضة جولييت المير كانتا صورتين متطابقتين في المزاج والعذاب. خبرَ الاثنان في نعومة أظفارهما مجاعة الحرب الأولى المدمّرة في لبنان، إضافة إلى فقدان الأهل، فالهجرة في شبابهما وخسارة موطنهما. إن وصف جولييت المير الدقيق لرجال وأطفال عراة مشرّدين، يفتّشون عن الطعام في المزابل، باحثين عن مأوى أو الموت المحتوم في بيوت طرابلس المهجورة، لهو وصفٌ يُدمي القلوب. وفي صباهما كانا لا يعرفان الراحة ومندفعين غير خائفين بلا كلل أو ملل في خدمة القضية الأوسع لإنقاذ وطنهما من المطامع الأجنبية. وحالما وحّدا القوى وقاما بمهمّات الحزب، انصهرا في حبّ جارف، وبالفعل برهنت شخصيتهما على مصيرهما المحتوم.
الصورة الثانية عقائدية. قال ڤيكتور هوغو (1802-1885) «نستطيع مقاومة غزو الجيوش لكننا لا نستطيع مقاومة غزو الأفكار. وبالطبع ليس هناك من يستطيع مقاومة فكرة متى حان وقتها». ومن هنا فإن فكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي الداعية إلى نهضة سورية الكبرى لم يكن ممكناً مقاومتها. وكان للأعداد المتزايدة والمتفانية بأعضائها ما زرع الرعب في قلبي الحكومتين اللبنانية والسورية.
الصورة الثالثة هي صورة القساوة. إن وصف انتهاك حقوق الإنسان وصراخ الخاضعين للتعذيب اليومي وإنزال عقوبة الإعدام على وجه السرعة ما كشفَ عن الممارسات الهمجيّة واللاأخلاقية للحكومتين السورية واللبنانية، كانت القساوة هي الشاهد المعلَم لهاتين الحكومتين البائستين، ما أشاع على الفضاء الأخلاقي إفلاسهما الفكري والروحي. المتنوّرون يُعاملون أعداءهم باللين والكرام قليل كما قال السموأل. أما الجهلاء فيلجأون إلى القساوة إذ أنها اللغة الوحيدة التي يفهمونها. وقد عبّرت عن ذلك جولييت المير في الفصل الخامس من مذكّراتها فرأت أن الجهل أعتى من العمى إذ يمكن أن يفقد المرء البصر ولكنه يحتفظ بالبصيرة، إلا أن الجهلة عطلٌ من البصر والبصيرة.
الصورة الرابعة هي صورة القوّة. في رسالة منه إلى المفكّر الكنسي ماندل كرايغتون قال اللورد آكتون: «القوة تؤدي إلى الفساد، والقوة المطلقة تؤدي إلى فساد مطلق وتفسّر حتمية الفساد الناجم عن السلطة. ليس هناك أسوأ من بدعة تبرئ صاحبها منها». إن روح الفساد النتنة لدى المسؤولين السوريين واللبنانيين حرية بجعل القارئ يأنف من قرفها.
تفضح مذكّرات جولييت المير سفاهة الأنظمة الجاهلة التي انتهكت حقوق الإنسان في قساوتها وتعذيبها وإجحافها وخداعها وقهرها الضعفاء. وأفصحت تلك المذكرات عن كيفية لجوء الجهلة باستخدامهم قواهم في تحطيم أرواح ضحاياهم الأبرياء. كما تظهر لنا أيضاً القوى العارمة للإيمان العقائدي وكيف أن هذا الإيمان عمل على صمودها مع زوجها ورفاقهما في الحزب ومقاومتهم واحتمالهم وانتصارهم على الانتهاكات الفظيعة التي لاقوها على أيدي السلطات الشرعية. وعليه فهي تنهي الفصل التاسع عشر من مذكّراتها بقولها أنه علينا العمل بصمت، ذلك أن الذين أدركوا جوهر قضيّتهم لهم الآن مسؤولون تجاهها فلا يمكن خذلانها، ففي كل ساعة من اليوم أتذكّر ما قاله لي الزعيم: إن العذاب العظيم الذي لا مثيل له في التاريخ يلمّ بكلّ روح عظيمة بيننا.
لا يزال صوت أنطون وجولييت سعادة يُسمع صداه عبر أروقة التاريخ، ما يعيد إلى الأذهان ما قاله الشاعر وليم وردسورث (1770-1850) في قصيدته «أغنية إلى الإيعاز بالخلود»، حيث نبذ الأسى وتمسّك بالأمل في أفكار اليقظة التي تشفي العذاب بالتعلّق بالإيمان الذي يقهر الموت وبمنحى فلسفي يكشف عن المعاني النبيلة في الحياة:
مع أنه ليس هناك ما يستعيد لحظة البهاء في العشب، ومجد الزهرة، فلن نقنط، بل نجد الحزم في ما بقي، في العطف السرمدي الذي كان ويبقى، في الأفكار المريحة الناشئة عن العذاب البشري، في الإيمان الذي يغالب الموت، في السنوات التي تستعيد العقل الفلسفي.